خارج عن السيطرة

Mosquée Ez-zitouna 04حدثني أحد الأصدقاء قال:

بعد رحيل بن علي اعتلى المنبر في المسجد الذي كنت أصلي به الجمعة رجل لا أعرفه، لم أسأل عن مآل الخطيب السابق فقد كان واضحا أنه أجبر على البقاء في البيت بعد أن عصفت به رياح لم يتهيأ لها.

تكلم الخطيب الجديد يومها فارتجل الكلام ارتجالا، ونظم الدعاء بطلاوة آسرة، كان صوته يعلو وينخفض، يسرع ويبطئ، يتلون ويتموج فانشدّت الأنظار إليه من أول كلمة نطق بها إلى أن أقام الصلاة، وما هي إلا أن فرغ الجمع من الركوع والسجود والدعاء فاستقبلهم الإمام الخطيب قائلا يا عباد الله، لقد بلغنا من الإخوة المصلين اقتراح بأن نُغــيّر وقت هذه الصلاة فنجعلها في الواحدة بعد الزوال فما قولكم؟

اشتدّ اللغط في المسجد وعلا هرج المصلين استنكارا لهذا الاقتراح، فقد حرص تنظيم المساجد منذ “العهد البائد” على أن تُصلى الجمعة في وقتين مختلفين: عند دخول الظهر وعند نهايته فتتصل بصلاة العصر وهو الأنسب في القيظ، وكان المرء يختار الوقت المناسب بحسب مهنته إذ لا تعطل أعمال الناس أيام الجمعة في تونس المحروسة إلا مساء خلافا لما هو سائد في الشرق.

ولما بدا واضحا أن الأمر لا يحظى بإجماع الحاضرين قال الإمام الجديد: لنحتكم إلى رأي الأغلبية، أو ليست تلك هي الديمقراطية، وليرفع يده كل من يرغب في تغيير وقت الصلاة في هذا المسجد! لكن الهرج تزايد واللغط اشتدّ وامتنع الحاضرون وكانوا بين جالسين وواقفين عن استفتاء الإمام، فما كان منه إلا أن صاح من جديد: يا عباد الله لا يجوز هذا اللغط في بيت العبادة، لنترك الأمر كما هو ولنؤجل النظر في اقتراح الإخوة إلى حين.

توقف صديقي قليلا ثم قال: وفي الأسبوع الموالي تغير وقت الصلاة وارتفع أذان الجمعة في الواحدة بعد الزوال، فانقطعت عن هذا المسجد الجامع وصرت أقطع عشرات الكيلومترات بحثا عن الصلاة الثانية ولم يتيسر لي سماع خطبة أخرى لهذا الإمام الخطيب إلا في مناسبتين اثنتين علقتا في بالي وكانتا الدافع الأكبر لحديثي هذا.

ازداد شوقي لمعرفة الحكاية بعد أن خلت أنها بلغت النهاية فاستسلمت لحديث الصديق وأصغيت بانتباه، قال: عدت إلى ذلك المسجد مرة في عطلة عيد الأضحى، يومها رفع ذات الإمام يديه إلى السماء متضرعا في خاتمة الخطبتين: اللهم عليك بالعلمانيين، شتت شملهم وأبد نسلهم… فتملكني خوف شديد من أن تفلت مني كلمة آمين وأنا أعتبر نفسي رغم مواظبتي على الصلاة أحد العلمانيين. أما الخطبة الثانية التي حضرتها إثر ذلك فكانت القطرة التي أفاضت كأس صبري، لقد فوجئت يومها بأذان واحد يرفع للجمعة ولم يخرج أحد كعادته لينبه المصلين بأن من لغا لا جمعة له كما درجت العادة في المساجد التونسية وعلمت آنفا أن رفع الأذان ثلاث مرات هو في المذهب الوهابي بدعة عثمانية وكل بدعة ظلالة وكل ظلالة في النار، وأن هذه البدعة قد ألغيت من هذا المسجد ، ليس هذا مهما فقد كانت خطبة الإمام يومها  أشبه بكابوس لم أفق منه حتى الساعة، لم يقتصر فيها على الدعاء على العلمانيين بل أضاف فيها حديثا عن الجهاد والجهاديين وبرأ نفسه من حث الشباب على الجهاد في سوريا لأن تونس على حد قوله أولى بجهاد شبابها، وقال لا فظ فوه: ينتظر العلمانيون منا أن نعود إلى السجون ويعودوا هم إلى سدة الحكم هيهات هيهات، لن يكون ذلك إلا أن تغرق البلاد في بحر من الدماء، فغايتنا التي لن نتنازل عنها هي تحكيم شرع الله طال الزمن أم قصر.

عند هذا الحد سكت صاحبي سكتة طويلة، خلت أنها استغرقت دهرا وأضاف: لقد سألت عن ذلك الإمام وعن الملّة التي ينتمي إليها فقيل لي إنه من أحد التيارات الإسلامية المعتدلة ! وهو معروف بانتسابه إلى الجناح الأكثر تشددا داخلها ! أما عن مستواه العلمي فهو لا يتجاوز الثالثة من التعليم الثانوي.

قلت لصاحبي لعلك قد انتهيت بمغادرة هذا المسجد الجامع إلى غير رجعة فالأئمة الخطباء تتباين مستوياتهم وتختلف، لكنه رمقني بنظرة تحمل أكثر من معنى: لقد أحدثت في خطب ذلك الرجل ندوبا عميقة لم أبرأ منها بعد، لقد احتقرت نفسي جالسا بين يدي ذاك الإمام ومن هم في درجته ونوع تفكيره فلعله أن يكون قاتلي من غير أن أدري لقد فقدت الرغبة في الصلاة وأخشى أن ينتهي بي الأمر إلى ما لا تحمد عقباه.




