Author Archive

حُـــرّاسُ أوروبا

بحركة رشيقة وابتسامة روتينية، التقطت المضيفة جواز السفر من يدي وشرعت في إجراءات التسجيل. كانت الحركة فاترة بمطار المنستير الدولي في تلك الساعة المبكرة من يوم الثلاثاء 27 جوان 2023، ومن محاسن ذلك الفتور سرعة القيام بالإجراءات وقصر فترة الانتظار في الطوابير.
وكما يحدث في كل الرحلات المتجهة إلى أوروبا، تطلب مضيّفة التسجيل وجوبا التأكد بشكل روتيني من صلاحية تأشيرة (شنغن) أو وثيقة الإقامة، قبل أن تعيد إلى المسافر جواز سفره وتسلمه بطاقة الركوب. لكنها وهي تراجع تأشيرتي انطفأت من على وجهها تلك الابتسامة التي استقبلتني بها، وقطبت جبينها وسألت مستوضحة: متى ستعود من باريس؟ قلت: رحلة العودة ستكون يوم 1 جويلية على الساعة التاسعة والنصف مساء. فنهضت من مكانها واتجهت نحو رئيسة الفريق التي كانت تراقب بانتباه شديد كل ما يحدث في شبابيك التسجيل، وسلمتها جواز السفر بعد أن تحدثت إليها بصوت خفيض كما يفعل أي موظف يريد أن يثبت لرئيسه فطنته وحرصه على مصالح الشركة.
francais_image2_248051_1699396592تسلمت الرئيسة جواز السفر، تأملته، وحركت رأسها موافقة الموظفة المخلصة، وطلبت منها العودة إلى مكانها لاستئناف تسجيل المسافرين على أن تتولى هي بنفسها الاهتمام بحالتي. وبعد أن أجرت مكالمة هاتفية لم أتبين منها سوى بعض الهمهمات غير المفهومة، أقبلت نحوي لتعلمني بأن العودة في نفس اليوم الذي تنتهي فيه صلاحية التأشيرة أمر محفوف بالمخاطر، فلو حدث أن تأخرت الرحلة (الفيزا تتحرق) هكذا قالت مؤكدة أن محدثها على الهاتف -وهو أعلى منها رتبة- يشاطرها هذا التخوف. قلت ما المطلوب؟ قالت غيّر ساعة العودة.
رغم الارتباك الذي أصابني لحظتها، والعرق البارد الذي بدأ يتصبّب من جبيني، استطعت أن أتبيّن بعض الحقائق بوضوح تام: فالعمر القانوني للتأشيرة ينتهي في تمام منتصف ليلة 1 جويلية 2023 بتوقيت باريس، وينبغي أن أغادر الفضاء الأوروبي قبل ذلك الوقت حتى لا أعتبر في نظر القانون الأوروربي (حارقا). لكن رغم أن رحلة العودة في الساعة التاسعة والنصف ستمكنني عمليا من اجتياز الحدود قبل نهاية عمر التأشيرة بخمس ساعات على الأقل فإن المضيفة ورئيستها ومن على الهاتف لا يثقون في قدرة شركة الطيران التي يشتغلون بها ويمثلونها على الإيفاء بتعهداتها إزاء المسافرين. واحتياطيا هم يريدون تجنيب شركتهم أي متاعب يمكن أن تقع في صورة حدوث تأخير.
وفي كنف ذلك الارتباك لم أتبين بالوضوح الكافي عدم قانونية الإجراء الذي اتخذه فريق المضيفين لحظتها، فتذكرة السفر بمثابة العقد الذي يربط المسافر بالشركة، ومواعيد الرحلات المعلنة أساس ذلك التعاقد، ولا يمكن التخطيط لأي شيء بناء على احتمال حدوث تأخير!!، لا سيما أنه من الصعب في ذلك الظرف الدقيق وتحت الضغط النفسي والعصبي القيام بأي تعديل على برنامج الرحلة وكل تغيير ممكن سيكون مكلفا!
وبينما كنت عالقا في حيرتي انتشلني مضيف آخر كان يراقب المشهد عن بعد، وقد فهم (كما فهمت أنا) أن التعطيل الذي حصل لا يعدو أن يكون محاولة من المضيفة الأولى للظهور بمظهر الموظف النشيط المجتهد أمام رئيستها، وقد سجلت هذا الهدف ببراعة شديدة (في مرماي أنا) قبل أن تعود إلى طابور المسافرين وتستعيد ابتسامتها البلاستيكة المفتعلة وتنسى تماما أنها زجّت بمسافر (غلبان) في نفق الحيرة والخوف. كيف لا؟ أفليس من الحماقة أن أثق أنا في مواعيد الشركة أكثر من موظفيها أنفسهم؟؟!!! لكن المضيّف الذي اخترق مسرح الأحداث في تلك اللحظة نظر إليّ بعيني الواثق من نفسه والمستهزئ مما يحدث في ذات الوقت وقال: اسمع، أنا لم أقل لك شيئا، احجز مكانا في رحلة أخرى دون دفع أي مليم، أظهر لهم الحجز الجديد وسيسمحون لك بالعبور، إثر ذلك افعل ما بدا لك.
وكان ذلك كذلك، انزويت بعيدا عنهم ، وباستخدام الهاتف الجوال حجزت مقعدا وهميا في رحلة أخرى يوم 30 جوان، وما إن أعلمت المضيفة بذلك حتى سمحت لي بالعبور، وانطلقت الرحلة المختصرة بشكل مكثف إلى الفضاء الأوروبي، وكانت العودة في نفس الموعد المبرمج منذ البداية أي يوم 1 جويلية على الساعة التاسعة والنصف، ووصلت إلى مطار المنستير قبل منتصف الليل، وقبل نهاية عمر التأشيرة. ورغم كل المتاعب التي رافقت رحلة الذهاب لن أنسى أبدا ابتسامة شرطي الحدود الفرنسي الذي قدمت له جواز السفر ليختمه في مطار باريس عند الوصول، فقد اكتفى بالقول عندما انتبه إلى قصر المدة المتبقية في عمر التأشيرة: تفضل، حظا طيبا!

عنز ولو طارت!

أنقل لكم هنا بدقة ما نشره مجلس نواب الشعب في موقعه الرسمي عن الحوار البرلماني الذي دار يوم الثلاثاء 16 جويلية مع السيدة فريال الورغي السبعي وزيرة الاقتصاد والتخطيط، في النقطة الأخيرة التي أثارها النواب حول (دفع المشاريع المعطلة). فقد بررت الوزيرة (التعطيل) بأنه راجع إلى (تبويب هذه المشاريع قبل تحضير الأراضي والمقرّات وهو ما يستوجب تغيير صبغة الأراضي، الأمر الذي يستوجب وقتا طويلا، ويزيد في كلفة المشروع ويتطلّب ضرورة البحث عن مصادر تمويل مجدّدا. وأقرّت بأنّ الوزارة تعمل جاهدة لدفع المشاريع المعطّلة وتسريع إنجازها من خلال البحث عن مصادر التمويل باعتبارها رافدا مهما للتنمية وللنهوض الاقتصادي).

 السيّدة فريال الورغي السبعي، وزيرة الاقتصاد والتخطيط.

السيّدة فريال الورغي السبعي، وزيرة الاقتصاد والتخطيط.

