
عبد الوهاب عبد الله
قدمت قناة الحوار التونسي حلقة مميّزة من برنامجها الشهير “عندي ما نقلّك”، وهي كذلك لأنها تضمنت حكاية غريبة لم نتعوّدها، حكاية فتاة مقعدة بسبب إعاقة لازمتها منذ الصغر جاءت إلى البرنامج تشكو قريبا لها اغتصبها على سرير نومها، وعندما اشتكته إلى الشرطة ادّعى أن المواقعة كانت برضاها، ولمّا كان المدّعى عليه حرّا طليقا أربع سنوات بعد الواقعة فمن الواضح أن السلط القضائية اقتنعت بروايته هو ورمت بادعاءات المجنيّ عليها عرض الحائط، وهو ما دعاها إلى أن تجرّب وصفة تلفزيون الواقع علّها تظفر منه باعتراف على الملأ قد يعيد أوراق القضية إلى باحث البداية من جديد أو يغير وجهتها نحو قصر البلدية لعقد قران يحفظ لهذه الفضيحة ماء وجهها.
وشعورا منه بغرابة الواقعة التي جاءت من أجلها الفتاة مستضيفة مُغتصبَها حاول منشط البرنامج التثبت من بعض المسائل التقنية المتعلقة بحيثيات الاغتصاب إذ لا مناص في تلفزيون الواقع من جرأة تبلغ حدّ الوقاحة أحيانا من أجل المزيد من الإثارة وتصعيد التشويق، فسألها إن كانت بمفردها ساعة الاغتصاب أم لا وكيف تسنى لهذا الشاب أن يصل إلى فراشها دون أن يتفطّن إليه أحد، وإمعانا منه في الإثارة سألها كم استغرقت العملية فقالت نصف ساعة كاملة ولما سألها كيف تعجز طيلة هذه الفترة عن إبداء مقاومة تجلب انتباه النائمين معها في الغرفة أجابته: “كنت دايخة سي علاء…”!
وهذا بيت القصيد، فحكاية هذه الفتاة لا تختلف في شيء عن حكاية بعض الصحفيين الذين جيء بهم إلى وثائقي الجزيرة “إعلام بلون البنفسج” ليحاكموا الصحافة في عهد بن علي،” كلهم كانوا دائخين سي علاء..” استسلموا لسيناريو الشريط ولم يخجلوا من تقديم أنفسهم في صورة الضحية المغتصبة ثلاثة وعشرين عاما دون صرخة واحدة تشير إلى أن عبد الوهاب عبد الله كما يزعمون الآن كان بصدد مفاحشتهم عنوة!!!
الشريط في ظاهره لا يزيد عن التكرار المملّ لحكاية الإعلام النوفمبري التي باتت معروفة والتي تتحدث عن خنق الحريات وثلب المعارضين وتضخيم الإنجازات ومساومة الصحفيين، إلى آخر هذه المعزوفة، وفي باطنه يتنزّل في قلب إشكالية تاريخية جوهرية لم تُحسم بالجدية المطلوبة حول علاقة النهضة بالعنف، فقد كان ثلب إعلام العهد السابق سياقا مناسبا لتقديم شهادة أحد المتهمين في قضية باب سويقة حول اعترافاته التي تمّ عرضها في تلك الفترة وهو يقول إن منتج برنامج المنظار قد انتزعها منه انتزاعا أمام أنظار المحققين، ورغم أن هذا الاتهام ليس بالأمر الهيّن فإن الوثائقي لم يقدم وجهة نظر الصحفي المتهم بينما استغرق في جلد الذات ولطم الخدود والعويل والتباكي. الشريط عندما يقول: إن إعلام بن علي زيّف الحقائق يريد أن يقول إن حركة النهضة بريئةٌ من حادثة باب سويقة. فهل كان الأمر كذلك فعلا؟!
لسنا في سياق الردّ على هذه المسألة، ولكن من الضروري التنبيه إلى أن هذا الابتزاز لن يتوقف طالما كان ثمة متطوعون للشيطنة، والحق أن ضيوف هذا الوثائقي مختلفون ففيهم مسؤولون سابقون وصحفيون مجمدون وآخرون متطوعون للدفاع عن النظام السابق وغنموا مكاسب جمة وفيهم من يعمل لفائدة قناة الجزيرة ذاتها ومن كان يعمل في القطاع الخاص ساعتئذ، وكل واحد من هؤلاء تحدّث من موقعه وشرح وجهة نظره، أما الذين يشبهون في دعواهم الفتاة المغتصبة في “عندي ما نقلك” فهم موظفو القطاع العام في الإذاعة والتلفزة! لقد كانت شهادتهم رخوة ضعيفة مجانية غير صادقة بل وغير ضرورية، إن القضية مرتبطة بالمفاهيم الأساسية قبل كل شيء والصحفي المنتدب في وسيلة إعلام عمومية يعرف أن دوره سيكون التعريف بإنجازات الدولة ومكاسب النظام، كانت تلك هي المهنة وكثيرا ما كانت تنجز بأخف الأضرار، وليس من المنطقي الزج بكل هؤلاء الموظفين على سبيل الشيطنة في خانة المتواطئين كما يوضع البيض كله في سلة واحدة فالنظام السابق كان يولي عناية خاصة بمن كانوا على استعداد لبيع ذممهم إلى الشيطان ذاته ومستعدين لا لضرب البندير أو تبديل الحقائق فقط بل للوشاية والتضليل أيضا، ولو تعلقت همة هذا الشريط بشهادة مرئية لعبد الوهاب عبد الله المتهم باغتصاب هؤلاء ثلاثة وعشرين عاما لقال بلا شكّ إن المواقعة كانت برضاهم وأنه لم يجبر أحدا على خلع سراويله، فطوابير الراغبين في بيع أنفسهم كانت أطول مما يتخيل المرء، ولقال أيضا إن النظام كان يجزي العطاء لمن يبدع أكثر في بذل نفسه وفي القوادة على حدّ سواء! ولربما أشار بالبنان إلى بعض الذين يصولون ويجولون اليوم في مواقع جد متقدمة بفضل ما مارسوه من بغاء علني في العهد السابق ويواصلون ذلك اليوم لأنهم صالحون لكل العهود ولأن المومس من طبعها ألا تتوب كما إن الحجرة أبدا لا تذوب.
——————————-
عامر بوعزة