الاتجاه الظلامي في أفكار يمينة الزغلامي

يمينة الزغلامي

يمينة الزغلامي

تحولت قضية مضيفة الخطوط التونسية والحجاب إلى قضية رأي عام بعد أن تصدّت النائبة عن حركة النهضة بمجلس نواب الشعب يمينة الزغلامي للدفاع عن المضيفة ضد قوانين المؤسسة التي تشغلها. ويمكن إجمال آراء النائبة المحترمة في ثلاث نقاط: أولها ضرورة أن تتناسب الأنظمة الداخلية للمؤسسات مع ما جاء في الدستور، ثانيا تنزيل القضية في إطار حرصها والمجلس على الحقوق والحريات، وثالثا التزامها بأن يتبنى نواب المجلس قضية أي مواطن يلجأ إليه أيا كان انتماؤه السياسي وتنطوي هذه النقاط الثلاث على مغالطات استماتت النائبة في تغطيتها بالانفعال والصراخ والإيحاء بأن السعي حثيث إلى إعادة المنشور 108 الذي استخدم سابقا لمنع الزي الطائفي.
المغالطة الأولى تكمن في سحب مبدأ حرية الملبس الواردة في الدستور على الأنظمة الداخلية للمؤسسات، إذ تمثل هذه الأنظمة عقودا بين المؤسسة وموظفيها، والعقد شريعة المتعاقدين بما يجعل السياق مختلفا كليا عن أي تدخل سياسي أو إيديولوجي باسم السلطة، وما ينزع عن الأمر أي مظهر تعسفي هو البُعد الوظيفي للملبس، فالمظهر هنا هو أداة عمل مضيفة الطيران الأولى ولكل شركة طيران صورة خاصة تحرص عليها. وتتعلق المغالطة الثانية باعتبار النائبة أن القضية قضية حقوق وحريات وأن تدخلها للدفاع عن المضيفة إنما هو بسبب الخوف من التراجع عن المكاسب التي تحققت بفضل الدستور، إذ ليس يعرف لهذه النائبة ومن هم في صفها بمجلس نواب الشعب والمجلس التأسيسي مواقف تذكر في سياق الدفاع عن الحريات، بل إن كل فصول الدستور التي تدخل ضمن هذا الباب ما كانت لتنجو من مماحكات النهضة ودعواتها إلى فرض استثناءات بداعي تناسب حقوق الانسان الكونية مع الشريعة الإسلامية، كما لا يعرف للإخوان المسلمين في أي بلد يستفحلون به نضالٌ من أجل الديمقراطية والحرية إلا أن يكون مطيتهم في التمكين، من ثمة فإن الحرية التي يدافع عنها هؤلاء هي حريتهم هم في السيطرة على المجتمع وفرض الوصاية عليه. أما المغالطة الثالثة فتكمن في التزام النائبة بتبني قضية أي مواطن مهما كان انتماؤه السياسي فهي تستولي هنا بكل وضوح على جميع السلطات وتشلُّ أيدي الإدارة والقضاء وسائر المنظمات الموكول لها الدفاعُ عن حقوق العمال، وليس ذلك من مشمولات المجلس المختص في التشريع أساسا، أما الاستقواء بالمجلس ونوابه من قبل الموظف في قضية إدارية بحت فيدخل ضمن توجيه الرأي العام وإغراقه في قضايا وهمية يؤججها الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي بينما لم تمرّ بمراحل التظلّم الأولى بعد عبر الإدارة والنقابة والقضاء، وما مرورها بهذا الشكل المفاجئ من قمرة القيادة في الطائرة إلى أحضان يمين الزغلامي في المجلس الا مبعث للريبة ولا شك!.

يبقى السؤال في النهاية، هل يتعلق الأمر بموقف فردي من النائبة يُفسّرُ بغلبة الطبع على التطبع، أم هو شغل سياسي متقن من جناح صارم داخل النهضة في وقت انشغل فيه الجميع بمواقف شيخ الحركة وتنازلاته الرشيقة حتى إذا ما تعلق الأمر بسؤال صحفي ماكر عن حقوق المثليين في بلد مسلم!




عامر بوعزة: زمن الأحلام الكبيرة ولّى

حوار مع الشاعر عامر بوعزةتونس – الحبيب لسود – دبي الثقافية
هو واحد من جيل شعري تفتحت قريحته خلال الثمانينات من القرن الماضي ورسّخ حضوره في التسعينات بتجربة متفردة تتجه نحو التكثيف والاختزال والتنوع ، فالتقارب بين الأسلوب الفوتوغرافي والتعبير الشعري شديد الوضوح لديه سيما في النصوص القصيرة التي تقدم المشهد اليومي بشكل مختلف، والأفكار السياسية والاجتماعية أكثر شفافية في نصوص يمكن إدراجها ضمن فن الكوميديا السوداء ، الكتابة لدى الشاعر عامر بوعزة ترتبط بالواقع ارتباطا متينا حيث الأزمنة والأمكنة والوجوه مألوفة لكنها تصير كائنات لغوية مفعمة بالدلالات في عالم شعري يشبه الحلم.

وبوعزة الذي يقيم الآن في دولة قطر حيث يعمل في قطاع الإعلام من مواليد 1966 بتونس العاصمة حائز على الماجيستير في اللغة والآداب العربية وأنتج في الإذاعة والتلفزيون برامج ثقافية واجتماعية وسياسية عديدة توج بعضها محليا وعربيا، صدر له (غابة تتذكر أحزانها) دار إنانا للنشر تونس 2011،و الأنين المتصاعد من أحلام النيام –دار شمس للنشر والإعلام بالقاهرة 2014، وصدر له مؤخرا كتاب نقدي بعنوان فاته أن يكون ملاكا وهو دراسة نقدية في سيرة محمد شكري الذاتية ، عن دار البدوي للنشر والتوزيع 2015، وينتظر أن يصدر له قريبا كتاب نثري بعنوان: نظرية الموز، صور ومشاهد من زمن بن علي.
معه كان هذا الحوار

في مجموعتك الشعرية الأنين المتصاعد من أحلام النيام الصادرة في 2014 عن دار شمس للنشر والتوزيع بالقاهرة نلمس تجذيرا للواقعي واليومي في النص الشعري، فضلا عن المراوحة بين التفعيلة والنثر، فما هي الخلفية النظرية التي تصدر عنها هذه التجربة؟

