هكذا فسر التونسيون حزنهم على فتحي الهداوي، وكأن الحزن في حاجة إلى تفسير وتبرير!، بينما يكفي أن تمرّ أمامك أحيانا في الشارع جنازةُ شخص لا تعرفه حتى تقف إجلالا لحدث الموت، فيتجمد الدم في عروقك، وتعتري فرائصك رعدة، وتتحسس أنفاسك، ثم تهدأ شيئا فشيئا، وتستأنف حياتك المعتادة بعد مرور الموكب إلى غايته. يحدث ذلك لأن الجميع سواسية أمام الموت، وهو يذكرهم بحقيقتهم تلك ولو لبضع لحظات. لكن تفسير التونسيين حزنهم من الأهمية بمكان لأنه يعيد إلى الأذهان حقيقة نتناساها دائما وهي أننا (عائلة واحدة)!
Author Archive
رحيل فتحي الهداوي يوقظ أجمل ما فينا
رضا عزيز: على مقهى في شارع الأبدية
هكذا يذهب المسافرون إلى الأبدية، لا أحد يعرف ترتيبه في القائمة، ولا موعد السفر. والكل ينتظرون دورهم، هذا الوصف إذن محاولة للالتفاف على الرماد الذي يتكثف حولنا من يوم لآخر، ومراوغة هذا الإحساس الرهيب بنهاية المعنى: كيف تصبح الحياة كلها بألوانها وموسيقاها، بأحلامها ومتاهاتها بكل بهجتها ونزقها، بجمالها وفوضاها ورقة صفراء تقع من شجرة جرداء على رصيف مكتظ بالعابرين غير الآبهين، كيف تصبح مجرد ذكرى..
مُرّ الكلام
عرفت محمد بوغلاب في مكتب الصديقة عواطف حميدة مديرة إذاعة الشباب منتصف تسعينات القرن الماضي، ولم يتغير كثيرا على امتداد ثلاثين عاما، بل ظل محتفظا بثوابت عديدة لا شك أنه ورث بعضها عن عواطف التي يحبها كثيرا وكان رحيلها المبكر عن حياتنا من الأحداث التي وطدت علاقتنا، فضلا عن كوننا ننحدر من قرى الساحل، ومن يعرف جيدا تلك القرى يعرف ذلك الحبل السري الذي يربط أبناءها بعضهم ببعض أينما وجدوا على هذه الأرض.
أطمئنكم جميعا أن محمد بوغلاب لم يدع يوما أنه من الثوار والمناضلين، وأبصم لكم بأصابعي العشرة أنه لن يفعل. كل ما في الأمر أنه عندما يذهب إلى عمله صباحا يذهب بروح المقاتل الذي يتجه إلى الجبهة ليقاتل، وأؤكد لكم أنه سجين الكلمة الحرة والصدق والالتزام، فمن ثوابت نظرته للحياة أننا نشترك جميعا في إدارة هذا الوطن، وأن الإعلام مسؤولية والصحافة مهنة مقدسة أساسها الصدق مع الذات والإخلاص للآخرين، فكان مندفعا في المنحدر العنيف الذي يأخذنا جميعا إلى هاوية واحدة، بينما يتقن الكثيرون بانتهازية فائقة استخدام فراملهم التي لا تصدأ أبدا.
لم يتخل محمد بوغلاب يوما عن الشأن العام. لم يتخل عنا، رغم كل المحن التي مر بها، لقد كان منذ أكثر من اثني عشر عاما في مرمى سهام الجميع، لكنه لم يتخل عن كلمته، ولم يرفع يوما شعار (عندي عائلة)، بل على العكس لم تكن العائلة عنده تعلة للخنوع والاستسلام والذل، بل كان يستمد منها الصلابة في مواجهة الظلم والصمود في الحق والصبر على الأذى.
محمد بوغلاب (ما يفلت شيء) لأنه لا يتعالى عن الواقع ولا يدعي الحياد، ولأنه يمزج دائما بين الذاتي والعام ويصنع من التفاصيل الصغيرة كلمات وجملا ونصوصا ومواقف، إنه يشبه ذاته في كل ما يفعل، ولذلك يصرخ أمام الميكروفون بحنق ويتشنج، فيجرح أحاسيس المستمعين الذين يشربون قهوتهم في الصباح على صوت فيروز وموسيقى بيتهوفن، ويفضلون الاستماع إلى (حظك اليوم) على متابعة النقاش السياسي.
رغم أن الوقائع كلها تؤكد تعرض محمد بوغلاب لمظلمة غير مسبوقة في تاريخ الصحافة، فإننا نتحاشى تقديمه في صورة الضحية، إنه سجين الكلمة، ولذا يحق لعائلته أن تفاخر به وأن تتباهى. ولا شك عندي أنه شامخ رغم قساوة السجن، وأن الرثاء كل الرثاء ينبغي أن يكون للسجان الذي يتخبط في زنزانة أفكاره، تخيفه الكلمة الحرة ويرعبه الرأي الطليق، وترتعد فرائصه من جملة شردت عن المديح، السجان الذي يسأل نفسه في المرآة كل صباح: من هو أجمل شخص في الكون؟ وهو مستعد لكسر المرآة إذا لم يسمع الجواب الذي يدور في رأسه…
الحيرة الانتخابية
في السياسة كما في كثير من شؤون الحياة الأخرى، لا تخضع خياراتنا بالضرورة إلى ثنائية (صواب خطأ)، فالاجتهاد البشري مجال نسبي، ولذلك فإن لكل رأي من الآراء المتعلقة بالانتخابات الرئاسية وجاهتَه بالنظر إلى الأسس التي ينبني عليها. تحت هذه المظلة يمكن مقاربة الموقفين المتناقضين من الانتخابات الرئاسية في تونس: المشاركة والمقاطعة.
