تلفت انتباهك رواية أمين الغزي الصادرة عن دار زينب للنشر والمتوّجة بجائزة الاتّحاد الأوروبي للأدب لسنة 2021، بالإشارة في صفحة الغلاف إلى ليلة 14 جانفي 2011. فلا تدري بدءا إن كانت تلك الإشارة عنوانا فرعيا إلى جانب عبارة (زندالي) التي تقوم مقام العنوان الرئيسي أم إنها تقوم مقام المضاف إليه، ولا يمكن قراءة العنوان إلا مركبا كاملا من هذين العبارتين. وبالنظر إلى الأهمية الرمزية التي يكتسيها هذا التاريخ وغموض الأحداث التي وقعت فيه ورافقت الرئيس الراحل زين العابدين بن علي إلى منفاه في المملكة العربية السعودية يمكن اعتبار هذا العنوان المُركّب مفتاح الرواية الأساسي.

الوظيفة الأولى لهذا العنوان الفرعي (وهي الفرضية البديهية باعتبار الإخراج البصري الذي وضع هذا التاريخ تحت عبارة زندالي) تتمثل في تحديد الإطار الزماني الذي تقع فيه أحداث الرواية. إنها تستغرق ليلة واحدة تبدأ من لحظة ظهور الوزير الأول الأسبق مرفوقا برئيس مجلس النواب ورئيس مجلس المستشارين على شاشة التلفاز للإعلان عن شغور مؤقت في منصب الرئاسة. ويمثل هذا المشهد الفقرة الأولى في الرواية حيث قام الكاتب بنقل الصورة التلفزيونية المعروفة بشكل مختلف، فبدا محمد الغنوشي «كمن اصطاد سمكة لأول مرة» وظهر فؤاد المبزع «كخزانة عريقة»، أما عبد الله القلال فكانت «ذراعاه وراء ظهره كمن يتشبث بإهداء الحلوى لحبيبة لم تأت».

الإعلان عن شغور منصب الرئيس
الإعلان عن شغور منصب الرئيس

لقد أعاد أمين الغزي كتابة مشهد رآه التونسيون جميعا بطريقة تجمع بين الشعر والسينما. يقع الشعر في قدرته على النفاذ إلى ما وراء الحركات والوجوه والانفعالات والتعبير عن ذلك بطاقة تخييلية واسعة تقوم على تقريب المتباعدات وابتكار الغرابة والدهشة وهو أسّ الصورة الشعرية الفارقة، يتجلّى ذلك مثلا في وصفه شعار الجمهورية البادي خلف المسؤولين الثلاث وهم يعلنون رحيل الرئيس وكيف بدا «الأسد بساقيه الغليظتين يحارب الفراغ بسيفه المسلول ويخفي ذيله خلف رأس الرئيس الجديد!»

أما السينما فتقع أولا في أسلوب الكتابة المشهدي والتقطيع البصري، والنص لا يختلف كثيرا هنا عن ورقة السيناريو التي يفتتحها المؤلف بوصف الإطار العام، فالأحداث تنطلق من مقهى شعبي في سوسة، حيث يشاهد جمع من المواطنين كلمة الوزير الأول على التلفاز، بعد ذلك ينتقل الكاتب/المخرج ليتقصّى أثر الخطاب وردود الفعل على وجوه الحاضرين مستخدما تقنيات اللقطة المكبرة والتبئير لاستغلال التفاصيل الصغيرة ورصد الانفعالات. وبواسطة الجمع بين الشعر والسينما يفضي بنا المشهد الافتتاحي إلى رؤية مركزية تتأسس عليها البنية السردية، فالكاتب يرى أن «البلاد أجبرت على الاختيار بين هيبة تقدم لها بأياد مرتبكة وحمق يعبّر عن نفسه بطيش»، ويقرر أن الجماهير «اختارت شقّ طريق الحرية بحمق وحماس».

