Author Archive

رحيل فتحي الهداوي يوقظ أجمل ما فينا

رحيل الفنان الكبير فتحي الهداوي بشكل مفاجئ برهن على أن الموت هو الحدث الوحيد الذي يستطيع أحيانا أن يوقظ أجمل ما فينا نحن التونسيين. ففي بعض الجنازات فقط تنتصر المشاعر والأحاسيس على الاختلافات المصطنعة والأيديولوجيا. والعبارة التي تؤكد ذلك تكررت بشكل لافت للانتباه في هذه المناسبة الأليمة، وحري بنا أن نقف عندها طويلا لأنها لا تُسمع دائما: فقد قال كثيرون وبصيغ مختلفة: “شعرنا بأننا فقدنا واحدا من أفراد العائلة”.
وداعا فتحي الهداوي

وداعا فتحي الهداوي

هكذا فسر التونسيون حزنهم على فتحي الهداوي، وكأن الحزن في حاجة إلى تفسير وتبرير!، بينما يكفي أن تمرّ أمامك أحيانا في الشارع جنازةُ شخص لا تعرفه حتى تقف إجلالا لحدث الموت، فيتجمد الدم في عروقك، وتعتري فرائصك رعدة، وتتحسس أنفاسك، ثم تهدأ شيئا فشيئا، وتستأنف حياتك المعتادة بعد مرور الموكب إلى غايته. يحدث ذلك لأن الجميع سواسية أمام الموت، وهو يذكرهم بحقيقتهم تلك ولو لبضع لحظات. لكن تفسير التونسيين حزنهم من الأهمية بمكان لأنه يعيد إلى الأذهان حقيقة نتناساها دائما وهي أننا (عائلة واحدة)!

(مواصلة القراءة…)


رضا عزيز: على مقهى في شارع الأبدية

أسمي رحيل الفنان والصديق رضا عزيز سفرا، فقد نودي على اسمه عندما حان دوره، فتقدم الطابور بخطى واثقة، واجتاز المعبر الفاصل بين عالمين، ولوح بيديه قبل أن يغيب بعيدا ويطير مثلما تطير الكلمات. حدث ذلك بعد فترة انقطاع وخلوة مع الذات في منطقة رمادية غامضة معزولة تصفها أدبيات الرثاء والتأبين بعبارة باردة وخالية من الإحساس والمعنى: (الصراع المرير مع المرض).
رضا عزيز ومحمد القبودي في إذاعة المنستير

رضا عزيز ومحمد القبودي في إذاعة المنستير

هكذا يذهب المسافرون إلى الأبدية، لا أحد يعرف ترتيبه في القائمة، ولا موعد السفر. والكل ينتظرون دورهم، هذا الوصف إذن محاولة للالتفاف على الرماد الذي يتكثف حولنا من يوم لآخر، ومراوغة هذا الإحساس الرهيب بنهاية المعنى: كيف تصبح الحياة كلها بألوانها وموسيقاها، بأحلامها ومتاهاتها بكل بهجتها ونزقها، بجمالها وفوضاها ورقة صفراء تقع من شجرة جرداء على رصيف مكتظ بالعابرين غير الآبهين، كيف تصبح مجرد ذكرى..

(مواصلة القراءة…)


مُرّ الكلام

عرفت محمد بوغلاب في مكتب الصديقة عواطف حميدة مديرة إذاعة الشباب منتصف تسعينات القرن الماضي، ولم يتغير كثيرا على امتداد ثلاثين عاما، بل ظل محتفظا بثوابت عديدة لا شك أنه ورث بعضها عن عواطف التي يحبها كثيرا وكان رحيلها المبكر عن حياتنا من الأحداث التي وطدت علاقتنا، فضلا عن كوننا ننحدر من قرى الساحل، ومن يعرف جيدا تلك القرى يعرف ذلك الحبل السري الذي يربط أبناءها بعضهم ببعض أينما وجدوا على هذه الأرض.