مقاطعة الانتخابات موقف سياسي وردة فعل مباشرة إزاء عملية الإقصاء التي استهدفت قيادات سياسية من الحجم الثقيل. ونتيجة منطقية لمناخ عام يسوده التشرذم، فجلّ العائلات السياسية منقسمة ومتذبذبة إزاء ظاهرة قيس سعيّد. والالتقاء عند المقاطعة أيسر بكثير من إبرام تحالفات ولو مؤقتة!
كما تندرج المقاطعة أيضا في خط المعارضة المبدئية لمشروع الرئيس، في إطار (ما بني على باطل فهو باطل)، تكملة لمقاطعة الاستفتاء والانتخابات التشريعية السابقة لأوانها وكل ما أنتجه مسار 25 جويلية السياسي انطلاقا من كونه (انقلابا) افتك السلطة التشريعية من أصحابها الذين أتت بهم صناديق انتخابات 2019. يضاف إلى كل هذه الدوافع موقف مبدئي مما تعتبره النخب خروقات خطيرة طالت العملية الانتخابية ومست نزاهتها بدءا من عدم تنفيذ أحكام المحكمة الإدارية وصولا إلى تغيير القانون الانتخابي. (مواصلة القراءة…)
محمد عبو: لو خرجت من جلدك ما عرفتك!
معرفتي بالطاهر هميلة (رحمه الله) كانت من الأحداث الجميلة القليلة التي عشتها بعد (الثورة) في تونس. فقد كشف لي منذ لقائي الأول معه روح الشاعر التي كان يخفيها وراء قناع المناضل السياسي. وقد كنت مستمتعا بصحبته في أحد مقاهي سوسة، صباح يوم مشمس من أيام جانفي 2012 حين أخبرته برغبتي في مقابلة محمد عبّو، فاتصل به على الفور وأعلمه بذلك، ثم قال لي وهو يعيد الهاتف إلى جيب سترته بعناية: قال لك سي محمد، تستطيع مقابلتي في أي وقت تشاء، بلا موعد.
وعزّز لقائي بمحمد عبو وزيرا في مقرّ الحكومة بالقصبة احترامي له إنسانا وسياسيا وكاتبا، فثمة عوامل موضوعية (لا ينكرها إلا جاحد) تفرض علينا دائما احترام هؤلاء الذين عارضوا بن علي وهو في أوج قوته وعنفوان سلطته، مطالبين بالديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان، نحترمهم رغم الاختلاف لأنهم دافعوا من مواقع مختلفة عن الحرية والكرامة نيابة عنا جميعا عندما كان ثمن النضال باهظا جدا..
وخلافا للكثيرين الذين لا يفوتون اليوم أي فرصة للتنمّر على محمد عبو والسخرية من كل ما يفعله حتى وإن كان لصالحهم، فإنني أعتبر عودته إلى المشهد السياسي مساندا لزهير المغزاوي (ضربة معلم) من الطراز الذي لا يمكن فهمه إلا بعد التخلص من بعض العقد النفسية والسياسية التي تكبل المرء وتجعله لا يرى الأشياء كما ينبغي أن تُرى…
في تجربة محمد عبو السياسية نقاط مضيئة جدا ينكرها البعض على وضوحها. فقد استقال من حكومة الترويكا، ولم يتشبث برئاسة الحزب الذي أسسه كما يفعل الآباء المؤسسون عادة، ثم غادر الحياة السياسية كلها عندما فشلت تجربته الثانية في الحكم، الأمر الذي لم يفعله غيره ممن تجاوزت تجربتهم نصف قرن أو يزيد! كما إنه قام بعملية نقد ذاتي شاملة في كتاب كشف فيه حقائق عديدة في وقت يتحاشى فيه أغلب السّاسة القيام بمراجعات نقدية ويتحاشى فيه الجمهور القراءة! (مواصلة القراءة…)
البريكي الذي أضاع خطوته
من حق البريكي أن يصطفّ وراء الرئيس أو أيّ مترشّح آخر في هذه الانتخابات الرئاسية، هذا أمر لا يناقش، لكن من المؤسف أن يكون وهو يدافع عن خياراته وخيارات حزبه أضعف من أصغر مفسر في (مشروع) الرئيس، ولو أعاد الاستماع إلى نفسه في الإذاعة وقارن مواقفه وأسلوبه بمواقف المعلقين والمفسرين المعروفين وصحابة الرئيس لأدرك أنه يسبح في مياه ضحلة، وهو أمر مؤسف بالنظر إلى تاريخه النضالي الطويل في صفوف الاتحاد العام التونسي للشغل وفي صفوف اليسار منذ أيام الجامعة (الأمر الذي لا ينفك يذكر به في كل مناسبة) إنه لأمر مؤسف أن يبدو سياسي محنك مثله يتقن السفسطة جيدا تلميذا بالفصل الأول في مدرسة الشعبوية، وقديما قال أجدادنا عن مثله (جاء يتبع في خطوة الحمام ضيع خطوته)
ألا تعرف من أكون؟
اخطا راسي واضرب
حسنا، ما دمنا في بلد (فاضي شغل) ويعتقد الساهرون عليه أن هذه الجملة جريمة تستحق تدخل النيابة العمومية وتتجند لها مختلف أجهزة القضاء، ألم يكن ممكنا تسليط عقوبة سجنية مؤجلة التنفيذ… أم إن هذا التخفيف لا يمكن اعتماده في قضايا الرأي؟ لقد قلنا مرارا إن العدالة ينبغي أن تأخذ مجراها وإن القانون ينبغي أن يكون فوق الجميع، لكن لماذا يسلب الأفراد حريتهم في كل القضايا مهما كانت تفاهتُها؟