 منطلقات الكتابة الشعرية عندي هي الرؤية والاختلاف، فما يميز الكاتب والفنان عموما هو قدرته على اختراق الأشياء والعالم، من ثمة تتحدّد المسافة الفاصلة cover-final-02بين المجاز والواقع، تلك التي يسميها بعض النقاد المحدثين بؤرة التوتر، لذلك فإن النص يعبر بالضرورة عن الواقع ويحيل عليه ويتحاور معه وأحيانا يلقي الضوء على ما هو معتم فيه ويتجاوزه بالرؤيا. في نص “تلفزة أولاد أحمد” مثلا صورة من الواقع الكافكوي الذي انتهت إليه المدينة في مرحلة الاستبداد السياسي حيث يتجلى الموات في أكثر من صورة كما يتجلى العدم في انتفاء القيمة، ولذلك يقارب هذا النص النثري حالة اللامعنى فيما يشبه الكوميديا السوداء إذ تتساوى الأضداد وتنتفي الفوارق بين المتضادات تحت وطأة القحط، كما في “كشك عبد السلام” التي تقترب أكثر من مناخات الثورة وتقدم صورة المنتحر حرقا في مواجهة ميؤوس منها مع السلطة القائمة. النصوص كلها تنطلق من مشاهدات ووقائع ولحظات أو حالات ما لكنها تتحوّل إلى مشهد لغوي يلعب فيه الإيقاع دورا أساسيا فالغنائية تظل من أساسيات التعبير الشعري في تصورنا حتى وإن كانت بعض النصوص تنتمي إلى مجال النثر فهي تمتلك غنائيتها الخاصة كأن تستبطن إيقاع الشوارع وفوضاها. الكتابة تعبير عن الواقع والذات، لا يخرج شعرنا العربي الحديث عن هذه الخلفية خصوصا وأن عصرنا هو عصر الرواية ويشهد تراجعا حادا في الإقبال على الشعر.

واقعية النصوص من المجموعة الأولى إلى الثانية مرتبطة بالأسماء والأماكن وأحيانا الأزمنة، فكيف يمكن للشعر وهو لغة المطلق أن يتصل بهذه العناصر دون أن يقع في المباشرة؟

لا معنى للغة مجردة من ذاكرتها، والشعر عندي احتفال لغوي بالعالم، من ثمة كانت الوجوه والأسماء والنصوص والوقائع المرتكزات الأساسية لنصوصي الشعرية منذ المجموعة الأولى (غابة تتذكر أحزانها)، الاشتغال الحقيقي على النص هو تحويل اليومي إلى لحظة شعرية خالدة وتأصيل النص في ظرفيته لا يختلف ومعدن الشعر الأصيل، نحن ورثة ذاكرة شعرية لو تأملناها جيدا لوجدنا أنها كانت تعبر عن عصرها أكثر مما ترفرف في المطلق لكن قوتها الإبداعية هي التي جعلتها تتجاوز عصرها وها نحن نعاود تجربة الأسلاف برؤى مغايرة وحيل فنية تنتمي إلينا لكن الجوهر واحد.

يشار دائما إلى غياب المثقف والمبدع في تونس عن سياق ثورته التي كانت منطلقا للربيع العربي مما جعله يتنازل عن دوره الريادي في إحداث التغيير والتبشير به بل يتهم المثقف بتزييف الرأي العام فكيف تعيش هذه المفارقة؟

couverture3_front copyأعتقد أن هناك خلطا مُتعمّدا لدى من يسعون إلى الاستحواذ على المنجز الثوري بين التبشير بالتغيير وإحداثه فعليا في الواقع، الشعراء والفنانون والمثقفون لا يمثلون خطا واحدا بل فسيفساء من المواقف والاتجاهات والأفكار، هناك خط الموالاة والتمعش من الاستبداد وهناك خط الإخلاص الحقيقي للفن والنظر إلى الواقع بعمق نقدي. لم يكن النص الإبداعي في منأى عن الحراك الثوري وما حدث على أرض الواقع نجده مبثوثا في المسرح والسينما والقصائد وحتى الأغاني، ولكن تعوزنا اليوم القراءة الهادئة والموضوعية لهذه المدونة التي كتبت عن الاستبداد وبشرت بالخلاص، هناك أزمة قراءة في مجتمعنا ولكن تنضاف إليها اليوم أزمة قطيعة سياسية بين اتجاهات لا تريد الاعتراف بدولة الاستقلال وبأكثر من نصف قرن من التراكم الثقافي والاجتماعي نتيجته هذا الواقع الذي نعيش. بالنسبة إليّ أؤكّد أن نصوص مجموعتي الأخيرة الأنين المتصاعد من أحلام النيام كتبت خلال السنوات التي سبقت الثورة وفيها إرهاصات لما حدث في النهاية، علاقة الكتابة بالثورات لا تقتصر على الحماسة والتحريض هي أيضا قراءة الواقع والنفاذ إلى عمقه أيضا.

هذا عن الاستباق والاستشراف لكن كيف تبدو معايشة الشعر العربي للتحولات التي تعصف بالمجتمع في ظل الربيع العربي؟

السؤال لا يختص به الشعر بل هو مطروح على مختلف التعبيرات الفنية، فالتحولات المجتمعية سريعة جدا وما نشهده اليوم يعادل ما عاشته أجيال أخرى في عقود كاملة من ثمة كان المأزق في علاقة النص الإبداعي عامة بالواقع المتحوّل، ونحن نعيش في ظل هذه المتغيرات انحسار الضوء على التجارب الكبرى وخفوت وهجها الذي كان منذ نصف قرن زمن الأحلام الكبيرة، لكن لا أعتقد أنه ثمة ما يستدعي الزج بالتجربة الشعرية في خضمّ هذه الدوامة العنيفة فالشعر ينظر إلى الوجود في كليته ولا يقتصر على معايشة الآني في ظرفيته وتاريخيته، ما نعيشه اليوم لم يتجلّ بعد في قصائد مدهشة ومجددة والتجارب القليلة التي تفاعلت مع الثورات لم تخرج عن دائرة الانبهار والوصف ومحاولة النفاذ إلى عمق اللحظة بسرعة.

 نشرت كتابك الثاني في القاهرة وأنت مقيم في الخليج العربي فكيف ترى حضور الإبداع التونسي في المشهد العربي عامة؟

عامر بوعزة

عامر بوعزة

صعوبات النشر متشابهة في مختلف البلدان العربي ولكن هناك تقصير واضح من قبل الأجهزة الثقافية الرسمية في تونس في التعريف بالإنتاج الثقافي الوطني في المشرق والخليج وحضور المؤسسات الرسمية في معارض الكتاب ضعيف وأحيانا منعدم، لا يمكن الاطمئنان بسهولة إلى الإجابات التقليدية عن واقع التبادل الثقافي العربي والتذرع بقلة القراءة، فالخارطة الثقافية العربية بصدد التحول والانزياح ومراكز القوى التقليدية تتراجع لفائدة مراكز جديدة، الخليج العربي اليوم يمثل نقطة جذب هامة وذلك ما لم تنتبه إليه السلط الثقافية عندنا، هناك عمل كبير ينتظرنا لتوصيل التجارب المحلية إلى الأفق العربي وتجاوز هذه الثنائية التقليدية بين المشرق والمغرب.

