سفيان الشعري

بالكثير من الارتباك أكتب بطاقة اليوم… فأنا لست متمكنة من لغة الرثاء والنعي، خاصة عندما تتعلق بطفل اسمه… سفيان الشعري…

عندما علمت بخبر رحيله بعد دقائق فقط من موته المفاجىء، رحت أسأل أصدقائي “متأكدين انو اللي مات سفيان الشعري؟” لعلكم أخطأتم العنوان، فالرجل بخير، التقيته قبل ليلة من سفره الأخير، كان مفعما بالحياة… كعادته… كان متوهجا… كعادته… كان رقيقا، عفويا، يبتسم حتى هو يتحدث عمن ظلمه ويريد أن يجهض أحلامه الكبيرة…؟؟ هل مات سفيان؟ كيف مات؟ ولماذا في هذا التوقيت بالذات؟؟ ألم يقل إنه في العيد سيذهب إلى مكتب المنتج “عبد العزيز بن ملوكة؟… ألم يحلم بأن يسافر مع فيلم “ديما براندو” إلى مهرجاني تورينتو”، و”أبو ظبي”؟؟ كيف يختفي طفل في نقاء سفيان الشعري؟ كيف تنتهي ابتسامة تجدد فينا كل يوم الطاقة للاستمرار؟؟

لي قصة طويلة مع الموت… انطلقت عندما رحل توأمي “شكري”… كان سفره هو أيضا مباغت… ولكنه مازال يعيش في… أشعر بأنفاسه… يزورني في أحلامي كلما ضاقت بي الحياة… يخفف عني بابتسامته ظلم الأحبة…

مر عقد من الزمن على موت شقيقي “شكري”، ومازالت تفاصيل ذلك اليوم الربيعي محفورة في قلبي… ومنذ ذلك اليوم صرت أخشى أن يكون الموت حاجزا بيني وبين من أحبهم… لا أخشى على نفسي من الموت، ولكنني أخاف أن يحرمني ممن أحبهم…

ولما جاءني خبر رحيل “سفيان الشعري” احترقت بكاء… قضيت ليلة صعبة… وارتبكت أمام قلمي… تعثرت لغتي، ووجدتني جنديا في قلب المعركة منزوعة السلاح… والمعركة هذه المرة خاسرة، لأن الموت هو الخصم فيها…

قضيت يومين عاجزة عن التقاط أنفاس قلمي، أحاول أن أستوعب أن الذي مات حقا طفل “كان” اسمه “سفيان الشعري”…

لن أدعي أنني كنت واحدة من أصدقاء هذا الطفل النقي… ولكن كان بيننا ود صامت… كنت أحترمه فنانا وإنسانا… وكان يقول إنني “حقوقية”… ولسبب لا أستطيع تفسيره أو تحديده، تعاطفت معه كثيرا هذا العام، بعد أن ظهر في الجزء الثاني من “نسيبتي العزيزة” بدور محدود… استفزني كثيرا تقزيمه، وبسرعة اتصلت به لمحاورته… طلب أن يكون الحوار عبر الهاتف، فلم أمانع، وحددنا موعدا كان فيه هاتفه خارج التغطية… ولسبب ما أعدت الاتصال به أكثر من مرة حتى عثرت على صوته… أذكر أنني قلت له حرفيا “علاش هكة يا سفيان؟ شيحتلي ريقي؟ عادة ما نعاودش نكلم حد ما التزمش بموعدو معاي، أما معاك انت شديت صحيح، ومصرة نعملك حوار…”، جاءني صوته ضاحكا، واتفقنا على موعد بعد ساعة… لم أكن أعرف سبب إصراري على محاورته، ولكنني وجدت تبريرا مقنعا بعض الشيء وهو تعاطفي معه… ولم أكن أدري أنني أسجل بهذا الحوار آخر كلام له في الصحافة… نعم كان ذلك هو آخر حوارات “سفيان الشعري” كما أكده هو بنفسه، ومن بعده صديق العمر “محسن الفريجي”… نشرت حوارات أخرى بعد لقائنا به، ولكنها كانت جميعها منجزة قبل حوارنا…