كما تتجلى السينما في كثافة الحيز الزمني الذي تدور فيه الأحداث، ويشار هنا إلى أن كثيرا من الأعمال السينمائية التي تعاملت مع الثورة في مصر مثلا

14 جانفي 2011
14 جانفي 2011

اعتمدت هذه التقنية التي تقوم على اختزال الزمان والمكان وأشهرها فيلم «اشتباك» الذي نقل المجتمع المصري وثورته العارمة إلى شاحنة بوليس تخترق شوارع العاصمة يوما كاملا، وعلى هذه الشاكلة قرأ أمين الغزي الثورة التونسية في تلك الساعات الأولى التي هرع فيها المواطنون البسطاء إلى حراسة أحيائهم في مناخ يسوده الخوف والتوجس وانتظار المجهول.

أدبيا يضعنا العنوان الفرعي أمام جنس مخصوص من السرد، وهو القصة الطويلة أو الرواية القصيرة (نوفيلا) على شاكلة معظم أعمال النمساوي «ستيفان زفايغ» الشهيرة التي تستغرق أحداثها زمنا أقصر من زمن الرواية بكثير وتتكثّف حول قلّة من الشخصيات مع قدرة عظيمة على النفاذ إلى أعماق الذات البشرية وسبر أغوارها. وعلى خطى زفايفغ استطاع أمين الغزي أن ينفذ في ساعات الليل القليلة تلك إلى أعماق شخصياته: نوفل وعبد الواحد، والحاج حميدة وهشام ابنه، وحمزة، وعم محمد، وعلي الدّو أستاذ التاريخ، والبكما وحياة وزوجها الشرطي الشاف الطاهر والباندي وغيرهم ممن يؤثثون هذا المشهد الليلي الغامض، ومن خلال المراوحة بين الداخل حيث الزوجة تنتظر زوجها والخارج حيث تنتظر لجنة الحراسة التي تشكلت على عجل حدوث شيء ما، تميزت البورتريهات التي أنجزها لهذه الشخصيات بالقِصر والتكثيف الرمزي مع ميل كبير إلى الإيحاء والتلميح، نجد ذلك مثلا في الإشارة إلى الجار «صاحب الشعر المصفوف» الذي كان من الواضح أنه يتقدّم من مجموعة الحراسة الليلية بحذر شديد وأنه يتملّقها بالقول بأنه مع الثورة منذ انطلقت وأنه يترحّم على روح البوعزيزي، وبإرسال ابنه قيس محملا بقارورة ماء وإبريق من الشاي، فبدت صورة رجل الطبقة الوسطى الذي أربكه حدث الثورة غير المتوقع كاريكاتورية لمّاحة. كما لم تتوقف هذه البورتريهات عند الظاهر الخارجي من شخصيات القصّة بل ارتكزت إلى مخزون اللاوعي الذي يعبر عن نفسه في حالات السكر، وفي هذا السياق تقع أجمل مشاهد الرواية إطلاقا، عندما يسرد الكاتب جانبا من يوميات علي الدّو مع تلاميذه في المعهد وما يراه في حالات لاوعيه: «المدير يكتب تقارير بوليسية في الأساتذة ويرسلها إلى الدوعاجي. رئيس الجمهورية منور صمادح يتباحث مع وزيره تقفران في أمور امتداد الجنون وانحسار الغضب وتبعثر الكلمات. يهرهر سائق التاكسي مع الشابي كنهر داهمه غيث في الصحراء…» وبمثل هذا المشهد الذي لا يوجد في الواقع انما في ذهن الدّو الأستاذ الذي سيتولى تدريس التلاميذ تاريخا جديدا يضاف إلى تواريخ أخرى حاسمة في ذاكرة البلاد تنغلق الرواية: «قال منور صمادح مؤكدا: كأننا خرجنا من نفس السجن، كأننا نصدح بأغانيه. خلع علي الدوعاجي شاشيته وأخرج منها علبة نفة وأردف ساخرا: كأننا خرجنا من نفس الحانة أو لعل الشارع صار حانة بلا سقف». وهكذا تنتهي الرواية التي بدأت من الواقع المشترك بين كل التونسيين إلى لحظة خاصة جدا في ذهن أحد أبطالها وأحلامه، وهو السياق الأول الذي يشار فيه إلى (الزندالي: أغاني السجون) في إضاءة خاطفة وسريعة على العنوان الرئيسي وارتباطه بالمتن السردي. لقد شكل مشهد الافتتاح جسرا بين الواقع التاريخي الماثل في ذاكرة كل التونسيين والعالم الروائي الذي بناه أمين الغزي في حيّز زماني ومكاني مكثف وقادتنا هذه الرحلة الليلية إلى زاوية ما في ذاكرة أستاذ التاريخ السكران.