أن يكون الشاعر إْعلاميا هل يؤثر ذلك بالسلب أم بالإيجاب على تجربته ؟ ثم آلا ترى أن الصحافة تأخذ الكثير من وقت الشاعر بما قد يتسبب في هيمنة قلم الصحفي على قلم الشاعر ؟

أن تكون إعلاميا معناه أن تكون دائما في قلب الحدث، تعايش عصرك لحظة بلحظة دون أن تجد الوقت الكافي للتأمل والابتعاد مسافة كافية لتعميق الرؤية لهذا يصعب جدا التوفيق بين الكتابة الشعرية والعمل الصحفي، الصحافة تهيمن على روح الشاعر وتأخذه بعيدا عن الينابيع الأولى بل وتزج به في دوامة عنيفة. لهذا السبب لا يمكن للإعلامي أن يكتب بغزارة أو بإسهاب وتتكثف الكتابة بشكل يجعل النص أقرب إلى الومضة. لكن الشعر يلقي دائما بظلاله على النص الصحفي ويتسلّل إلى التقارير في المفردات وإيقاع الكتابة وهذا أمر إيجابي.




عدالة ساكسونيا

عدالة ساكسونيافي القرن الخامس عشر عرفت ولاية ساكسونيا الألمانية قانونا شهيرا ارتبط باسمها على مرّ العصور، وهو قانون يميّز بشكل سافر بين النبلاء والفقراء في تطبيق العقوبات، فالفقير الكادح يُعدَمُ في الساحات العامة بقطع رقبته، أما الغني ذو الحظوة والمكانة فيُعدمون ظلَّه!

وقضية نقابة التلفزة التونسية مع شركة “كاكتوس” لم تخرج بعد من نطاق عدالة ساكسونيا، فقد أنهت محاكم البلاد تقريبا النظر في كل الملفات المتعلقة بالثورة وبتّت فيها، فأطلقت سراح كبار مسؤولي الدولة في “العهد البائد” بعد أن لم تَجِدْ في ملفاتهم ما يمكن أن يُدينهم وأوصتهم بعدم الظهور في الأماكن العامة احتراما لمشاعر الراكبين على الثورة، ثم أغلقت المحاكمُ العسكرية قضايا الشهداء والجرحى ووضعت الختم العسكري الثقيل على مقولة السبسي الشهيرة: “القناصة إشاعة”، وأخيرا برّأت ابنة زين العابدين بن علي ذاته من تهمة تبييض الأموال ورفعت عنها قرار تحجير السفر حتى تتمكن من الذهاب إلى المملكة العربية السعودية لأداء مناسك العمرة! يحدث هذا بينما يتواصل تحجير السفر على الأستاذ محمد الفهري شلبي المدير العام الأسبق للتلفزة التونسية بوصفه أحد خمسة مسؤولين لم يقولوا: “لا” في وجه سامي الفهري عندما كان يصول ويجول، فالقضية الوحيدة التي ترتخي أمامها عضلات القضاءهي هذه القضية التي اتهم فيها المديرون باقتناء برامج خارج قانون الصفقات العمومية وهي قضية تأبى المحاكم البت فيها وغلق ملفّها وإعطاء المتصلين بها حقوقهم، مواصلةً تسليط عقوبةِ المنع من السفر على شخص حتى لو أدين لما عوقب بمثل هذا العقاب الظالم!

تستمرّ هذه القضية حتى الساعة رغم أن شركة كاكتوس التي صادرت الدولة نصيب بلحسن الطرابلسي في رأس مالها تبث برامجها بذبذبات الحوار التونسي القناة المعارضة الأولى لنظام بن علي وتحقق أعلى نسب المشاهدة(!). هكذا أعيد توزيع المقاعد من جديد، بقي من بقي في مكانه وغيّر من غيّر مكانه، حصل كثير من المذنبين على صكوك التوبة الغفران ودخل من دخل بيت أبي سفيان. ولم تنتبه العدالة إلى أن مماطلتها في هذه القضية لا تجعل منها مأساة انسانية واجتماعية في حياة الأستاذ محمد الفهري شلبي فحسب بل أيضا كوميديا سوداء مضحكة، لقد ظلّ الراكبون على هذه الثورة يبحثون عن مؤيدات تُـقنعهم هم أولا وتقنع العالم ثانيا بوجهة نظرهم، إذ ينبغي الكثير من الجرائم والكثير من المتهمين والكثير من الضحايا حتى يقتنع الناس بأن تونس كانت تعيش حالة الجاهلية الأولى قبل هذا الطوفان، ومثلما لم يجرؤ بن علي على محاكمة معارضيه باسم الاختلاف السياسي ولفق لهم قضايا تحرش و اغتصاب و تخابر مع دول أجنبية فعل خصومه أيضا عندما استلموا السلطة، فلم يقدموا مسؤولا واحدا إلى العدالة بتهمة الاستبداد والانحراف السياسي بل تركوا المحامين والنقابات والفضوليين يقدمون قضايا ذات خلفية سياسية تفوح منها روائح الانتقام الشخصي تحت مسميات مختلفة أبرزها إساءة التصرف في المال العام أو مخالفة قانون الصفقات العمومية، وهكذا اختلط الحابل بالنابل وَوُضِع البيض كله في سلة واحدة، ونظرا لتفاهة الكثير من القضايا المرفوعة وخواء ملفاتها من المؤيدات والقرائن الدامغة لم يعاقَبْ أحدٌ من الذين قال عنهم الرئيس في سويعاته الأخيرة: “غلطوني وسيحاسبون”، لكأنهم أول المستفيدين من الثورة التي قامت ضدّهم، “فسيادته” لو حاسبهم كما توعّد لما أطلق سراحهم مثلما فعلت عدالة ساكسونيا.