محمد بوغلاب

محمد بوغلاب

أطمئنكم جميعا أن محمد بوغلاب لم يدع يوما أنه من الثوار والمناضلين، وأبصم لكم بأصابعي العشرة أنه لن يفعل. كل ما في الأمر أنه عندما يذهب إلى عمله صباحا يذهب بروح المقاتل الذي يتجه إلى الجبهة ليقاتل، وأؤكد لكم أنه سجين الكلمة الحرة والصدق والالتزام، فمن ثوابت نظرته للحياة أننا نشترك جميعا في إدارة هذا الوطن، وأن الإعلام مسؤولية والصحافة مهنة مقدسة أساسها الصدق مع الذات والإخلاص للآخرين، فكان مندفعا في المنحدر العنيف الذي يأخذنا جميعا إلى هاوية واحدة، بينما يتقن الكثيرون بانتهازية فائقة استخدام فراملهم التي لا تصدأ أبدا.

لم يتخل محمد بوغلاب يوما عن الشأن العام. لم يتخل عنا، رغم كل المحن التي مر بها، لقد كان منذ أكثر من اثني عشر عاما في مرمى سهام الجميع، لكنه لم يتخل عن كلمته، ولم يرفع يوما شعار (عندي عائلة)، بل على العكس لم تكن العائلة عنده تعلة للخنوع والاستسلام والذل، بل كان يستمد منها الصلابة في مواجهة الظلم والصمود في الحق والصبر على الأذى.

 محمد بوغلاب (ما يفلت شيء) لأنه لا يتعالى عن الواقع ولا يدعي الحياد، ولأنه يمزج دائما بين الذاتي والعام ويصنع من التفاصيل الصغيرة كلمات وجملا ونصوصا ومواقف، إنه يشبه ذاته في كل ما يفعل، ولذلك يصرخ أمام الميكروفون بحنق ويتشنج، فيجرح أحاسيس المستمعين الذين يشربون قهوتهم في الصباح على صوت فيروز وموسيقى بيتهوفن، ويفضلون الاستماع إلى (حظك اليوم) على متابعة النقاش السياسي.

رغم أن الوقائع كلها تؤكد تعرض محمد بوغلاب لمظلمة غير مسبوقة في تاريخ الصحافة، فإننا نتحاشى تقديمه في صورة الضحية، إنه سجين الكلمة، ولذا يحق لعائلته أن تفاخر به وأن تتباهى. ولا شك عندي أنه شامخ رغم قساوة السجن، وأن الرثاء كل الرثاء ينبغي أن يكون للسجان الذي يتخبط في زنزانة أفكاره، تخيفه الكلمة الحرة ويرعبه الرأي الطليق، وترتعد فرائصه من جملة شردت عن المديح، السجان الذي يسأل نفسه في المرآة كل صباح: من هو أجمل شخص في الكون؟ وهو مستعد لكسر المرآة إذا لم يسمع الجواب الذي يدور في رأسه…


الحيرة الانتخابية

 في السياسة كما في كثير من شؤون الحياة الأخرى، لا تخضع خياراتنا بالضرورة إلى ثنائية (صواب خطأ)، فالاجتهاد البشري مجال نسبي، ولذلك فإن لكل رأي من الآراء المتعلقة بالانتخابات الرئاسية وجاهتَه بالنظر إلى الأسس التي ينبني عليها. تحت هذه المظلة يمكن مقاربة الموقفين المتناقضين من الانتخابات الرئاسية في تونس: المشاركة والمقاطعة.

الحيرة الانتخابية. الانتخابات الرئاسية في تونس: المشاركة والمقاطعة.

الانتخابات الرئاسية

مقاطعة الانتخابات موقف سياسي وردة فعل مباشرة إزاء عملية الإقصاء التي استهدفت قيادات سياسية من الحجم الثقيل. ونتيجة منطقية لمناخ عام يسوده التشرذم، فجلّ العائلات السياسية منقسمة ومتذبذبة إزاء ظاهرة قيس سعيّد. والالتقاء عند المقاطعة أيسر بكثير من إبرام تحالفات ولو مؤقتة!

كما تندرج المقاطعة أيضا في خط المعارضة المبدئية لمشروع الرئيس، في إطار (ما بني على باطل فهو باطل)، تكملة لمقاطعة الاستفتاء والانتخابات التشريعية السابقة لأوانها وكل ما أنتجه مسار 25 جويلية السياسي انطلاقا من كونه (انقلابا) افتك السلطة التشريعية من أصحابها الذين أتت بهم صناديق انتخابات 2019. يضاف إلى كل هذه الدوافع موقف مبدئي مما تعتبره النخب خروقات خطيرة طالت العملية الانتخابية ومست نزاهتها بدءا من عدم تنفيذ أحكام المحكمة الإدارية وصولا إلى تغيير القانون الانتخابي. (مواصلة القراءة…)


محمد عبو: لو خرجت من جلدك ما عرفتك!