وإذا تأملنا جيدا هذا الرد وجدناه ردا علميا تقنيا هادئا رصينا يتقبله العقل بسهولة لأنه مفهوم وواضح، ويحدد موطن الداء (الذي يعرفه الجميع)، فمن الطبيعي مثلا أن تستغرق عملية انتزاع الأراضي التي سيمرّ منها مشروع الطريق السيارة أو الخط الحديدي سنوات طويلة. فالمشكلة إذن سياسية بالأساس، إذ يتعجل المسؤول التسويق للمشروع باعتباره إنجازا منذ اكتمال الدراسات النظرية على الورق وإتمام النموذج المصغر! ويسارع لإعداد اللوحة الرخامية التي سيوضع عليها اسمه. ومن النوادر المشهودة في هذا السياق تدشين مشروع (المرفأ المالي لمدينة تونس) من قبل كل رؤساء الحكومات الذين تداولوا على القصبة منذ 2011!! والمشروع يراوح مكانه في حيز الخيال والطموح، وباب مستشفى الملك عبد العزيز بالقيروان الواقف في الخلاء.

لكن تفسير الوزيرة يختلف جذريا عن السردية الرئاسية، ففي اجتماع مع رئيس الحكومة بتاريخ 8 نوفمبر 2023، خصص للنظر في (المشاريع المعطلة وضرورة تجاوز كل العقبات التي أدت إلى هذه الوضعية) يؤكد الرئيس أن (الاجراءات التي يتم التعامل بها أحيانا الهدفُ منها ليس احترام القانون ولكن الاستجابة لجماعات الضغط لأن هذه المشاريع تمس بمصالحها وتجد للأسف من يشاركها في هذا التعطيل وفي هذا التأجيل الى التأجيل وصارت لها شبكات اجرامية تعمل على أن تحل محل الدولة في عديد المرافق العمومية كالنقل والصحة والتعليم وغيرها).

يتضمن خطاب الوزيرة الحل البديهي الممكن، إذ ينبغي أن تقلب منهجية العمل رأسا على عقب، فلا يُـتحدث عن مشروع مدينة صحية أو مستشفى أو طريق سيارة إلا متى اكتملت مرحلة تهيئة الأرض كليا ووجد التمويل. ولا ينطلق التسويق السياسي لأي منجز إلا لحظة انطلاق الأشغال ولم لا عند اكتمالها وبدء استغلالها لمصلحة المواطنين. ساعتئذ لن تجد أي حكومة نفسها معلقة بين الوعود الفضفاضة وإكراهات الواقع، لكن الحل يكمن عند الرئيس في (ضرورة تطهير كل أجهزة الدولة والإسراع في عمليات التدقيق في الانتدابات لأنه فضلا عن ارتباط عدد من الأشخاص بهذه اللوبيات وفضلا عن أنها إهدار للمال العام فإنها تمثل امتدادا لشبكات إجرامية غايتها التنكيل بالمواطنين وافتعال الأزمة تلو الأزمة كل يوم تقريبا).

هكذا يجد التونسيون أنفسهم مرة أخرى أمام سلطة تنفيذية ذات رأسين يفكران بشكل مختلف، والاختلاف بينهما هذه المرة جذري عميق. فموقف الوزيرة ينطلق من ثقة في الإدارة ونقد لمنهجية عملها، بينما يقوم الخطاب الرئاسي على حكم مسبق راسخ بأن الإدارة مخترقة من جماعات الضغط!! فإذا تعطل مشروع إنشاء مستشفى بسبب (صعوبة انتزاع الأرض وتحويل صبغتها العقارية) فإن العقل الرئاسي يعتقد أن أصحاب المصحات الخاصة المحيطة بهذا المشروع يحرضون الموظفين داخل هذه الإدارة أو تلك ليظل هذا المشروع معطلا!!

يذكرنا خطاب السيدة فريال الورغي السبعي وزيرة الاقتصاد والتخطيط (الخالي من الشعبوية) بخطاب سلفها في المنصب ذاته سمير سعيد الذي خالف موقف الرئيس علنا في موضوع رفع الدعم فأقيل من منصبه، وكلاهما قادم إلى الحكومة من الجامعة وغير مستعد فيما يبدو للتنازل عن العقل الأكاديمي لتبني مقولات (فايسبوكية).

ولئن كان من دواعي الابتهاج أن تظل وزارة الاقتصاد والتخطيط محّصنة ضد المقولات الشعبوية المتهافتة فإنه من المؤسف أن ينحصر تفكير الرئيس وهو يمتلك صلاحيات لم يمتلكها رئيس أو ملك من قبله في المؤامرات والدسائس والخطط الإجرامية التي يتوقعها من الجميع، فالحكومة في ظل هذا النظام الرئاسي لا حول لها ولا قوة إن لم تكن منسجمة تمام الانسجام مع الرئيس، ولذلك يظل عملها بلا معنى لأنها في الوقت الذي يشتغل فيه بعض وزرائها بعمق وجدية وكفاءة تصطدم كل أعمالها بتعنت الرئيس الذي يستعد لقضاء عهدة جديدة لمحاربة المزيد من طواحين الهواء.


تصحيح مسار 25 جويلية

ألا ينبغي منع المستقلين من الترشح للانتخابات الرئاسية لقطع الطريق أمام الهواة والمتطفلين والمصابين بتضخم الأنا وانفصام الشخصية، والوافدين على العمل السياسي من الصفوف الأخيرة في الأحزاب الحاكمة بعد سقوطها، والذين يكتشفون في ذواتهم أفكارا ثورية وصفات قيادية بعد فوات الأوان، والمهووسين بنظافة اليد واللسان وهم لم يقولوا ولم يفعلوا شيئا أبدا؟