فاته أن يكون ملاكا

صدر عن دار البدوي للنشر كتاب “فاته أن يكون ملاكا” بتوقيع الكاتب التونسي عامر بوعزة وهو دراسة نقدية في سيرة محمد شكري الذاتية تتناول أعماله الثلاث : الخبز الحافي، الشطار،ووجوه جاء في مقدمة الدراسة ما يلي:فاته أن يكون ملاكا

لقد أضعنا الطريق إلى محمد شكري طويلا، فاستسلم البعض إلى فكرة انحرافه المبكر عما ينبغي أن يكون عليه الأدب، واعتقد البعض الآخر أنه يشبع شهوة قارئ نهم لصور الفقر والقهر والاضطهاد. ولم ننتبه إلى الصراع التراجيدي الذي تمور عناصره في قاع التجربة: أدب الكاتب وحياة الانسان. فسيرة محمد شكري الذاتية تفتح الباب على عالم مليء بالإغواء والمغامرة والغموض، عالم تنبثق فيه إرادةُ الحياة من قاع البؤس والعنف والشقاء، يتخذ فيه الوجود معنى التحدي.

ولم يكن غرضنا في البدء بلوغ هذه الجهات في القراءة،  وإنما أردنا أن يكون البحثُ في أسئلة الكتابة: كيف صاغ محمد شكري الواقع باللغة؟، ولكن القراءة طفقت تأخذنا في مجاهل النص ومغاوره حتى أخذت الصورةُ النمطية تتبدّد وتحلّ محلها صورةٌ جديدة هي صورة الكاتب وهو يواجه قدره العاتي منذ أن قتل والدُه أخاه أمام أنظاره وأرغمه على ابتلاع تفاصيل المشهد في غياهب الذات.

“لقد فاتني أن أكون ملاكا”، عبارة كتبها محمد شكري وهو يسلّط وعي الكهل على طفولة الطفل، فحمل سيرته الذاتية معاني الحيرة إزاء الوجود والعدم، والخير والشر، والموت والحياة….، وإذا كان لابدّ من سبب يتذرع به الكاتب كي يقول حياته، فهذا سبب وجيه يجعل حياة كل فرد موضوعا ممكنا للكتابة شرط الإيمان بأن الأدب قاهرٌ الموتَ لامحالة.




كنت دايخة سي علاء…

عبد الوهاب عبد الله

عبد الوهاب عبد الله

قدمت قناة الحوار التونسي حلقة مميّزة من برنامجها الشهير “عندي ما نقلّك”، وهي كذلك لأنها تضمنت حكاية غريبة  لم نتعوّدها، حكاية فتاة مقعدة بسبب إعاقة لازمتها منذ الصغر جاءت إلى البرنامج تشكو قريبا لها اغتصبها على سرير نومها، وعندما اشتكته إلى الشرطة ادّعى أن المواقعة كانت برضاها، ولمّا كان المدّعى عليه حرّا طليقا أربع سنوات بعد الواقعة فمن الواضح أن السلط القضائية اقتنعت بروايته هو ورمت بادعاءات المجنيّ عليها عرض الحائط، وهو ما دعاها إلى أن تجرّب وصفة تلفزيون الواقع علّها تظفر منه باعتراف على الملأ قد يعيد أوراق القضية إلى باحث البداية من جديد أو يغير وجهتها نحو قصر البلدية لعقد قران يحفظ لهذه الفضيحة ماء وجهها.

وشعورا منه بغرابة الواقعة التي جاءت من أجلها الفتاة مستضيفة مُغتصبَها حاول منشط البرنامج التثبت من بعض المسائل التقنية المتعلقة بحيثيات الاغتصاب إذ لا مناص في تلفزيون الواقع من جرأة تبلغ حدّ الوقاحة أحيانا من أجل المزيد من الإثارة وتصعيد التشويق، فسألها إن كانت بمفردها ساعة الاغتصاب أم لا وكيف تسنى لهذا الشاب أن يصل إلى فراشها دون أن يتفطّن إليه أحد، وإمعانا منه في الإثارة سألها كم استغرقت العملية فقالت نصف ساعة كاملة ولما سألها كيف تعجز طيلة هذه الفترة عن إبداء مقاومة تجلب انتباه النائمين معها في الغرفة أجابته: “كنت دايخة سي علاء…”!

(أكمل القراءة…)




المهرولون

دموع التماسيح

دموع التماسيح

للتونسيين مع الدموع التلفزية تاريخ طويل، فمنذ زمن الأسود والأبيض لم تكن خطب الزعيم الحبيب بورقيبة تخلو من لحظات عاطفية تتغير فيها نبرته وتترقرق دمعته فيتوقف ليرفع النظارات ويمسح عينيه ويعدل صوته ثم يعود إلى السياق كأن شيئا لم يكن. كان يُحدث الناس عن طفولته وأمه ونساء عائلته فيبكي ثم يعلن أن تحرير المرأة هي قضيته الشخصية الأولى، ويحدث الناس عن الزنازين التي اقتيد إليها والمنافي التي أبعد فيها فيبكي ثم يؤكد أنه قد انتصر على الذين كانوا يعتقدون أن إخراج فرنسا أمر مستحيل، وكان يغالب دموعه كلما تذكر أن تونس ستستمر من بعده، وسرعان ما يطمئن جمهوره على مستقبلها لأن أساسها متين لا تقتلعه العواصف العاتية.

كنا نحب الزعيم ونحب خطبه ودموعه التي هي أبلغ من كل صيغ التوكيد في اللغة، وعندما كبرنا وحدثونا عنه اتضح أن كل تلك الدموع التي ذرفها في خطبه كانت جزءا من سيناريو متقن للتواصل الجماهيري في زمن كان فيه بعض الزعماء يستحوذون على مشاعر الملايين بدمعة وابتسامة. ورغم ذلك لم يشكّ أحد في صدقها لأنها كانت رسائل عاطفية مشفرة ترسخ في الأذهان العلاقة الأبوية التي تربط الزعيم القائد بالشعب وتجعله المرادف الرمزي للدولة.