أذكر أنه قال عندما انتهينا من الحوار “هاني فرغتلك قلبي يا كوثر، وإن شاء الله حتى حد ما يتغشش مني…” نعم، كان حريصا على مشاعر من آلمه، وغدر به… كان طفلا نقيا يخشى أن يجرح من افتك به، ليوريه التراب، وها قد رحل طفلنا حقيقة لا مجازا، فلنر ما هم فاعلون؟؟

ليلة الأحد 21 أوت، كنت على موعد مع “يونس الفارحي” في مقهى بجهة المنار… وهناك، وجدت سفيان الشعري رفقة زوجته وابنه والصديق مهندس الصوت “محسن الفريجي”، ألقيت عليهم التحية، وجلست مع الصديق والزميل “محمد بوغلاب”، في انتظار يونس، بعد لحظات، وجدت “سفيان الشعري” يلتحق بطاولتنا، وجاء قائلا “أنا ما شكرتكش على الحوار متاعنا”، وقفت لأحييه من جديد، وجلس لبعض الدقائق وراح يحدثنا عن انزعاجه مما حدث له من “تقزيم” في الجزء الثاني من “نسيبتي العزيزة”، رافعا اللبس عن “يونس الفارحي”… كان متألما جدا من حوار أجراه “نبيل القروي” في إذاعة “موازييك” وكيف قال عنه (سفيان كيفو كيف أي ممثل آخر)، وعن المخرج “صلاح الدين الصيد” (لو ما عجبنيش المخرج راني بدلتو)، وعن “يونس الفارحي” و”فرحات هنانة” (سفيان جابلي زوز أولاد يعرفو يكتبو…)، وقال إن نسمة تخطط أن تستغني عنه في الجزء الثالث من “نسيبتي العزيزة” وستجد حلا ب”قتله” مثلا، وأضاف بأنه يثق في أن “يونس الفارحي” لن يقبل بأن يفعل به ذلك… كان طيبا جدا، حتى أنه عندما يتحدث عن زملائه يقول “خواتي”… وكان يردد “نحس ربي راضي علي مباركلي في كل شيء… مبارلكلي في عائلتي، وصحتي، وفي خدمتي وفلوسي… حمد الله يا ربي…”

وقبل أن يغادرنا، طلب منا ملحا أن نلتحق بجلسته بعد الانتهاء من الحوار، وهو ما فعلناه أنا و”محمد”، و”يونس”، وتوسعت الجلسة بحضور الأستاذ “علي اللواتي” وزوجته، والفنان “صلاح مصباح”…

لم يكن ثمة ما يوحي بأن “سفيان الشعري” يستعد لسفره الأخير… كان يتحدث عن مشاريعه المستقبلية، ويخطط لما بعد “نسيبتي العزيزة”… كان متوهجا… متدفقا بالحياة… مليئا بالأحلام…

مازالت تفاصيل ليلته قبل الأخيرة تحاصرني… هل كان “سفيان” يودعنا حقا دون أن ندري؟؟ كيف لم ننتبه إلى أنه يرسم بقلب الطفل الكبير فيه لحظاته الأخيرة في حياته القصيرة؟؟

أحتاج أن أصدق أن الذي مات هو حقا سفيان الشعري… هو ذاك الطفل الذي كان قلبه يخفق بالحب… والتسامح… كان كريما في مشاعره وطيبته إلى أبعد حد… ولذلك جوزي بحب الملايين الذين بادلوه حبا بحب…

فلينزو كل من أخطأ في حقه… ليصمتوا حياء وخجلا… وليستوعبوا الدرس الأخير لطفل كان، وما يزال، اسمه… سفيان الشعري…