الانتخابات الرئاسية في تونس

الانتخابات الرئاسية في تونس

في السياسة، كل حديث عن الحياد مغالطة، أما الحديث عن الطهارة فتحيل، لأن الأنظمة السياسية أجهزة لإدارة الشأن العام تسعى في إطار محدودية قدراتها البشرية إلى تحقيق أعلى قدر من العدل والإنصاف بدل إيهام الناس بقدرتها المزعومة على إنشاء المدينة الفاضلة، وبرنامج الرئيس إذن ليس إلا مشروعا إصلاحيا واقعيا لا يقصي أحدا، ويفترض أن يكون عملا جماعيا لا رؤية رسولية وأضغاث تنبؤات فردية رعناء، فالرئاسة وظيفة مدنية، ومن الخطأ أن نذهب إلى صناديق الاقتراع للبحث عن نبي ضائع!
أن تكون نظرية (ثورة الياسمين) قد اقتضت ترويج فكرة انضباط التونسيين وأخلاقهم المثالية فهذا ليس إلا طعما ابتلعه بعضنا مثل سمكة قليلة الحيلة، فصدقوا بسذاجة عن أنفسهم ما ليس فيها، واعتقدوا أن الشعب صالح والنخبة فاسدة!، وأن يكون أملنا قد خاب في الأحزاب التي حكمت البلاد بعد سقوط منظومة الحزب الواحد فهذا لا يعني أن التعددية خطأ وأن الأحزاب ينبغي أن (تضمحل من تلقاء نفسها). وأن تكون بعض الجمعيات المتطرفة أشبه بالعصابات المنظمة فهذا لا يعني القضاء نهائيا على الجمعيات والمجتمع المدني.
في الأنظمة السياسية الديمقراطية لا بد من وجود الأحزاب والنقابات والجمعيات وجماعات الضغط، حتى تجد كل فئة من فئات المجتمع من يدافع عن مصالحها في كنف القانون، فالقانون وحده هو الذي يصهر الفردانية في بوتقة المجتمع، وتحت سقف الدولة يكون التدافع نحو المصلحة الفضلى للجميع حيث لا معنى للخلاص الفردي. وإذا كان ثم من درس يتعين علينا استخلاصه بعد مراكمة الفشل فهو بلا شك ضرورة التخلي في السياسة عن الشعوذة الآن، وإلى الأبد..
إن وضعنا نحن التونسيين على خارطة الحداثة والديمقراطية لا يسمح لنا بإعادة اختراع العجلة وتغيير مسار التاريخ، علينا أن نتواضع كثيرا وأن نتسلح بالعقلانية والواقعية وألا ننساق وراء الخزعبلات، فلن نصنع نظاما عالميا جديدا ولا يمكننا حتى المساهمة في ذلك، ولن نغير بوصلة العولمة واتجاهات الاقتصاد الدولي، ولن نثبت لأحد شيئا غير قدرتنا الخارقة على إعادة إنتاج الفشل واجتراح الأفكار الرثة وصناعة الأوهام وانتظار معجزات لن تقع.
وعلى هذا الأساس ستكون الانتخابات الرئاسية المقبلة مناسبة مثالية لتصحيح مسار 25 جويلية. لا أتحدث هنا عن 25 جويلية 2021، بل أعني 25 جويلية الأصلي سنة 1957، اليوم الذي أعلن فيه المجلس التأسيسي نهاية الدولة الحسينية وبداية جمهورية الاستقلال، فنحن كلنا إذا ما نزعنا عن عيوننا (الغشاوة الثورية) أبناء تلك الجمهورية التي أوهمنا ائتلاف (18 أكتوبر) في الأيام التي أعقبت سقوط نظام (بن علي) أنها لا يمكن إصلاحها، فأخذنا نهدمها بأيدينا، وها إننا نقف على أطلالها.
ستكون الانتخابات الرئاسية فرصة تاريخية لقياس المسافة التي قطعناها في الطريق الخطأ، فكلما طالت هذه المسافة كانت العودة منها أصعب علينا جميعا. وإذا كان لا بد من العودة فلنعد نحن ونفوت الفرصة على الأجيال المقبلة ولا ندعها تسخر منا ومن خياراتنا المصيرية، علينا أن نختار وبشكل حاسم بين أن نكون مجرد متفرجين على عرض مسرحي من نوع (الوان مان شو) أو أن نمد أيدينا جميعا لانتشال الجمهورية وإنقاذها.

مسرح الدمى

هناك علاقة وثيقة بين انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وصعود الشعبويات، فالخوارزميات تتكفل دائما بتحويل مجريات الاهتمام من الأصول إلى الفروع ومن القضايا الكلية المصيرية إلى الجزئيات.
خذ مثلا الحالة التونسية، فقد أدى انتشار المهاجرين القادمين من بلدان جنوب الصحراء في المدن والغابات إلى ارتفاع صيحات الفزع في مختلف مستويات المجتمع، وطرحت نظريتان لتفسير ما حدث وما يحدث:

أوضاع المهاجرين الأفارقة في تونس

أوضاع المهاجرين الأفارقة في تونس

النظرية الأولى تتبناها السلطة وملخصها أن بلادنا تتعرض لمؤامرة من الخارج ومن الداخل لتوطين هؤلاء المهاجرين في سياق عملية الاستبدال الديموغرافي الكبرى (تغيير الشعب عرقيا) أما النظرية الثانية فيتبناها المجتمع المدني وتعتبر أن وجهة هؤلاء المهاجرين النهائية هي بلدان الاتحاد الأوروبي ، وفيما لا يستند الرأي الأول إلى أدلة مادية ملموسة يستند الرأي الثاني إلى المنطق والبديهة، فهل يقطع مسافر الصحراء الإفريقية على قدميه للاستقرار في بلد لا تتجاوز نسبة نموه 0.4 بالمائة؟

سنية الدهماني

سنية الدهماني

هذه هي القضية الكبرى والمصيرية التي يواجهها المجتمع بأسره، أما المسألة العرضية (التافهة) فقد وقعت عندما عرضت إحدى المتحدثات في وسائل الإعلام الرأي الثاني بأسلوب يفتقر إلى التحفظ، فعبارة (شوف هاك البلاد الهايلة؟؟!!) هي تقريبا الترجمة العامية المناسبة لما يقوله خبراء الاقتصاد حول نسبة النمو المخجلة، لكنها لا تقال في وسائل الإعلام التي منوط بها أن تقول الأشياء بشكل مختلف عن الشارع. وما وقع لا يعدو أن يكون (خطأ مهنيا) كان يمكن أن يعالج بمجرد (لفت نظر) من مدير المحطة للمتعاونة التي (نسيت نفسها) في لحظة انفعال…وفي أقصى الحالات بلفت نظر من الهايكا.
هنا يأتي دور الخوارزميات لتجعل من هذه الهفوة البسيطة (جريمة إنسانية) وتحجب تماما القضية ا لأم التي تراوح مكانها دون أن يجد لها أحد حلا. لقد أصبحت المسألة الفرعية التافهة بين عشية وضحاها قضية القضايا، فبعد تجييش المشاعر الوطنية واستنفار الهمم تحركت النيابة العمومية على طريقتها لاستدعاء المظنون فيها والنية مبيتة لجعلها تقضي (الويكاند) في مركز الإيقاف. وما حصل لكرة الثلج في ما بعد صار معروفا فاقتحام أعوان الأمن دار المحامي عشية السبت أصبح عنوانا بارزا في أخبار الإذاعات والقنوات الدولية. وانتهت القضية الأم إلى النسيان…
هل تتحرك الخوارزميات بهذا الأسلوب من تلقاء نفسها، أم أن جهة ما تريد فعلا أن ينسى التونسيون معضلة المهاجرين لينصب اهتمامهم دفعة واحدة على زلة لسان سنية الدهماني وجريمة تغطية العلم في المسبح؟
من الذي يقف وراء الستار ليحركنا جميعا مثل الدمى الخشبية والعرائس التي لا تستطيع الإفلات من خيوط محركها؟ في خشبة للفرجة اسمها: وسائل التواصل الاجتماعي؟
في كل قضايا الرأي العام يفقد المجتمع صوابه ويصاب بهيستيريا جماعية تغذي فيه روح الكراهية والنزعة العدوانية وما كان ذلك ليحدث لولا الفايسبوك الذي قيل عنه سابقا إنه لا يصلح لإدارة الدولة لكن تثبت كل الوقائع من حولنا أنه لا يدير هذه الدولة فقط، بل غير العالم بأسره.


النــــــفق

 

الأزمة في بلادنا وإن كانت متعددة الأبعاد (سياسة واجتماعية وثقافية) فإن نواتها الصلبة تكمن في إدارة الشأن الاقتصادي، فنسب النمو والتداين والبطالة كلها مؤشرات إحصائية للإخفاق الذي يتجسد على أرض الواقع في مظاهر مختلفة أخطرها تراجع مستوى خدمات المرافق العامة واستشراء العنف وانعدام الأمن، بما يجعل الحياة اليومية صعبة جدا خصوصا على محدودي الدخل والفئات الاجتماعية التي تحتاج إلى المرافق العمومية ولا يمكنها العيش بدونها. وهو ما يفسر الرغبة الهستيرية في مغادرة البلاد للبحث عن آفاق أفضل للعيش.

