صغار السن، الذين بالكاد يقرأون ما هو مقرر لهم في حصص التشجيع على المطالعة في مدارسهم لا يعرفون خليفة الأقرع!
هي قصة قصيرة للبشير خريف أب الرواية في تونس نشرها ضمن مجموعته القصصية مشموم الفل، وأخرجها للسينما حمودة بن حليمة تحكي عن رجل يحمل هذا الاسم لأنه مصاب بمرض جلدي في رأسه، وخولت له هذه العاهة أن يكون محلّ ثقة “رجال المدينة” فيدخل بيوتهم لقضاء حاجات شتى. لأنه أقرع دخل خليفة عالم النساء المغلق واكتشف أسرارهن وخطاياهن واستأنسن به في قضاء شؤونهن العاطفية المحرمة ونزواتهن. وكانت رسالة البشير خريف من وراء هذه الحكاية الطريفة واضحةً أراد أن يقول فيها إن الفساد الأخلاقي لا صلة له بالتحرّر، فهو ينقد بسخرية لاذعة المجتمع التقليدي المحافظ الذي يبدو من الخارج مجتمع الفضيلة والصلاح بينما يكفي التسلل إلى داخله لاكتشاف كمّ هائل من الرذائل، ورجال الحومة في هذه القصة كانوا يعتقدون أن خليفة الأقرع برأس سليم يغطيه الشعر سيكون رجلا “كاملا” ولن يحق له دخول بيوتهم لأنه سيحمل معه فيروس الرذيلة دون أن ينتبهوا إلى أن الرّذيلة تسكن بيوتهم! ولهذا نرى بطل القصة عند بوبكر الدقاز يطلب منه أن يفعل له شيئا لتبقى الدملة في رأسه فهي جواز سفره إلى عالم الحريم والأسرار الدافئة، تلك الدملة منحته معرفة كاملة رغم أنهم من خارج الدائرة المغلقة يعتبرونه رجلا ناقصا.
مع كل ضجة يثيرها برنامج تلفزيوني غير اعتيادي تعود إلى ذهني صورة خليفة الأقرع ورجال الحومة الذين يعتقدون أنهم أهل الصلاح والتُّـقى وأن نساءهم نساء الفضيلة والنهى بينما تكفي دمّلة في رأس خليفة الأقرع لتكشف الغطاء عن المستور وتظهر الفارق بين الصورة الظاهرة وأصلها المخفي، وبرامج التلفزيون هي التي تكشف اليوم ما يجول وراء الأبواب المغلقة وتعرّي الخطايا التي يتستر عليها الناس، وفي كل حادثة يكون الإعلام التلفزيوني بطلها يتجدد السؤال: هل من واجب هذا الإعلام أن يغطي أم أن يعري؟، ما هي إذن خطيئة الإعلام سابقا والتي أُلصقت فيه بسببها تهمةُ العار؟ أليست التغطية والابتعاد عن الواقع؟ إنه إعلام يرى خصومُه أنه لم يُحدِّث الناس عن الفقر والجور والمظالم السياسية وكان يغطي سوأة الحاكم!.
واليومَ، وفي ظلّ حرّية إعلامية غير مسبوقة ما يزال المجتمع يُمارس النفاق ويجاهد للاحتفاظ بصورتين متناقضتين للشيء ذاته، فالناس يشاهدون برامج سمير الوافي ثم يطلقون عليها النار!، يمنحونها أعلى نسب المشاهدة ثم ينفقون بقية الأسبوع في سبّها!، إنهم يفعلون تماما ما فعله الوزير الذي فتح تحقيقا للبحث عن مسرّب وثيقة أدانته دون إنكار وجودها، ففي كل مرة ينكشف فيها خلل لابدّ من إطلاق النار على من كشفه أولا، ثم الاجتهاد في تبريره وإعادة إخفائه بسرعة عن العيون دون التفكير مطلقا في مواجهته. مثلنا في ذلك مثل النكتة البليغة التي كانت العامة تتداولها عن دولة فاسدة أقامت مستشفى حذو الحفرة الموجودة في الطريق العام حتى تعالج كلّ من يقع فيها!
