عرفت محمد بوغلاب في مكتب الصديقة عواطف حميدة مديرة إذاعة الشباب منتصف تسعينات القرن الماضي، ولم يتغير كثيرا على امتداد ثلاثين عاما، بل ظل محتفظا بثوابت عديدة لا شك أنه ورث بعضها عن عواطف التي يحبها كثيرا وكان رحيلها المبكر عن حياتنا من الأحداث التي وطدت علاقتنا، فضلا عن كوننا ننحدر من قرى الساحل، ومن يعرف جيدا تلك القرى يعرف ذلك الحبل السري الذي يربط أبناءها بعضهم ببعض أينما وجدوا على هذه الأرض.
أطمئنكم جميعا أن محمد بوغلاب لم يدع يوما أنه من الثوار والمناضلين، وأبصم لكم بأصابعي العشرة أنه لن يفعل. كل ما في الأمر أنه عندما يذهب إلى عمله صباحا يذهب بروح المقاتل الذي يتجه إلى الجبهة ليقاتل، وأؤكد لكم أنه سجين الكلمة الحرة والصدق والالتزام، فمن ثوابت نظرته للحياة أننا نشترك جميعا في إدارة هذا الوطن، وأن الإعلام مسؤولية والصحافة مهنة مقدسة أساسها الصدق مع الذات والإخلاص للآخرين، فكان مندفعا في المنحدر العنيف الذي يأخذنا جميعا إلى هاوية واحدة، بينما يتقن الكثيرون بانتهازية فائقة استخدام فراملهم التي لا تصدأ أبدا.
لم يتخل محمد بوغلاب يوما عن الشأن العام. لم يتخل عنا، رغم كل المحن التي مر بها، لقد كان منذ أكثر من اثني عشر عاما في مرمى سهام الجميع، لكنه لم يتخل عن كلمته، ولم يرفع يوما شعار (عندي عائلة)، بل على العكس لم تكن العائلة عنده تعلة للخنوع والاستسلام والذل، بل كان يستمد منها الصلابة في مواجهة الظلم والصمود في الحق والصبر على الأذى.
محمد بوغلاب (ما يفلت شيء) لأنه لا يتعالى عن الواقع ولا يدعي الحياد، ولأنه يمزج دائما بين الذاتي والعام ويصنع من التفاصيل الصغيرة كلمات وجملا ونصوصا ومواقف، إنه يشبه ذاته في كل ما يفعل، ولذلك يصرخ أمام الميكروفون بحنق ويتشنج، فيجرح أحاسيس المستمعين الذين يشربون قهوتهم في الصباح على صوت فيروز وموسيقى بيتهوفن، ويفضلون الاستماع إلى (حظك اليوم) على متابعة النقاش السياسي.
رغم أن الوقائع كلها تؤكد تعرض محمد بوغلاب لمظلمة غير مسبوقة في تاريخ الصحافة، فإننا نتحاشى تقديمه في صورة الضحية، إنه سجين الكلمة، ولذا يحق لعائلته أن تفاخر به وأن تتباهى. ولا شك عندي أنه شامخ رغم قساوة السجن، وأن الرثاء كل الرثاء ينبغي أن يكون للسجان الذي يتخبط في زنزانة أفكاره، تخيفه الكلمة الحرة ويرعبه الرأي الطليق، وترتعد فرائصه من جملة شردت عن المديح، السجان الذي يسأل نفسه في المرآة كل صباحا: من هو أجمل شخص في الكون؟ وهو مستعد لكسر المرآة إذا لم يسمع الجواب الذي يدور في رأسه…