المنطق الاقتصادي السليم يفترض أن الضرائب التي تحصلها الدولة تخصص لرعاية المرافق العمومية وهذا هو المفهوم الأصلي للدولة الاجتماعية، ولا معنى للدولة إن لم تكن اجتماعية (من غير الحاجة إلى أدلجة هذا المفهوم والتنازع حوله سياسيا)، ففي الدول الاسكندنافية التي تتصدر الترتيب العالمي في مؤشرات السعادة يدفع المواطنون ضرائب عالية دون تذمر لأنهم يتلقون مقابلها خدمات مرضية في الصحة والنقل والتعليم والبيئة وهي القطاعات الأربعة الأساسية التي يؤدي النهوض بها إلى تحقيق التنمية البشرية وبلوغ أرقى مستوياتها.

أما عندنا فإن هذه القطاعات الأربعة تشكو من نقص حاد في مستويات التمويل العمومي، وما يصلها من أموال دافعي الضرائب يكفي بالكاد لتسييرها بالحد الأدنى، ومن ميزانية إلى أخرى ينحصر تفكير الحكومة دائما في الكيفية التي تسمح لها بالحفاظ على مواطن الشغل التي تمثلها هذه القطاعات، أما تطويرها والنهوض بخدماتها فمن المسائل المؤجلة على الدوام، وهو ما يعني بالضرورة تراجعها وتخلفها عن ركب التطور.

أين تذهب أموال دافعي الضرائب؟

مع الإقرار بأن الدولة عبر حكوماتها المتعاقبة لم تتمكن من إنجاز (ثورة جبائية) حقيقية، فإنها رغم قلة الموارد ملزمة نفسها تحت لافتة: القطاع العام خط أحمر، بتحمل مسؤولية المؤسسات الاقتصادية المفلسة! بدل الإنفاق بالسخاء المطلوب على تلك المرافق التي لا تدخل خدماتها في حسابات الربح والخسارة أو المرافق ذات البعد الاستراتيجي مثل مراكز البحث العلمي والأقطاب التكنولوجية.

ولذلك فعندما يدفع المواطن في دولة أخرى ضريبة من مرتبه الشهري يجد في المقابل مستشفى يقدم خدمات جيدة ووسيلة نقل عام مريحة، بينما يدفع الموظف التونسي ضريبة عالية كي تحافظ الخطوط التونسية على موظفيها وكذلك معمل عجين الورق ومعمل السكر ومعمل التبغ إلى آخر قائمة الشركات (الوطنية) التي تمثل عبئا على المالية العمومية ويرى الخطاب السياسي الرسمي الراهن رغم ذلك أن التفويت فيها يعتبر تنازلا عن السيادة الوطنية!!!

الموظف التونسي يدفع الضريبة لتتمكن الدولة من المحافظة على موطن شغل لموظف آخر في مؤسسة اقتصادية مفلسة ثم يذهب الاثنان إلى مستشفى يقدم خدمات رديئة ويركبان معا حافلة من بقايا أسطول حافلات باريس، وبدل أن تتجه الأموال العمومية إلى تحسين المدارس والقطارات وتبليط الأرصفة وتنقية الهواء وتشجير الحدائق وتوفير المياه وتحسين الإدارات يتجه نصيب هام من المالية العمومية إلى القطاعات التنافسية التي لا يعود ريعها بشكل مباشر لدافعي الضرائب!

إن الاختيارات الاقتصادية لدولة ما تقع عادة داخل إطار إيديولوجي نظري، لكن الوضع في بلادنا يبدو خارج أي إطار وأقرب إلى الفوضى، فلا أحد يستطيع أن يجيبك اليوم بدقة: هل نحن دولة ليبرالية أم اشتراكية؟ هل نحن مع السياسة الحمائية أم مع التنافس الحر؟ هل نحن حقا منخرطون في العولمة ونتبنى حقيقة اقتصاد السوق؟؟  وفي الوقت الذي يبدو فيه أن المخارج الممكنة من الوضع الاقتصادي الراهن تتمثل في تخليص المالية العمومية من عبء القطاعات التنافسية يواصل الخطاب السياسي رفع الشعارات التي تصور أي تنازل عن القطاع العام بمثابة الخيانة العظمى، ويمهد البعض الآن لتمويل الشركات الأهلية المفترض في (فلسفتها) أن تمثل حلا للمبادرة الخاصة ولنسيج المؤسسات الصغرى والمتوسطة الذي يمثل في عديد الدول رافعة اقتصادية مهمة وصمام أمان اجتماعي… وهذا ما يعني أننا نسير بخطى حثيثة داخل نفق لا يؤدي آخره إلى شيء.


البحث عن فضيحة

مشهد مخاطبة قيس سعيد للرئيس المدير العام للخطوط التونسية وسؤاله إياه عن الطائرة التي (خرجت ولم تعد) مشهد مثقل بالدلالات، فمن الواضح أن السيد الرئيس وصله تقرير من جهة ما يثق فيها ثقة عمياء، الأمر الذي جعله يندفع إلى المطار دون إخضاع المعلومات التي وصلته إلى المراجعة والتثبت ودون تريث لطلب تقارير من مصادر أخرى لاستقصاء الحقيقة بهدوء، واتخاذ ما يلزم بروية.

الرئيس قيس سعيد في زيارة غلى المطار

الرئيس قيس سعيد في زيارة غلى المطار

والرئيس في هذا المشهد لا يصغي إلا لنفسه، ولا يسمع إلا صدى صوته، فرغم تأكيد مخاطبه أن الطائرة بيعت ومحاولته اليائسة إرجاء الخوض في الموضوع إلى جلسة انفرادية (تحفظ ماء وجه الرئاسة)، ظل هو يردد: (لكنها لم تعد!)، (لكنها خرجت ولم تعد!) وهذا (لعمري) مشهد في منتهى السريالية يؤلم أكثر مما يضحك، فالرئيس هو ممثل الدولة ورمزها الأعلى، ولا أحد يتمنى أن يرى رئيس بلاده في موقف مماثل. 

لكنه هو الذي وضع نفسه في هذا الموقف السخيف، فهذه الزيارة غير المعلنة (كما تسمى في أدبيات الاتصال الرئاسي) تبدو أشبه بالكمين الذي أراد بواسطته إشهاد الناس على وجود الفساد (رغم أنه لا يوجد شخص واحد يمكنه إنكار ذلك) وعلى وجود عصابات كل همها (العبث بأموال المجموعة الوطنية والتفريط في مكاسب البلاد عبر تسهيل بيع ممتلكات المؤسسات العمومية) إلى آخر الأسطوانة التي حفظها الجمهور التونسي عن ظهر قلب من فرط تكرارها بلا جدوى ولا نتيجة.

لقد فقدت هذه المروية طعمها ورائحتها في ضوء إقرار الرئيس الواضح والصريح بأنه لم يحقق شيئا يذكر في حربه ضد الفساد، فتكراره يوميا في لقاءاته مع رئيس الحكومة وفي كل مكان يزوره الحديث بنفس الطريقة عن المحتكرين والمتآمرين والمتلاعبين بقوت الشعب ليس إلا إعلان فشل وهزيمة، وهو لا يكترث كثيرا بذلك، فالزمن الرئاسي يبدو مسترخيا أكثر من اللازم، بما يعطي الانطباع أن (محاربة الفساد) غاية في حد ذاتها، ليس مهما أن ننتصر فيها وأن نغير واقع الناس نحو الأفضل، بل المهم أن تتواصل ولا تتوقف، فاستمرارها هو الشماعة الوحيدة التي يمكن أن تعلق عليها حكومة الرئيس إخفاقاتها.