وفي نهاية الثمانينات، عندما غنى محمد عبد الوهاب رائعته “من غير ليه” بكى صالح جغام في برنامج تلفزي غضبا على أشخاص لم تعجبهم الأغنية وقال كلمته الشهيرة: “لا تكتبوا عن الأشياء التي لا تعرفونها ولا تشعرون بقيمته لأنكم لم تعيشوها”. كان صالح جغام صوتا من أصوات الإذاعة في عزها ورمزا من رموز الثقافة العصامية، وقبل سنة واحدة من وفاته المفاجئة كان في قلب تحولات المشهد الثقافي والإعلامي كمن يقود عاصفة بمفرده، تلك العاصفة التي بشّر بها الشابي من قبل لاقتلاع الجذور اليابسة، وكان عندئذ صادقا في دموعه لأنه كان يخوض معركة حقيقية ضدّ الرداءة.

من شهد سهرة الوداع الفلسطيني ذات ليلة صيف من إحدى سنوات التسعينات لا يمكن الا أن تعلق بذاكرته كما تعلق الذكريات الجميلة دمعة محمود درويش، كانت دمعة صغيرة لكنها نهر من الأحاسيس نَبَع من جهة في القلب لا يدركها الا الشاعر، في تلك اللحظة لم تستطع اللغة أن تقول بمفردها مشاعر شعبين عاشا معا اثنتي عشرة سنة كاملة بحلوها ومرّها، “هل نسينا شيئاً وراءنا؟ نعم… نسينا تلفُّت القلب، وتركنا فيك خير ما فينا، تركنا فيك شهداءنا الذين نوصيك بهم خيرا”، هي دمعة ترجمت إلى كل لغات العالم عرفان فلسطين بالسخاء العاطفي التونسي، واختصرت عمرا مشتركا امتزجت فيه الدماء بالدماء عندما لاحقت طائرات العدوّ تحت أنظار العالم منظمة التحرير الفلسطينية حتى شواطئ الساحل الافريقي الشمالية، في ليلة الوداع تلك تلألأت في بريق الدمعة صور السفينة وهي تدخل صباحا ميناء بنزرت حاملة المقاتلين الفلسطينيين وأيتام الشهداء القادمين من جهنم بيروت، ضاقت بهم الأرضُ على رحابتها ففتحت لهم تونس أحضانها، تلفعت زوجة الرئيس بكوفية فلسطينية وحملت في ذراعيها طفلا وتقدمت المقاتلين وهم ينزلون من السفينة على وجوههم غبار المعركة الأخيرة والحصار وعلى أكتافهم رشاشات لم يطلب منهم أحد خلعها قبل الهبوط إلى أرض قرطاج. وظلت تونس تفتخر طويلا بأنها البلد العربي الوحيد الذي لم يخرج منه الفلسطينيون مطرودين، بل عادوا منها إلى ما يشبه البلد وما يمكن اعتباره بداية الاعتراف بالدولة.

وكم كان مؤثرا مشهد أرملة شهيد إسلامي وهي تقول لأحد قادة حركة النهضة باكية: لا تنتقموا، حدث ذلك في أعقاب الانتخابات الأولى بعد الثورة وكانت شماريخ الفرح تملأ سماء مونبليزير، كانت تلك المرأة التي تعرف الجمر أكثر من غيرها تبكي من شدّة الفرح، وكانت دعوتها أبناء الحركة للصمود في وجه ثعبان السلطة وإغراءاته ذروة الشموخ الذي يكلل كل القصص الأليمة، لكنّ صورتها ضاعت شيئا فشيئا في ضباب الكراهية السوداء وتلاشت في دخان الحقد الأعمى.   للدمعة هيبتها وللابتسامة رونقها عندما تنبعان من القلب وتفيضان صدقا وبهاء، لكننا صرنا إلى زمن تهاوت فيه القيم وتبعثرت تحت أقدام المهرولين والمتسلقين، ومثلما لا يشك أحد في صدق هذه الدموع التي ذكرت لا يختلف عاقلان في أن الدموع التي تقطر نفاقا ورياء لا تثير في النفس أي أسف أو أسى بل تستفز مشاعر السخط وتتحول بمرور الأيام إلى ما يشبه النكتة أو الموقف السخيف الذي يتندّر به الناس، يدخل ضمن هذا الباب بكاء ذلك الوجه الرياضي المعروف وهو يشكر “سيادة الرئيس” ويدعو لوالديه بالرحمة لما أنعم به على القـناة وباعثها، ولا يختلف عنه في شيء مدير الحملة الانتخابية للرئيس المنتهية ولايته عندما بكى بين يدي سمير الوافي نيابة عن مساجين العهد السابق من غير أن ينتبه إلى أن ضحايا القهر الحقيقيين لا يبكون، وليسوا في حاجة إلى من يبكي نيابة عنهم، فتلك خصلة أخرى من الخصال التي تجعل الناس أمامهم يتضاءلون، وكل بُكاء مأجور باسم معاناتهم هو ضرب من التحيّــل الموصوف.




فلننصف تونس وثورتها!

الدكتور المنصف المرزوقي

الدكتور المنصف المرزوقي

إثر هروب بن علي، وبّخ العقيد معمر القذافي الشعب التونسي في حوار تلفزيوني، وقال كلمته الشهيرة: “ستندمون حيث لا ينفع الندم”، مؤكدا أنه لو كان مكان التونسيين لاختار بن علي بلا تردّد رئيسا مدى الحياة!، كان القذافي صديق الجنرال منذ أكثر من أربعين عاما وكان يبدو للجميع مصابا بجنون العظمة وصاحب فلسفة سياسية مضحكة ولذلك لم يستغرب أحد موقفه ذاك فهو لا يؤمن بغير ثورة الفاتح من سبتمبر، أما ما قام به التونسيون فهو من وجهة نظره مجرد غوغاء!

تذكرت هذا الموقف وأنا أقرأ مقال وائل قنديل رئيس تحرير صحيفة “العربي الجديد” بعنوان: “لننصف المرزوقي!”، وهو مقال انبرى فيه صاحبه يستعرض مناقب الرئيس التونسي المؤقت الأخلاقية والسياسية ملمحا إلى أن التونسيين سيرتكبون خطأ لا يغتفر إذا ما أنزلوا الدكتور من على كرسي الرئاسة الذي لا يستحقه غيره!