        لعل هذه الرواية أن تكون العمل الأدبي الأول الذي يتعامل مباشرة مع حدث 14 جانفي بمثل هذه الكيفية، أعني التناول المباشر للأحداث والوقائع التي يلفها إلى الآن الكثير من الغموض، ويحسب لكاتبها قدرته على المشي فوق حبل التاريخ دون الوقوع في فخ المباشرة والإسقاط الإيديولوجي، بل إن الرؤية التي عبر عنها تحفل بالسخرية وترتقي بالأحداث من القراءة العادية المسطحة إلى عالم المشاعر الإنسانية العظيمة، هكذا بدت تلك الرصاصة التي انطلقت ولم يفهم أحد من أطلقها وهي تعبر عن لوعة امرأة عاشقة تنتظر في غياهب الليل عودة زوجها (لا يهم هنا إن كان ضابط شرطة أو كان قاتلا للثوار أم لا، المهم أنه أب وزوج حنون). وهكذا أخرج الغزي أحداث الثورة من بوتقة الثنائيات: الضحية والجلاد، الثوري والزلم، البطل واللص، ليعري الجميع ويظهر ما في أعماقهم من مشاعر متشابهة يوحد بينها الخوف من المجهول.

أيا كانت طريقتنا في قراءة العنوان فإن المسافة التي تفصل العبارتين شاسعة فبينما تحيل عبارة «زندالي» على أجواء السجون أصبح يوم 14 جانفي 2011 رمزا للحرية.  لكن الشعب في هذه القصّة يبدو كالعصفور الذي لم يبتعد كثيرا عن القفص عندما فتح الباب فجأة وأتيح له أن يغادره قليلا، فالغالب على أجواء تلك الليلة أن انقلابا عسكريا وقع ولم يتحدّث أحد عن ثورة، أما حراسة الحيّ فترمز إلى حراسة الواقع كما هو في انتظار السجان الجديد، وبدت كل شخصية سجينة الموجود وغير قادرة على التحرر منه والمبادرة بتغيير الواقع.

ولئن تفادى الكاتب أن يطرح موقفا مباشرا من الثورة أو تفسيرا سياسيا فجّا فإنّ القارئ يتفطن بوضوح إلى رمزية فعل الانتظار الذي استوحاه من مسرحية (في انتظار غودو) الملهمة، فالجميع ينتظرون: الزوجة تنتظر زوجها، وحراس الليل ينتظرون ملثمين موالين للرئيس الهارب سيهجمون، وآخرون ينتظرون البيان رقم واحد ويتلهفون لرؤية قائد ببزة عسكرية يتولى زمام الأمور. الانتظار هو بطل الرواية لأنه انتظار المجهول. تشكلت لجان لحراسة الأحياء لكن أفرادها لا يعرفون بالضبط من أين سيأتي الخطر، وكلهم ينتظرون حدوث شيء ما لأن ذلك سيضفي قيمة ومعنى على وجودهم ذاك وسيجعلهم مشاركين في الثورة! وفي هذا السياق يبدو سؤال العم محمد عندما استيقظ من غفوته «أين الأعداء؟» العبارة التي تختصر مأساة الثورة التونسية الحقيقية. ففي تلك اللحظات الأولى من زمن ما بعد بن علي لم يكن أحد يعرف بالتدقيق أين الأعداء؟ ومن هم بالضبط؟