ومحاربة الفساد مظلة مثالية كذلك تستخدم للقفز على التقاليد السياسية وتحييد الجميع، فهي حرب من نوع (الوان مان شو)، لهذا يتقمص الرئيس في كل خرجاته و(زياراته غير المعلنة) دورا غير دوره، فهو المعتمد والوالي ورئيس مصلحة النظافة، والوزير، وعمر بن الخطاب، وهو الحاكم، والمعارض، الذي يبكي مع الراعي ويشتكي من الذئب، وله في كل مجال القول الفصل يلقيه على أسماع المحيطين به، لا يجرؤ أحد على مقاطعته، وإن قاطعه (كما فعل مدير الخطوط التونسية مرارا) فإنه لا يسمعه. و(فرجة الرجل الوحيد) هذه تجعل المؤمنين بالرئيس (أبناء المشروع) متضامنين معه أكثر من أي وقت مضى، رغم البؤس الذي لم يستطع أن يفعل شيئا لإنقاذهم من براثنه، فهم مقتنعون أنه يريد لهم الأفضل لكن الآخرين يمنعونه. ولا يستطيعون النظر إلى الموضوع من زاوية (انعدام الكفاءة).

وفي نازلة الطائرة تقمص الرئيس شخصية حاكم التحقيق، لينظر في قضية تعود إلى سنة 2017 بما يؤكد أنه عالق في الماضي وعاجز عن مشاهدة المستقبل، ومر بسرعة قصوى إلى الاستنتاج متجاوزا الإجراءات والأعراف والقوانين والمؤسسات ليعلن بنفسه عن وجود جرم مشهود، دون أن يعرف أحد ما هو هذا الجرم، فمرة يقول: (لكنها لم تبع)، ومرة أخرى يقول: (وبأي ثمن بيعت) ومرة يقول (هناك من شاهدها في فلوريدا) ومرة أخرى يقول (لكنها خرجت دون تصريح لدى الديوانة). لا أحد يرى هذا الارتباك والتلعثم والتذبذب في الأداء الرئاسي المهم (البحث عن فضيحة) يقتات منها الجياع وتتواصل بفضلها المهزلة.


الرئيس والعجوز التي تطبخ الحصى

419865769_771191828372753_3104266210440610333_nتذكرني زيارات السيد الرئيس إلى (مناطق الظل) بحكاية عمر بن الخطاب مع العجوز التي شاهدها تطبخ الحصى لأطفالها الجوعى حتى يناموا بلا أكل، رغم اختلاف الخاتمة! فالفاروق كما تنقل كتب التراث لم يهدأ له بال ليلتها قبل أن يطعم الأطفال الجياع أكلا حقيقيا (جلبه من بيت مال المسلمين)، لكن زيارات الرئيس اليوم تنتهي كما بدأت وذلك لثلاثة أسباب على الأقل:
أولا: في غياب المشاريع الحقيقية للتنمية والمنجزات التي يمكن تدشينها برأس مرفوع وأياد ثابتة، لا تحمل رئاسة الجمهورية إلى هذه المناطق في كل زيارة إلا المزيد من الوعود والشعارات وعبارات التفهم والمواساة، فتبدو هذه الزيارات غير المعلنة وكأنها مخصصة لإقناع الفقراء بأنهم فقراء، وطمأنتهم بأن الدولة تعرف أنهم فقراء، لكنها قبل إخراجهم من الفقر، منشغلة بمعاقبة أولئك الذين كانوا من وجهة نظرها سببا في فقرهم، وعليهم أن يصبروا (أن يسمعوا صوت الحصى في القدر) حتى تقضي الدولة على دابر الفساد، وتزج بآخر الفاسدين في المرناقية، ونصبح -بحول الله- مجتمعا فاضلا يعرف كيف يقف بانضباط في الطوابير الطويلة التي لا تنتهي أمام الإدارات والمخابز!
ثانيا: لأن الصور في هذه الزيارات تصاحبها سمفونية عجيبة هي خليط من شعارات التأييد والمطالب والتضرعات، يقابلها الزعيم (برحابة صدر وتفهم) فيؤكد، وينفي، ويشدّد، ويهدّد، ويعد ويتوعد، وهو ما تلخصه قبضة يده أمام الكاميرا في أكثر من مشهد، والضجيج بوصفه سيّد الموقف هنا لا يسمن ولا يغني من جوع، بل يستنتج منه أن الشعب والدولة (كل يغني على ليلاه). فمطالب الجمهور مادية ملموسة لا يخجل معها البتة في أن يتضرع للرئيس من أجل الحليب والزيت والسكر، فضلا عن الشكاوى الفردية والخاصة التي لا يمكن حلها إلا (حالة بحالة) والتي تدل بوضوح على انعدام الثقة بين المواطنين وأجهزة الحكم المحلية…، فيما يطمئن الرئيس مخاطبيه عن انتخابات المجالس المحلية التي ستعطيهم آليات صنع القرار والثروة! ولا يعرف أحد شيئا عن شكل هذه الثروة ومصدرها (خليقة وإلا صنيعة)!
ثالثا: يغيب عن ذهن الرئيس وأنصار (البناء القاعدي) عموما من المريدين الحقيقيين (وهم قلة قليلة)، والمفسرين والانتهازيين وضاربي البندير في وسائل الإعلام (وهم كثرة كثيرة) أن هذه الحشود التي تهب لاستقبال الرئيس أينما حل وتسمعه ما يحب أن يسمع من عبارات التأييد، والتي يسميها (الشعب) هي نفسها التي تهب لاستقبال أي رئيس.. فلم يسجل تاريخنا إلى الآن شيئا عن رئيس أو وزير أول خرج إلى الشارع ولم يهتف له أحد!!، يمكنك أن تعتبرنا شعبا مريضا بالهتاف…، ولا يتقن سوى التضرع إلى السلطة، وكل رئيس أو وزير يقرر أن يخرج إلى الشارع سيجد الآلاف في استقباله طوعا أو كرها، وسيرجع إلى مكتبه وهو ممتلئ بمشاعر الامتنان لهذا الشعب الذي يحبه… وينسى في غمرة هذا الفيضان العاطفي (التلقائي) أن هذا الحب حتى لو كان عفويا وصادقا هو جزء من الديكور السياسي: مواطنون يتظاهرون بتأييد السلطة، وسلطة تتظاهر بتأييد مطالب مواطنيها، والفقر باسط ذراعيه بينهما وابتسامة الهزء الماكرة على شفتيه الغليظتين..
ولو أردت الدقة فإن المشهد وإن كان معادا ومكررا فهو مختلف، ففي العهود السابقة كان حفلة استقبال الجموع للزعيم تنتهي بجلسة مضيقة في مقر الولاية لاستعراض قائمة من القرارات توهمنا السلطة بأنها نتيجة للزيارة بينما هي في الواقع قد اتخذت مسبقا ونظمت الزيارة لتكون إطارا مشهديا لإعلانها (صندوق 26-26 نموذجا). أما الآن فالشعب والسلطة يلعبان معا كرة الطاولة (البينغ بونغ): الشعب يطالب السلطة بالتنمية والسلطة تقول للشعب سأعطيك آليات لتحقيق التنمية واصنعها بمفردك. ويشترك الاثنان في سبّ (الآخر) الذي يقف خارج هذا المشهد، ولعنه بعبارات مكررة بلا معنى في مقدمتها العبارة الرئاسية الشهيرة (ينكلون بالشعب في قوته..)
زيارات الرئيس إلى الدواخل بكل ما فيها من ضجيج ودموع وعناق وهتافات لا تنتهي كما تنتهي زيارات عمر بن الخطاب (المشكوك أصلا في واقعيتها)، ففي الرواية المتداولة قال أمير المؤمنين: «إن حمل جبال الحديد وثقلها خير من حمل الظلامة كبرت أو صغرت»، ولم تأذن النيابة العمومية بفتح تحقيق قضائي ضد المرأة العجوز لأنها قالت: «لا حيّا الله عمر والله إنه ظلمني».