نعم لننصف الدكتور المنصف المرزوقي، فلا أحد يعترض على مقولة الإنصاف مطلقا وعلى أحقية السيد الرئيس بهذا الواجب الأخلاقي الرفيع، ولكن الإنصاف يقتضي النظر إلى الأشياء بمناظير معتدلة لا تُجمل الأشياء وتزوقها سيما إذا كانت تنظر إليها من مسافة بعيدة، وإنصاف المرزوقي يقتضي حتما مواجهته بأخطائه التي باتت معروفة لدى الجميع من فرط تكرارها على رؤوس الملأ في مختلف المنابر السياسية المحلية، لكن يبدو أن السيد وائل قنديل فضل القفز عليها والاكتفاء بترديد بعض المقولات السهلة المتهافتة التي يرددها مستشارو الرئيس ومن بقي معه في حزبه الصغير مثل القول بأن من يقف ضد المرزوقي يمثل الدولة العميقة وأن عدم انتخابه رئيسا مرة ثانية يعني العودة إلى منظومة الاستبداد. وهذه المقولات التي تقوم على ثلب الطرف المقابل لا تقدم للناخبين أجوبة مقنعة على مآخذهم بل تزيد الأوضاع احتقانا وتغرق البلاد في فوضى تفكير لا نسقي يستحضر أرواحا من الماضي يخوض بها معارك مفتعلة.

كان المرزوقي يردد قبل وصوله إلى قصر قرطاج بأنه يريد تأسيس حزب سياسي لمائة سنة قادمة ويرفض التحالفات الانتخابية الظرفية لتحديد حجمه السياسي الصحيح، وكان خصومه آنذاك يعتبرون حزبه فرعا من النهضة يتقدم بوصفه حزبا علمانيا، وقد رجحت الأحداث اللاحقة هذه النظرية حين انخرط حزب المؤتمر بزعامة النهضة في الترويكا الحاكمة بلا شروط تذكر، وبدأ يفقد شيئا فشيئا قياداته ومناصريه لينخرط أكثر فأكثر في خيارات الحزب الإسلامي بل أصبح ممثلوه الأكثر تصلبا داخل المجلس التأسيسي، وضمُر حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي قاد المرزوقي إلى الرئاسة فانفض من حوله أصدقاؤه القدامى وتفرقوا، وظل السيد الرئيس محوطا ببعض المستشارين الذين لا يعرف لهم رصيد نضالي، بل إن بعضهم التحق بالحزب بعد وصول رئيسه إلى القصر الرئاسي، وتفتقت مواهبه النضالية بعد أن أصبح النضال بلا ثمن يذكر، هؤلاء لهم دور كبير في انحسار شعبية الرجل حتى في الأوساط التي لا علاقة لها بالنظام السابق!.

د وائل قنديل

د وائل قنديل

صحيح أن الشعب التونسي لم يختر المنصف المرزوقي رئيسا في انتخاب حر ومباشر لكنه أنصفه بتعيينه أول رئيس للجمهورية التونسية بعد الإطاحة بزين العابدين بن علي، وكان الموكب الرسمي الذي تسلم فيه مقاليد الرئاسة من خلفه فؤاد المبزع مثقلا بالرموز العميقة. ولكن السيد الرئيس ومنذ خطابه الأول شرع في ارتكاب الأخطاء، فقسم التونسيين إلى فئات ولم يكن ذلك مجرد خيار بلاغي بقدر ما كان عقيدة تتنافى مع عقيدة التونسيين الذي يرفضون التقسيم، ومن ثمة بدأت المواجهة مبكرا بينه وبين طبقة سياسية كاملة، وأخذت الهوة بينهما تتسع من يوم لآخر لينعزل أكثر فأكثر في قصره وأفكاره ورؤاه، ولم يتنازل الدكتور عن أناه بل ازداد تصلبا، ولم يتزحزح قيد أنملة عن أفكار يعتنقها ويؤمن بها دون أن تكون محل وفاق عام، وتحت أنظاره جرت كل محاولات النيل من مدنية الدولة التونسية والعبث برصيدها الحضاري فلم يستطع أن يقف في وجه حليفه القوي عندما قرر تسليم البغدادي المحمودي إلى السلطات الليبية دون علمه في عملية اعتبرها شق عريض من التونسيين صفقة مشبوهة كان عليه أن ينتبه خلالها إلى أنه في موقع لا يناسبه البتة، وفي أعقاب تلك الحادثة بدأت تلصق بالسيد الرئيس شتى النعوت الكريهة التي تطلق على من كان فاقد الصلاحية وعديم الجدوى!

أفكار الدكتور المنصف المرزوقي عن الثورة الواردة في كتابه “إنها الثورة يا مولاي” لا يشاطره إياها كثير من التونسيين، فالثورة التونسية حدثت لدوافع اقتصادية بالأساس، انفجر الوضع الاجتماعي في تونس بعد أن تفاقمت البطالة وكان أول شعار رفع في وجه بن علي: “التشغيل استحقاق يا عصابة السراق”، لكن يريد الحقوقيون من أمثال الدكتور المنصف المرزوقي استبدال صورة “ثورة الجياع” بصورة أكثر إيجابية مفادها أن الثورة على بن علي هي ثورة ضد الطغيان، هذه الرؤية ترمي إلى إلصاق تهمة العار بخمسين عاما من عمر دولة الاستقلال بكل مكتسباتها، لا لشيء الا لأنها أخفقت في إرساء نظام ديمقراطي حقيقي، وهي رؤية تشيد بالثورة لأنها صالحت التونسيين مع هويتهم (!) وأوصلت الإسلاميين إلى الحكم بعد أن كانوا في قلب معركة الديمقراطية وإخفاقاتها المتكررة منذ ثلاثين عاما على الأقل. باختصار أسهم المرزوقي في تحويل وجهة الثورة من صانعيها الحقيقيين المفقرين والمهمشين في الداخل التونسي وإهدائها إلى الإسلاميين الذين أخرجهم بن علي ذاته من السجون قبل سنتين من رحيله. وهو يعتقد أن الثورات تستغرق أجيالا وأجيالا لتحقق أهدافها بينما يتطلع شق عريض من التونسيين إلى الاستقرار بعد ثلاث سنوات طويلة من المعاناة صيغ خلالها دستور يرى كاتبوه أنه الضامن الأول لعدم الوقوع مجددا بين براثن الاستبداد. وأخذ الدكتور المنصف المرزوقي ينعزل أكثر فأكثر سياسيا بعد أن اختار أن تجري حملته الانتخابية بأدوات التخويف والترويع من عودة الدكتاتورية متجاهلا الطابع العقابي للانتخابات فهو يتحمل النصيب الذي يلائم موقعه من مسؤولية إخفاقات الترويكا في ملفات عديدة من أهمها ملف العدالة الانتقالية ومحاكمة رموز النظام السابق وانتشار الإرهاب.