معرفتي بالطاهر هميلة (رحمه الله) كانت من الأحداث الجميلة القليلة التي عشتها بعد (الثورة) في تونس. فقد كشف لي منذ لقائي الأول معه روح الشاعر التي كان يخفيها وراء قناع المناضل السياسي. وقد كنت مستمتعا بصحبته في أحد مقاهي سوسة، صباح يوم مشمس من أيام جانفي 2012 حين أخبرته برغبتي في مقابلة محمد عبّو، فاتصل به على الفور وأعلمه بذلك، ثم قال لي وهو يعيد الهاتف إلى جيب سترته بعناية: قال لك سي محمد، تستطيع مقابلتي في أي وقت تشاء، بلا موعد.

محمد عبو

محمد عبو

وعزّز لقائي بمحمد عبو وزيرا في مقرّ الحكومة بالقصبة احترامي له إنسانا وسياسيا وكاتبا، فثمة عوامل موضوعية (لا ينكرها إلا جاحد) تفرض علينا دائما احترام هؤلاء الذين عارضوا بن علي وهو في أوج قوته وعنفوان سلطته، مطالبين بالديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان، نحترمهم رغم الاختلاف لأنهم دافعوا من مواقع مختلفة عن الحرية والكرامة نيابة عنا جميعا عندما كان ثمن النضال باهظا جدا..
وخلافا للكثيرين الذين لا يفوتون اليوم أي فرصة للتنمّر على محمد عبو والسخرية من كل ما يفعله حتى وإن كان لصالحهم، فإنني أعتبر عودته إلى المشهد السياسي مساندا لزهير المغزاوي (ضربة معلم) من الطراز الذي لا يمكن فهمه إلا بعد التخلص من بعض العقد النفسية والسياسية التي تكبل المرء وتجعله لا يرى الأشياء كما ينبغي أن تُرى…
في تجربة محمد عبو السياسية نقاط مضيئة جدا ينكرها البعض على وضوحها. فقد استقال من حكومة الترويكا، ولم يتشبث برئاسة الحزب الذي أسسه كما يفعل الآباء المؤسسون عادة، ثم غادر الحياة السياسية كلها عندما فشلت تجربته الثانية في الحكم، الأمر الذي لم يفعله غيره ممن تجاوزت تجربتهم نصف قرن أو يزيد! كما إنه قام بعملية نقد ذاتي شاملة في كتاب كشف فيه حقائق عديدة في وقت يتحاشى فيه أغلب السّاسة القيام بمراجعات نقدية ويتحاشى فيه الجمهور القراءة! (مواصلة القراءة…)


البريكي الذي أضاع خطوته

يستعرض عبيد البريكي المؤيدات التي دفعت بحركة «تونس إلى الأمام» بعد تفكير عميق إلى تأكيد اصطفافها وراء الرئيس، فيتحدث عن نجاحات عديدة حققها قيس سعيد، منها تمرده على صندوق النقد الدولي، وإرساؤه الدولة الاجتماعية (بدليل إنهاء عقود المناولة والتشغيل الهش) وموقفه المعلن من القضية الفلسطينية. وهو لا يعيب عليه سوى انفراده بالرأي، فيؤكد -بكل استحياء وبأدب جم- أنه لا يمكن للشخص الواحد أن يكون رئيسا ووزيرا وواليا ومعتمدا في نفس الوقت داعيا فخامته إلى التشاركية والانفتاح أكثر…
عبيد البريكي، حركة تونس إلى الأمام