هل يمثل الذكاء الصناعي خطرا على الانسانية؟

أثار موقف رئيس الجمهورية من الذكاء الصناعي في خطابه بمناسبة يوم العلم لغطا كبيرا على وسائل التواصل الاجتماعي، واتخذ هذا اللغط في كثير من التعليقات منحى التنمر والسخرية من غير أن يتحول إلى نقاش هادئ ورصين، لا سيما أنه يتناول مسألة من أخطر المسائل وأعقدها في هذه اللحظة التاريخية على نطاق عالمي. ومساهمة منا في وضع الجدل في سكته الحقيقية، سكة النقاش المعتدل والاختلاف الفكري البناء هذه جملة من النقاط التي تبرّر استنكار موقف الرئيس بصفته الاعتبارية تلك من الذكاء الصناعي واعتباره إياه خطرا على الإنسانية.

الرئيس قيس سعيد في يوم العلم

الرئيس قيس سعيد في يوم العلم

أول هذه الأسباب أن كل الاختراعات والاكتشافات الكبرى عبر التاريخ يرافقها في البداية لغط حول أهميتها وخطورتها على الانسانية قبل أن يقع لاحقا احتواؤها وتوظيفها، وأبرز مثال على ذلك ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية من جدل حول جدوى الأبحاث الفضائية، لا سيما بعد فشل مهمة أبولو 13 العام 1970، وقد تفرّغ عالم الفيزياء (كارل ساغان) في بداية السبعينات لتأليف مسلسل تلفزيوني نشر لاحقا في كتاب بعنوان (الكون) حقق أعلى المبيعات بهدف تبسيط المعارف العلمية وتقريبها من أذهان العامة حتى يدركوا الانعكاسات المحتملة لبرنامج غزو الفضاء على حياتهم ومستقبلهم. ورغم كل المجهودات التي بذلت في هذا المجال والنجاحات الكبرى التي حققتها الإنسانية في اكتشاف الكون ما يزال هناك من يشكك في هبوط أرمسترونغ على سطح القمر وكروية الأرض ودورانها حول الشمس، بما يعني أن الأحكام المسبقة والقناعات الإيديولوجية تمثل أحيانا سدا منيعا أمام التقدم العلمي، وينطبق هذا على موضوع الذكاء الصناعي، فمن الخطورة بمكان أن يقرر الفرد أن هذا الذكاء يهدد الإنسانية لا انطلاقا من معطيات موضوعية ثابتة (كما هو الشأن مثلا بخصوص السلاح النووي) إنما انطلاقا من تخوفاته هو وقصوره عن مجاراة ركب التقدم! وإن اتخاذ موقف قاطع من قضية الذكاء الصناعي وهي قضية لم تطف على سطح الأحداث إلا منذ فترة قصيرة تسرّع لا مبرر له لا سيما عندما يتعلق الأمر بقيادة سياسية.