أخطاء السيد الرئيس أكثر من أن تحصى وتقديمه بهذا الشكل الملائكي الهلامي لا يتناسب ومقتضيات المرحلة، لقد اعتلى سدة الحكم في أعقاب الثورة مناضلون عرفوا المعتقلات والسجون والمنافي وكان وجودهم على رأس مؤسسات السيادة بمثابة تكريم رمزي، لكن ذاك لم يكن في صالح التونسيين وثورتهم، فقد أخفق كثير من المناضلين في أن يكونوا رجال دولة، وكان على السيد الرئيس أن يستوعب الدرس ويستجيب إلى مقتضيات الواقعية السياسية دون أن يضع تاريخه كله في جراب حزب حركة النهضة، كان على السيد الرئيس ألا يناقض قناعاته، فالديمقراطية ليست حكرا عليه وليست مرتبطة بشخصه، ولن تسقط برحيله، وكان عليه ألا يستسلم لأكاذيب مستشاريه حول الدولة العميقة والنظام القديم لأن ذلك يتعارض جملة وتفصيلا مع منجزات الثورة في سنوات التأسيس الثلاث، كل الدلائل تشير إلى أن الدكتور المنصف المرزوقي يمر بالامتحان الأصعب، امتحان الخروج سالما من السلطة، ذلك الامتحان الذي تحاشاه سابقوه وقد كان الأمر ليكون مختلفا لو تحاشى هو هذه الانتخابات!




فَريج المُرر

فريج المرر للكاتب السوداني حامد الناظر“منذ زمن طويل ونحن نبحث عن فردوس مفقود لا وجود له، حين يغيب عن خيالنا سيكون كل شيء ممكنا!”

رواية فريج المرر الصادرة مؤخرا عن المركز الثقافي العربي أثر أدبي ممتاز رغم أنها العمل الأول للصديق الكاتب السوداني حامد الناظر.

ارتباط الرواية بالمكان يجعلها تنتمي إلى المدرسة الواقعية وهي تستمد خصوصيتها من خصوصية هذا المكان الضيق الذي يغدو نافذة على عالم فسيح، ففريج المرر هو حي من أحياء مدينة دبي القديمة، وفيه يقع مقهى الزمن الذي يرتاده الأحباش، هنا تبدأ حكايات الفريج ولا تنتهي، يأخذنا الراوي إلى أعماق التاريخ الذهني والاجتماعي للحبشة من خلال نماذج حية لشخوص تصارع من أجل بقاء الهوية، فتنشطر الرواية إلى حكايات شتى تمتزج فيها الحكمة بالواقعية وتتآلف فيها الغرابة بالفجيعة.
هي ليست فقط رواية النادلات الأثيوبيات في مقاهي دبي وبنات الليل الوافدات من الجوع الافريقي، وهي ليست رواية حمد المري الذي يبحث عن امتداد له في نسل مستحيل، بل هي أيضا ليست حكاية الراوي الذي لا نعرف شيئا عن جذوره وكأنما ولد ساعة وصوله إلى دبي تائها في أزقتها القديمة باحثا عن أفق، لكنها رواية كل هذه الكائنات مجتمعة، رواية الحبشة التي كانت في يوم ما امبراطورية وأصبحت مصدرا لكل الأوجاع الإنسانية، هي رواية الفريج الذي سيغدو مرآة عظيمة تتفتت في ضوئها الذوات وتتوالد الحكايات، ولن يفقد الراوي في هذا الخضم مهارة الحكَّاءِ المخاتل إذ يمتنع عن الحكاية في نقطة الذروة ويترك للقارئ  أن يتخيل مصائر الشخوص يشكلها كيفما يشاء.

رواية أولى ولكنها متقنة قادت حامد الناظر إلى منصة التتويج أكثر من مرة، فقد امتاز فيها الكاتب بأداء لغوي يتسم بالبساطة والشاعرية وهو يتنقل بخفة ورشاقة داخل الفضاء الروائي الذي أنشأه بين السرد، والحوار الداخلي ووصف الأشياء التي يتكون منها هذا العالم المخفي في أعماق دبي الساحرة.




رسالة مضمونة الوصول إلى السيدة آمال كربول

عندما يهان التونسيون في تونس!

لا أخفي سيدتي الوزيرة أن إطلالتك البهية في موكب التكنوقراط قد أثارت في البدء فضولي وإعجابي، فقد كنت واحدا من التونسيين الذين ملّوا من صورة الوزراء الخشبية، ومن هذا المنطلق سيدتي الوزيرة سأكون تكنوقراطيا في رسالتي هذه .

وزيرة السياحة في ححكومة المهدي جمعةوزيرة السياحة في ححكومة المهدي جمعةوزيرة السياحة في ححكومة المهدي جمعة

وزيرة السياحة في ححكومة المهدي جمعة

أراد أحد التونسيين المقيمين بالخارج إهداء شقيقه إقامة في أحد النزل السياحية الفاخرة في تونس، فاستخدم عبر الانترنت وكالةَ الأسفار الالكترونية التي تعوّد الحجز معها في كل أسفاره والتي يشعر بالرضى التام على ما تقدمه له من خدمات في كافة أنحاء العالم: تذاكر سفر وحجوزات فندقية وكراء سيارات الخ، ولم يخطر له قط أن الأمر سيكون مختلفا قليلا مع السياحة التونسية. اختار صديقنا نزلا سياحيا من فئة الخمس نجوم بأحد مدن الساحل يقترح سعرا مغريا للغرفة الواحدة، وسجل الحجز باسم شقيقه ثم دفع ثمن الإقامة في النزل كاملا بواسطة البطاقة البنكية، طبعا كان صاحبنا على معرفة تامة بشروط العقد التي لا تنص الا على الغرامات الواجب تسديدها في حال تغيير الموعد أو الإلغاء، ولمزيد التأكيد اتصل صاحبنا بالفندق قبل حلول الموعد للتأكد واطمأن إلى أن كل شيء على ما يرام. (أكمل القراءة…)




Copyright © 1996-2010 آراء حرة. All rights reserved.
View My Stats iDream theme by Templates Next | Powered by WordPress