عبيد البريكي، حركة تونس إلى الأمام

من حق البريكي أن يصطفّ وراء الرئيس أو أيّ مترشّح آخر في هذه الانتخابات الرئاسية، هذا أمر لا يناقش، لكن من المؤسف أن يكون وهو يدافع عن خياراته وخيارات حزبه أضعف من أصغر مفسر في (مشروع) الرئيس، ولو أعاد الاستماع إلى نفسه في الإذاعة وقارن مواقفه وأسلوبه بمواقف المعلقين والمفسرين المعروفين وصحابة الرئيس لأدرك أنه يسبح في مياه ضحلة، وهو أمر مؤسف بالنظر إلى تاريخه النضالي الطويل في صفوف الاتحاد العام التونسي للشغل وفي صفوف اليسار منذ أيام الجامعة (الأمر الذي لا ينفك يذكر به في كل مناسبة) إنه لأمر مؤسف أن يبدو سياسي محنك مثله يتقن السفسطة جيدا تلميذا بالفصل الأول في مدرسة الشعبوية، وقديما قال أجدادنا عن مثله (جاء يتبع في خطوة الحمام ضيع خطوته)

(مواصلة القراءة…)


ألا تعرف من أكون؟

بإعلانها تعذر احترام قرارات المحكمة الإدارية قدمت الهيئة العليا (المستقلة) للانتخابات برهانا آخر على دقة المثل العربي القديم الذي نتداوله جيلا بعد جيل دون أن نتوقف كثيرا عند عمق معناه ومدى تطابقه مع الكثير من وقائع عصرنا: لقد أكلتُ يوم أُكل الثّورُ الأبيضُ!
والحكاية التراثية تروي قصة ثلاثة ثيران بألوان مختلفة كانت تعيش في البرية دون أن يقدر الأسد على الفتك بها. فلم ينل غايته إلا بالحيلة: استدرج الثور الأسود وأوغر صدره على رفيقه الأبيض كي يساعده على النيل منه، وكان له ذلك، إلى أن جاع ثانية وانقضّ على الأسود ذاته الذي قال حينها: أكلتُ يوم أُكل الثور الأبيض..
فالكثير من معارضي الرئيس -خاصة من الذين يعتقدون حقا أنه أنهى يوم 25 جويلية 2021 (عشرية سوداء)- أصابهم الهلع اليوم من تأويلات الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تبريرها (القانوني) عدم الأخذ بقرارات المحكمة الإدارية! والحال أن ما يسمى (مسار 25 جويلية) قد بُـني بأكمله على تأويل متعسّف للقانون الدستوري، فالفصل 80 الذي اعتمده رئيس الجمهورية يومذاك للاستحواذ على كافة السلطات، لا يسمح له بحلّ البرلمان. وكل ما قيل عن (الخطر الداهم) يومها كان في إطار (الهروب إلى الأمام) من أجل إضفاء طابع قانوني على (انقلاب) سياسي.
إن تأويلات هيئة الانتخابات وتبريراتها القانونية من أجل فرض كلمتها على المحكمة الإدارية لا تختلف في شيء عن التأويل الرئاسي الذي كان (خطيئة أصلية) صفق لها الجميع. وإن كان بإمكانك أن تجد أعذارا شتى للمواطنين الذين فرحوا ليلة 25 جويلية لرؤية دبابة تغلق باب البرلمان. فإن ارتماء كثير من السياسيين والمثقفين في أحضان (المسار) وترحيبهم دون تحفظ بذلك المشهد مثل موافقة صريحة وغير مشروطة على الخروج من الحالة الدستورية.

(مواصلة القراءة…)


اخطا راسي واضرب

“شوف هاك البلاد الهايلة اللي المهاجرين يحبوا يستوطنوا فيها…”
كان يمكن ألا تعتبر هذه الجملة مخالفة أصلا لو نُظِر إليها في سياقها من النقاش العام يومها، فقد قالتها سنية الدهماني لمعارضة الرأي القائل بأن المهاجرين يريدون الاستقرار في تونس، وهي فكرة سخيفة وغير منطقية تقوم على (تغطية عين الشمس بالغربال)، فالمهاجرون (والعالم كله يعرف) قادمون من أعماق الصحراء بغاية العبور إلى أوروبا ولا شيء يمكن أن يغريهم بالاستقرار في بلاد يحلم شبابها بمغادرتها وينفقون في سبيل ذلك الغالي والنفيس..
كان يمكن أن تعتبر هذه الجملة زلّة لسان تدخل في باب الأخطاء المهنية، فالحديث أمام الكاميرا يفترض بعض التحفظ لفرملة الاندفاع والتلقائية، وهذا يحدث يوميا ويعالج في مؤسسات الإعلام بطرق شتى… أما وقد اعتبرت مخالفة خطيرة فقد كان يمكن أن تتحرك لها الهايكا (من تلقاء نفسها) كما كانت تفعل دائما، لكنها (وأسفاه على ما أصابها) في حالة موت سريري، ولا يعرف أحد عنها شيئا، وإكرام الميت دفنه.
سنية الدهماني