هل يمثل الذّكاء الصناعي خطرا

هل يمثل الذّكاء الصناعي خطرا؟

ثانيا: إن التخويف من التكنولوجيا أيا كانت مجالاتها عادة ما تقف وراءها مجموعات ضغط لها مصلحة ما في موجة الخوف التي تثيرها. والاستثمار في (الفوبيا) ليس بالأمر الجديد في عالم التكنولوجيا، ففي عام 1999 وبمناسبة المرور إلى الألفية الجديدة عمت العالم موجة من الخوف غير مسبوقة. فانطلاقا من احتمال عدم انتقال الخوارزميات التي تشغل الحواسيب بشكل صحيح إلى القرن الجديد، رسمت سيناريوهات أعطاب مختلفة يقع أبسطها في ماكينات القهوة ومصاعد العمارات، وأعقدها في المفاعلات النووية. لقد صور إخفاق الكمبيوترات والشبكات في عبور الألفية بوصفه خطرا يهدد الإنسانية، وكانت تلك الموجة العارمة من الخوف والترقب مدخلا لضخ استثمارات ضخمة في المعدات والبرمجيات، واكتشف لاحقا وبعد الانتقال بلا أضرار تذكر أن تلك السيناريوهات الكارثية مبالغ فيها.
ثالثا: إن الجدل حول انعكاسات استخدام الذكاء الصناعي منحصر حاليا في بعض الدوائر السياسية، وليس غريبا أن يرد أول موقف في تونس من هذه القضية في خطاب رئيس الجمهورية وأن تكون كلمة الأمين العام للأمم المتحدة هي مرجعه الأساس! بينما يفترض في قضية تقنية كهذه أن يعتدّ بآراء العلماء، وأن يكون الجدل في مستوى الدوائر الأكاديمية ومؤسسات البحث. والتضاد بين حقلي السياسة والمعرفة يعود إلى بداية التسعينات من القرن الماضي عندما خرجت الانترنت من مخابر البحث إلى الاستخدام العمومي وطرح السؤال الحاسم (من الذي سيتحكم في هذه الشبكة العالمية؟)، واختار العلماء الاستقلالية التامة عن الحكومات التي ليس يمكنها إلا التحكم في البنية التحتية لطريق المعلومات السيارة باعتبارها من الموارد السيادية، أما حيازة المعلومات ومراقبتها فموضوع اختلاف بين الأنظمة من الشمولية التي تضع يدها على كل المنشورات إلى الليبرالية المطلقة التي لا تتدخل إلا لحماية الأمن القومي ومجابهة الإرهاب. ومما يفسر هذا التضاد بين الساسة والعلماء أمر بديهي فمن السهل أن تحكم شعوبا متخلفة أما الشعوب المتعلمة فمن الصعب السيطرة عليها! وهناك في هذا السياق رأي يفسر ثورة 2011 في تونس التي لعبت فيها وسائل التواصل الاجتماعي دورا أساسيا بأن نظام بن علي ذاته هو الذي مهد لها الطريق عبر سعيه إلى تعميم الانترنت وتمكين الناس من اقتناء الحواسيب الشعبية دون أن يقرأ حسابا لعاقبة كل ذلك على وجوده، حيث أسهم الارتباط واسع النطاق بالشبكة في تعميم حالة الرفض فضلا عن انتشار الإحباط لدى فئة الشباب على وجه الخصوص لتناقض واقعهم مع ما يرونه حولهم في العالم.
رابعا: إذا اقتصرنا على الدوائر العلمية فإن الآراء المتداولة حول الذكاء الصناعي مختلفة جدا، والاختلاف يبدأ من تعريف المصطلح، فهناك من يرى أن كل ما ينتمي إلى عالم الحوسبة هو شكل من أشكال الذكاء الصناعي وبناء على ذلك فهو منتشر اليوم في حياتنا اليومية دون أن يطرح أي تهديد! لكن للتدقيق يمكن القول بأن الجدل الدائر حاليا مرتبط بتطوير (اللغة الطبيعية) مع الإعلان عن نسخة متطورة من برنامج الذكاء الصناعي (ChatGPT) الذي يجعل الآلة تحاكي الانسان. ولم يتحقق هذا التطور إلا مع القدرة اللامتناهية للحواسيب الجديدة على معالجة البيانات الضخمة بسرعة فائقة، ويمكن لهذه الوظائف الجديدة مثلا استنباط الصور ومحاكاة الصوت البشري وتغيير الفيديوهات بما يمكن أن يكون أداة للتزييف والتظليل. وهذه مخاطر محدودة قد تطال فعليا الحقل الاجتماعي والتربوي وتضع على المحك أخلاقيات المجتمع الافتراضي، بما يدعو إلى استنباط طرق ووسائل تمكن من احتواء هذه التقنيات الجديدة بدل التصادم معها. فمزاياها في مختلف المجالات الحيوية تبرر وجودها واستمراراها والاستثمار في تطويرها على المدى المتوسط والبعيد وتجعل اعتبارها بشكل قاطع خطرا على الانسانية موقفا لا يخلو من سذاجة.
أخيرا: عندما يبادر رئيس الدولة بما له من صلاحيات تنفيذية واسعة بالحسم قطعيا في مجال خلافي كهذا فإنه يصطف علنا في جبهة الرفض والمقاومة ويضع نفسه بوضوح في مواجهة جيل كامل من أبناء شعبه يمثل له الذكاء الصناعي فرصة رائعة للاستثمار والابتكار والخروج من حالة اليأس والقتامة وانسداد الأفق بما يمكن أن يوفره من آفاق جديدة. فكل التكنولوجيات عند ظهورها تعيد السباق إلى نقطة الانطلاق، وتمنح الشعوب فرصة جديدة، لقد بات معروفا أن تونس كانت أول دولة عربية ترتبط بشبكة الانترنت مطلع تسعينات القرن الماضي لكنها اليوم وبعد مضي ثلاثين عاما على ذلك الحدث موجودة في ذيل قائمة الدول التي طورت حياتها بفضل الانترنت، حدث هذا الفشل رغم أن الرئيس بن علي كان طيلة عهدته مهووسا بالتقنيات الحديثة، ومولعا بشكل شخصي بكل ما يمت إلى التكنولوجيا بصلة وكانت وسائل الدعاية في نظامه حريصة على ترويج صورته جالسا في مكتبه أمام حاسوب ضخم، واليوم يعرف القاصي والداني أن الرئيس قيس سعيد مولع بالكتابة اليدوية وفنون الخط العربي مستخدما الحبر والدواة وان تحمسه للتكنولوجيا لم يتجاوز دفاعه عن منصة الاستفتاء بل حتى في هذه ما يزال حديثه عن محاولات الاختراق التي تعرضت لها المنظومة أو محاولات التشويش عبر الأقمار الصناعية (هكذا) محل تندر أيضا لبعدها عن الواقع واستحالتها! وفي ظل واقع كئيب متجهم كهذا وموقف معاد بصراحة للذكاء الصناعي وهو عماد المرحلة المقبلة من مستقبل الإنسانية في كل المجالات ماذا يمكن لمهندس تونسي شاب حديث التخرج أن ينتظر من حكومة بلاده؟ إن حالة العزلة التي تعيشها طبقة كاملة من الشباب التونسي بسبب تخلف قوانين البلاد وعدم قدرتها على مجاراة العصر وبسبب ضعف شبكة الاتصالات وتمسك الإدارة بإجراءات بيروقراطية بالية تجعله يتطلع إلى ثورة حقيقية تقتلع الجذور الميتة التي تسد مجرى النهر وتعوق تدفقه، لكن أعلى هرم السلطة لا يعطي أي بصيص أمل في هذا الاتجاه ولن يكون بمستطاعه لومهم عندما يهاجرون وبكل الطرق.


ذكرى عبد الرحمن مجيد الربيعي

في شارع خلفي من شوارع تونس العاصمة التقيت عبد الرحمن مجيد الربيعي بلا موعد ذات صباح شتوي غائم وحزين من صباحات العام 2012. واسترقنا معا ساعة من الزمن في مقهى صغير يضع كراسيه على الرصيف، وتحيط به من كل الأنحاء دكاكين بيع الأشرطة والملابس المستعملة والعطور الرخيصة. كنت على وشك الانتهاء من إجراءات الهجرة ولم يبق على السفر إلا القليل، أما عبد الرحمن فلم ينقطع عن عادة التجول اليومية في المدينة بقامته الفارعة وخطوته الرياضية الرشيقة وأناقته المشهودة رغم الفوضى التي اكتسحت الشوارع في تلك الأيام وغيرت ملامحها..

عبد الرحمن مجيد الربيعي وتوفيق بكار (قابس 1992)

عبد الرحمن مجيد الربيعي وتوفيق بكار (قابس 1992)

لم تكن تلك أول مرة نلتقي فيها ولن تكون الأخيرة، فصداقتنا تجاوزت ساعتئذ العشرين عاما. لكنها كانت المرة الوحيدة التي شعرت فيها أن الربيعي في أمسّ الحاجة إلى أن يتحدّث بقلب مفتوح، وأنه رغم كل الصداقات التي كوّنها في حياته على امتداد خارطة الوطن العربي كان يومها في حاجة إلى صديق واحد فقط، صديق يتقاسم معه الشارع والزحام والفوضى. في أيام الانفلات والغليان تلك صار عبد الرحمن الذي لطالما كان مفردا في صيغة الجمع يمشي وحيدا في شوارع لم يعد يعرفه فيها أحد، ولم تعد عيناه بقادرتين على إخفاء الحزن العميق الذي يتصاعد من أعماق روحه.

نشأت علاقتي بالربيعي العام 1990 في اليوم الوطني للثقافة، حيث دعته إذاعة المنستير مع الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور للمساهمة في أمسية شعرية، وكلفتني بمرافقتهما من العاصمة إلى المنستير. وكان من الصعب علي منذ أن التقيتهما حتى وصولنا أمام باب الإذاعة أن أتخطى عتبات الدهشة والانبهار. وهو شعور طبيعي لشابّ في مطلع التجربة ومقتبل العمر يجد نفسه في سيارة بيجو 304 مع نجمين من نجوم الساحة الثقافية والأدبية في الوطن العربي.

كانت تونس في نهاية ثمانينات القرن الماضي وبداية تسعيناته مركزا عربيا على الصعيدين السياسي والثقافي لوجود الجامعة العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية فيها، كما يعود الفضل في ذلك إلى الاهتمام الرسمي بالثقافة والتعريب والنشر في ظل حكومة محمد مزالي (1980-1986) والانفراج السياسي النسبي الذي شهدته سنوات حكم الرئيس زين العابدين بن علي الأولى ولم يدم طويلا. وفي هذا الخضم، حطّ عبد الرحمن مجيد الربيعي الرحال في تونس للإقامة بها، وأصبح صديقا لإذاعة المنستير وعضوا نشيطا في ملتقاها الأدبي السنوي، ملتقى أدب التسعينات، بل يعود إليه الفضل في ما تحقق لهذا المهرجان الثقافي من إشعاع عربي بلغ ذروته في الدورة الخامسة العام 1995.