في هذا السياق وتفاعلا مع حصّة الإرهاب التي قدّمها سمير الوافي، لا أحد تحدّث عن رجل القانون ورجل الدين اللذين يرفعان بن لادن ومن دان بدينه إلى مقام الشهداء، بينما انصبت السكاكين على الوافي!.
لقد فضح البرنامج حقيقةً نُجاهد في إنكارها وهي أن الإرهاب ظاهرةٌ تتجاوز حمل السلاح في وجه الدولة بل إن جذورَها أعمقُ وأبعدُ وسندَها الفكريَّ والثقافيَّ قائمٌ في المجتمع داخل النوادي والبيوت والمقاهي، الإرهاب عقلية كاملة والمواجهات الأمنية هي الجزء الظاهر من جبل الجليد، أما ما خفي فقد كان أعظم. هذه الحقيقة تخالف الصورة النمطية التي نريد تسويقها وهي أن الإرهاب ظاهرة وافدة علينا وطارئة من السهل مقاومتها وأن التونسيين شعب متسامح منفتح يرفض التعصب والتطرف. وردود الفعلِ هذه هي نفسها خارجة من الماكينة السابقة التي لا تجابه الحقائق بل تمعن في إخفائها تحت طائلة “صورة تونس في الخارج والأمن والاستقرار!”. ماذا نفعل إذن أمام دمّـلة خليفة الأقرع؟
لقد تذكّر الجميع فجأة أن الشهادات العلمية مقدّسةٌ وأنه من العار ألا يُعرف المستوى المدرسي لمقدِّم برنامج تلفزي مثير!، ورقة “جوكير” ماتزال صالحة للاستعمال لدى شعب حكمه طيلة ثلاثة وعشرين عاما رئيس مطرود من الرابعة ثانوي، ولو أرادوا لجعلوا عدم امتلاك الشهادات مزية عظيمة فنحن أكبر شعب مختص في امتداح العصامية والعصاميـين، هكذا نحن دوما هكذا، التهم جاهزة ليس عليك الا أن تفتح الدرج، ستجد الشيء ونقيضه!، والحقيقة أنك إذا نظرت إلى المسألة من زاوية أخرى أكثر براغماتية رأيتَ أن للوافي أسلوبا في الكتابة متفرّدًا، وقلّما وجدتَ بين من يمتهن الصحافة عندنا من يمتلك أسلوبه الخاص، تلك موهبة سمير الوافي الأصلية، نتحدث هنا عن أسلوب وجمالية بينما ماتزال نصوص كثيرين من حملة الماجيستير ترفل في الأخطاء النحوية والصرفية والتراكيب السقيمة.
ليس هذا دفاعا عن سمير الوافي ولكن لا حرج في أن يُقرأ كذلك، فأخطاء الرجل لا تستحق كل هذا الفزع وليس ثمة أصلا عملٌ صحفي كامل إذِ المهمُّ دائما هو تحقيق نسب مشاهدة عالية مع أقل قدر ممكن من الأخطاء، وقد صار لدينا في تونس برامج تلفزيونية مثيرة للجدل وذات تأثير واسع النطاق بعد أن تركت القنوات الخاصة الربحية الركود والبرامج المملّة المتشابهة للتلفزيون الرَّسمي يتمتع ما طاب له بانضباطها ورتابة مقدميها وخلوّها من الأخطاء! ولذلك لا أصفّق كثيرا للحفل المجوسي الذي أضرمت نيرانه الحلقة الأخيرة من برنامج “لمن يجرؤ فقط” حول سمير الوافي لأن النار التي ستحرقه هي ذاتها التي حرقت وتحرق دائما كل من يجرؤ على الابتعاد قليلا عن مربّع الخوف وارتكاب خطيئة التحليق خارج السرب!