سنية الدهماني

حسنا، ما دمنا في بلد (فاضي شغل) ويعتقد الساهرون عليه أن هذه الجملة جريمة تستحق تدخل النيابة العمومية وتتجند لها مختلف أجهزة القضاء، ألم يكن ممكنا تسليط عقوبة سجنية مؤجلة التنفيذ… أم إن هذا التخفيف لا يمكن اعتماده في قضايا الرأي؟ لقد قلنا مرارا إن العدالة ينبغي أن تأخذ مجراها وإن القانون ينبغي أن يكون فوق الجميع، لكن لماذا يسلب الأفراد حريتهم في كل القضايا مهما كانت تفاهتُها؟

وأنت تشاهد القسوة وروح التشفي التي يعامل بها (سجناء الكلمة) ستنتبه حتما إلى أن وراء الأكمة ما وراءها… وأن الأمر لا يتعلق بعبارة (شوف هاك البلاد الهايلة)، فالقراءة الشعبوية لصيرورة الثورة التونسية بوصفها (انفجارا غير مسبوق) تعتبر حرية التعبير جزءا من المشكل السياسي، ويتوافق هذه الرأي مع انطباع شعبي بأن الإعلاميين الذين كانوا يتصدرون المنابر الإذاعية والتلفزيونية هم المستفيدون الوحيدون من الثورة، وأنهم قطفوا ثمارا لم يزرعوها، وأنهم بالضرورة متواطئون مع البورجوازية التي سرقت الثورة وغيرت مجراها.

(مواصلة القراءة…)


أين هي الناقة؟

ألقى الرئيس قيس سعيد إلى الشعب التونسي في عيد الجمهورية خطابا مثقلا بالإيحاءات والرموز، فبعد ديباجة لم يقتصر فيها على البسملة مُجرّدةً نوّه إلى أنه يتكلم في نفس التوقيت الذي أعلن فيه جلولي فارس سنة 1957 إلغاء النظام الملكي وقيام الجمهورية (السادسة مساء من يوم الخميس). ولئن كان معروفا عن الرئيس هوسه الشديد بالأمور الشكلية والتفاصيل والرموز فإن إبراز هذه (المصادفة التاريخية) في صدر هذا الخطاب بالذات والتوقف عندها مطولا يوحي برغبة المتكلم في التلميح إلى وجود رسالة مشفرة من السماء تتعلق بشخصه وبدوره في مجتمعه وفي مسار التاريخ.
تعزز خاتمة الخطاب هذا الإيحاء بخروج الرئيس من وصف (حالة الأمة) على عادة الرؤساء العاديين في الأعياد الوطنية العادية إلى وصف ذاته ومعاناته في خضم صراعه الأبدي مع (المتآمرين والماسونيين والذين ارتموا في أحضان الصهيونية، والذين ينكلون بالشعب ويسرقون قوت المفقرين والبؤساء)، وللتأكيد على ما يشعر به من غربة تمثل بالبيت الشهير الذي كان سببا في تسمية الشاعر أحمَد بن الحُسَين الكِنْدِي بأبي الطيب المتنبي والذي شبّه فيه الشاعر نفسه بصالح في ثمود، لكنه وهو يسترسل في ذكر معاني (الغربة) بدا أشبه بأبي حيان التوحيدي في (الإشارات الإلهية).
بيت المتنبي في غاية البساطة (أراني في أمة تداركها الله، غريب كصالح في ثمود) يقوم على التشبيه الذي يستخدم في البلاغة لإثبات صفة لموصوف(مشبه) باستحضار (مشبه به) تكون الصفة فيه أوضح. وإن كان أبو البقاء العكبري وهو أحد أهم شراح المتنبي أشار إلى اختلاف في تأويل الجملة الاعتراضية (تداركها الله): هل هي دعاء للأمة أم دعاء عليها؟ لكنه يحيل مباشرة إلى القرآن، فقد جاء ذكر صالح وثمود في أكثر من موضع (الأعراف، هود الخ) وثمود كما جاء في تفسير بن كثير (أحياء من العرب العاربة قبل إبراهيم الخليل، عليه السلام، وكانت ثمود بعد عاد، ومساكنهم مشهورة فيما بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله) وجاء في تفسير الطبري أنهم كانوا (في سعةٍ من معايشهم. فقالوا: يا صالح ادع لنا ربك يخرج لنا آية نعلم أنك رسول الله، فدعا صالح ربَّه، فأخرج لهم الناقة) وتلك الناقة هي التي عقروها، فاستحقوا عقابا عظيما من الله (فعقروا ٱلناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا یـٰصـٰلح ٱئتنا بما تعدنا إن كنت من ٱلمرسلین. فأخذتهم ٱلرجفة فأصبحوا فی دارهم جـٰثمین (77-78، الأعراف).
لقد تعفف الرئيس عن تشبيه نفسه بالمتنبي وهو يستحضر هذا البيت، لكنه لم ينتبه إلى أن القضية ليست في التشبه بالشاعر بل في التشبه بالنبي! وهذا الانحراف من المجال الدنيوي المادي إلى المجال الديني المقدس كان أمرا متوقعا في ضوء عدة مؤشرات متفرقة أدناها يقع في مستوى الخطاب وأقصاها يذهب إلى التصور الرسولي لوظيفة الرئيس الذي أصبح بعد فترة قصيرة من انتخابه على رأس الدولة يعتقد أن دوره يتجاوز حدود الجمهورية للتأثير في مسار التاريخ ومصير الإنسانية!
هل كان الرئيس غافلا عن أن تشبيهَه نفسَه بالنبي صالح في الغربة يستدعي بداهة تشبيه شعبه بقوم ثمود في الفساد، أم كان يقصد ذلك؟ لقد ورد ذكر (ثمود) في القرآن خمسا وعشرين مرة ضمن سياقات مختلفة بمعاني الجحود والنكران والكفر بنعمة الله واستحقاق العقاب الدنيوي قبل عقاب الآخرة، فماذا فعل التونسيون كي يستحقوا خطاب التهديد والوعيد في هذه المناسبة العزيزة على قلوبهم والتي تؤكد وحدتهم وتضامنهم وتمسكهم بقيم الجمهورية والحداثة؟ لقد عقرت ثمود ناقة صالح فأين هي ناقتك التي عقرناها يا سيادة الرئيس؟