ملتقى أدب التسعينات

ملتقى أدب التسعينات

وعندما نتكلّم عن الصداقة في هذا السياق فإننا بلا شكّ نتحدّث عن حالة إنسانية فريدة من نوعها، فقد كان الربيعي يمتاز بقدرته العجيبة على نسج الصداقات وتمتين أواصرها ولذلك سرعان ما تخطت علاقته بنا في الإذاعة الحدود المألوفة. كما كان يوصَفُ بالرجل (المؤسّسة)، لسخائه في التعريف بالأعمال الأدبية الجديدة التي تصله من هنا وهناك، كان يكتب في منابر مختلفة، وفي مواضيع شتى، ولا يتردد في حضور الندوات التي يدعى إليها، ويشارك باستمرار في وسائل الإعلام. وأنا مدين له بشكل شخصي في الكثير من التغطيات الصحفية التي تحقّقَ فيها السّبقُ. لأنني كنت في كل مرة أحتاج فيها إلى التواصل مع ضيف من عاصمة عربية أسترشده فيرشدني.

وعلى الرغم من أن الأحداث التي عشتها مع عبد الرحمن الربيعي طيلة عشرين عاما غزيرة، ظلت تلك الجلسة الصباحية الغائمة في أحد المقاهي المنزوية عالقة بالبال، فقد كان كل واحد منا في تلك الأيام بصدد إنهاء فصل من فصول حياته، نلملم شتات الأصداء في وداع بعيد المدى. فلم نلتق إثر ذلك إلا مرة واحدة بعد خمس سنوات بالنادي الثقافي الطاهر الحداد وفي أزقة المدينة العتيقة كان لقاؤنا الخير، فبعد أن نال منه المرض واشتدّت عليه الوحدة ولم يعد كما كان، عاد إلى العراق.

وفي هذه السنوات التي انتصرت فيها الفوضى والتفاهة على الكثير من المبادئ والقيم الجميلة وتوسّعت فيها رقعة الانهيار، أتمثل دائما بما قاله لي عبد الرحمن تعليقا على سقوط بغداد: (سيعود العراق يوما كما كان، لكن ليس في المدى المنظور) فالحياة التي صرنا نرى أن ماضينا فيها أجمل من حاضرنا، وأن ذكريات الأمس أنبل فيها من ذكريات الغد وأحلى، ستعود يوما، لكن لن نشهد ذلك اليوم. وهذه مرارة أخرى تضاف إلى المرارات التي يخلفها دائما تواطؤ الأصدقاء على الرحيل.


الحليب يا سيادة الرئيس!

مباشرة بعد عودته من السعودية أين شارك في القمة العربية الصينية، اتجه الرئيس قيس سعيّد في وقت متأخر من الليل إلى ضاحية «المنيهلة» (التي كان يقيم بها قبل انتخابه رئيسا للبلاد). والتقى مجموعة من المواطنين، ردّد أمامهم من جديد أن الأزمة الاقتصادية التي تتخبّط فيها تونس هي نتاج العقود الماضية خصوصا «العشرية السوداء» (!) وأن المرحلة الراهنة في حاجة إلى مقاربات جديدة هو منكبّ على ابتكارها… إلى آخر الأسطوانة. ولم يشقّ رتابة هذا المشهد إلا صوت أحد المواطنين وهو ينادي: الحليب يا سيادة الرئيس!

الرئيس قيس سعيّد

الرئيس قيس سعيّد

قد يكون الأمر مخيبا لآمال البعض. فالمتحلقون حول الرئيس ساعتئذ وهم أنصاره وأقرب الناس إليه (بحكم الجوار)، نزلوا بالمطالب الاجتماعية درجة أخرى إلى الأسفل. لقد كان التونسيون ساعة (الانفجار الثوري غير المسبوق) يحلمون بالحرية والكرامة والعدالة، ويطالبون بحقهم في الرفاه ونصيبهم من الأفق! وبعد أن تهاطلت عليهم الوعود من كل حدب وصوب، وأغرقهم السياسيون الذين امتطوا حصان السلطة على اختلاف مشاربهم في بحار من الأوهام وأضغاث الأحلام، ها هو ربّ عائلة من قاع المدينة يقف الآن وشبحُ الفقر جاثم على كتفيه في مواجهة (أعلى هرم السلطة) ليقول له: الحليب يا سيادة الرئيس!

لم يطالب هؤلاء الرجل الذي يستحوذ (مؤقتا) على جميع السلطات بالقطار السريع الذي سيربط بنزرت ببن قردان، أو بالمدينة الصحية التي ستقام بالقيروان. لم يطالب هؤلاء ابن حيّهم الذي أوصلوه إلى قصر قرطاج بمقاربات سياسية جديدة تقيم المدينة الفاضلة. فأحلامهم بسيطة ومشروعة وتحقيقها ممكن بمجرد الذهاب إلى البقالة. لكنها الأزمة (ومن سواها؟) تضغط بأصابعها على أعناقهم، وتتلذّذ بموتهم البطيء تحت سياط العوز والفاقة والجوع بسادية مرعبة دون أن يتمكن أحد من الوقوف في وجهها. أبناء «المنيهلة» نسخة مصغّرة من شعب يئن تحت وطأة الحاجة ويختصر يأسه في عبارة واحدة: الحليب يا سيادة الرئيس!

ينبغي ألا نسخر من هذا المشهد على مرارته، فالحليب هو الأمن الغذائي، وهو أكثر أهمية من بناء طريق سيارة أو إعادة اختراع عجلة سياسية جديدة. لأنه يرتبط بالسلم الاجتماعي والسيادة الوطنية ويحفظ كرامة المواطنين في وطنهم. هل كان الرئيس يعي وهو يسرد ذكرياته في المدرسة عند زيارته مصنع الألبان لماذا حرصت دولة بورقيبة على تقديم الغذاء مجانا للتلاميذ في المدارس؟ هل كان يدرك أن الأمر يتجاوز مجرد (إطعام أفواه الجياع) ليكون استراتيجية عميقة لنشر التعليم في مجتمع كان يرفع شعار (يوكل والا ما يقراش)!

ينبغي ألا تجعلنا صرخة ذلك المواطن أمام الرئيس نشعر بالخجل من أنفسنا، فكل الشعوب في حاجة إلى الحليب، وأن نطالب بالحليب ونحن نقترب من نهاية الثلث الأول في القرن الحادي والعشرين فذلك معناه أن أولوياتنا ينبغي أن يُعاد ترتيبها من جديد، وأننا في حاجة إلى ثورة أخرى لكن تعصف هذه المرة بالخطط والمفاهيم الاقتصادية البالية من أجل اقتصاد وطني لا يساوم في مسألة الاكتفاء الذاتي. هكذا تترجم حركات الشعوب قبل شعاراتها عندما يتقن الحاكم فن الإصغاء إلى الشعب. فما كان لشعب من الشعوب أن يصرخ في وجه حاكمه: الحليب يا سيادة الرئيس! لولا أن الرئيس منشغل عنه بإعادة كتابة التاريخ وتوجيه دفة الإنسانية نحو مسار جديد!

ولله في خلقه شؤون!

 


Copyright © 1996-2010 آراء حرة. All rights reserved.
View My Stats iDream theme by Templates Next | Powered by WordPress