اللعبة الديمقراطية

الكثير من التونسيين يسارعون عند مناقشة قضايا السياسة والشأن العام إلى استنتاج سريع، فيقولون بكل ثقة في النفس: نحن لسنا أهلا للديمقراطية! وهذا استنتاج خاطئ ومضلل، فالديمقراطية في الأصل أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، والشعب هو الانسان، والانسان حرّ، ولا يوجد إنسان لا يستحق الحرية.

Screenshot 2024-08-07 105641كل ما في الأمر أنه يمكن تشبيه الديمقراطية بلعبة (المربكة) (Puzzle) والاستنتاج الأقرب إلى الدقة في اعتقادي أننا لم نحسن تركيب الصورة حتى الآن، وظللنا نتصرف في القطع المعروضة بين أيدينا بشكل خاطئ: حرية التعبير، التعددية، سحب الثقة، الانتخابات، التداول على السلطة، التمثيل النيابي، المؤسسات الرقابية، الدستور، الإعلام، الأحزاب، النقابات، الخ..

لا يوجد إنسان يمكنه أن يركب الصورة المربكة بضربة واحدة، فاختبار موقع القطع الصغيرة من الصورة النهائية يخضع بالضرورة إلى التجربة والخطأ، شرط أن تكون القطع أصلية تنتمي إلى نفس الصورة وأن نتمسك بالهدف النهائي: تركيب الصورة. تركيبها بشغف، ومثابرة وإصرار، لأنها لا مجال للمعجزات فيها والخوارق. فالصورة المفككة عندما تركب قطعها بشكل متلائم ومتجانس تعود إلى شكلها الأصلي في النهاية. والديمقراطية هي الديمقراطية وإن تعددت صورها وأشكالها: نظام يحفظ للإنسان حريته وكرامته، ويقيه من شرور القهر والاستبداد.

(مواصلة القراءة…)


Copyright © 1996-2010 آراء حرة. All rights reserved.
View My Stats iDream theme by Templates Next | Powered by WordPress