تونس – الحبيب لسود – دبي الثقافية
هو واحد من جيل شعري تفتحت قريحته خلال الثمانينات من القرن الماضي ورسّخ حضوره في التسعينات بتجربة متفردة تتجه نحو التكثيف والاختزال والتنوع ، فالتقارب بين الأسلوب الفوتوغرافي والتعبير الشعري شديد الوضوح لديه سيما في النصوص القصيرة التي تقدم المشهد اليومي بشكل مختلف، والأفكار السياسية والاجتماعية أكثر شفافية في نصوص يمكن إدراجها ضمن فن الكوميديا السوداء ، الكتابة لدى الشاعر عامر بوعزة ترتبط بالواقع ارتباطا متينا حيث الأزمنة والأمكنة والوجوه مألوفة لكنها تصير كائنات لغوية مفعمة بالدلالات في عالم شعري يشبه الحلم.
وبوعزة الذي يقيم الآن في دولة قطر حيث يعمل في قطاع الإعلام من مواليد 1966 بتونس العاصمة حائز على الماجيستير في اللغة والآداب العربية وأنتج في الإذاعة والتلفزيون برامج ثقافية واجتماعية وسياسية عديدة توج بعضها محليا وعربيا، صدر له (غابة تتذكر أحزانها) دار إنانا للنشر تونس 2011،و الأنين المتصاعد من أحلام النيام –دار شمس للنشر والإعلام بالقاهرة 2014، وصدر له مؤخرا كتاب نقدي بعنوان فاته أن يكون ملاكا وهو دراسة نقدية في سيرة محمد شكري الذاتية ، عن دار البدوي للنشر والتوزيع 2015، وينتظر أن يصدر له قريبا كتاب نثري بعنوان: نظرية الموز، صور ومشاهد من زمن بن علي.
معه كان هذا الحوار
في مجموعتك الشعرية الأنين المتصاعد من أحلام النيام الصادرة في 2014 عن دار شمس للنشر والتوزيع بالقاهرة نلمس تجذيرا للواقعي واليومي في النص الشعري، فضلا عن المراوحة بين التفعيلة والنثر، فما هي الخلفية النظرية التي تصدر عنها هذه التجربة؟
منطلقات الكتابة الشعرية عندي هي الرؤية والاختلاف، فما يميز الكاتب والفنان عموما هو قدرته على اختراق الأشياء والعالم، من ثمة تتحدّد المسافة الفاصلة بين المجاز والواقع، تلك التي يسميها بعض النقاد المحدثين بؤرة التوتر، لذلك فإن النص يعبر بالضرورة عن الواقع ويحيل عليه ويتحاور معه وأحيانا يلقي الضوء على ما هو معتم فيه ويتجاوزه بالرؤيا. في نص “تلفزة أولاد أحمد” مثلا صورة من الواقع الكافكوي الذي انتهت إليه المدينة في مرحلة الاستبداد السياسي حيث يتجلى الموات في أكثر من صورة كما يتجلى العدم في انتفاء القيمة، ولذلك يقارب هذا النص النثري حالة اللامعنى فيما يشبه الكوميديا السوداء إذ تتساوى الأضداد وتنتفي الفوارق بين المتضادات تحت وطأة القحط، كما في “كشك عبد السلام” التي تقترب أكثر من مناخات الثورة وتقدم صورة المنتحر حرقا في مواجهة ميؤوس منها مع السلطة القائمة. النصوص كلها تنطلق من مشاهدات ووقائع ولحظات أو حالات ما لكنها تتحوّل إلى مشهد لغوي يلعب فيه الإيقاع دورا أساسيا فالغنائية تظل من أساسيات التعبير الشعري في تصورنا حتى وإن كانت بعض النصوص تنتمي إلى مجال النثر فهي تمتلك غنائيتها الخاصة كأن تستبطن إيقاع الشوارع وفوضاها. الكتابة تعبير عن الواقع والذات، لا يخرج شعرنا العربي الحديث عن هذه الخلفية خصوصا وأن عصرنا هو عصر الرواية ويشهد تراجعا حادا في الإقبال على الشعر.
واقعية النصوص من المجموعة الأولى إلى الثانية مرتبطة بالأسماء والأماكن وأحيانا الأزمنة، فكيف يمكن للشعر وهو لغة المطلق أن يتصل بهذه العناصر دون أن يقع في المباشرة؟
لا معنى للغة مجردة من ذاكرتها، والشعر عندي احتفال لغوي بالعالم، من ثمة كانت الوجوه والأسماء والنصوص والوقائع المرتكزات الأساسية لنصوصي الشعرية منذ المجموعة الأولى (غابة تتذكر أحزانها)، الاشتغال الحقيقي على النص هو تحويل اليومي إلى لحظة شعرية خالدة وتأصيل النص في ظرفيته لا يختلف ومعدن الشعر الأصيل، نحن ورثة ذاكرة شعرية لو تأملناها جيدا لوجدنا أنها كانت تعبر عن عصرها أكثر مما ترفرف في المطلق لكن قوتها الإبداعية هي التي جعلتها تتجاوز عصرها وها نحن نعاود تجربة الأسلاف برؤى مغايرة وحيل فنية تنتمي إلينا لكن الجوهر واحد.
يشار دائما إلى غياب المثقف والمبدع في تونس عن سياق ثورته التي كانت منطلقا للربيع العربي مما جعله يتنازل عن دوره الريادي في إحداث التغيير والتبشير به بل يتهم المثقف بتزييف الرأي العام فكيف تعيش هذه المفارقة؟
أعتقد أن هناك خلطا مُتعمّدا لدى من يسعون إلى الاستحواذ على المنجز الثوري بين التبشير بالتغيير وإحداثه فعليا في الواقع، الشعراء والفنانون والمثقفون لا يمثلون خطا واحدا بل فسيفساء من المواقف والاتجاهات والأفكار، هناك خط الموالاة والتمعش من الاستبداد وهناك خط الإخلاص الحقيقي للفن والنظر إلى الواقع بعمق نقدي. لم يكن النص الإبداعي في منأى عن الحراك الثوري وما حدث على أرض الواقع نجده مبثوثا في المسرح والسينما والقصائد وحتى الأغاني، ولكن تعوزنا اليوم القراءة الهادئة والموضوعية لهذه المدونة التي كتبت عن الاستبداد وبشرت بالخلاص، هناك أزمة قراءة في مجتمعنا ولكن تنضاف إليها اليوم أزمة قطيعة سياسية بين اتجاهات لا تريد الاعتراف بدولة الاستقلال وبأكثر من نصف قرن من التراكم الثقافي والاجتماعي نتيجته هذا الواقع الذي نعيش. بالنسبة إليّ أؤكّد أن نصوص مجموعتي الأخيرة الأنين المتصاعد من أحلام النيام كتبت خلال السنوات التي سبقت الثورة وفيها إرهاصات لما حدث في النهاية، علاقة الكتابة بالثورات لا تقتصر على الحماسة والتحريض هي أيضا قراءة الواقع والنفاذ إلى عمقه أيضا.
هذا عن الاستباق والاستشراف لكن كيف تبدو معايشة الشعر العربي للتحولات التي تعصف بالمجتمع في ظل الربيع العربي؟
السؤال لا يختص به الشعر بل هو مطروح على مختلف التعبيرات الفنية، فالتحولات المجتمعية سريعة جدا وما نشهده اليوم يعادل ما عاشته أجيال أخرى في عقود كاملة من ثمة كان المأزق في علاقة النص الإبداعي عامة بالواقع المتحوّل، ونحن نعيش في ظل هذه المتغيرات انحسار الضوء على التجارب الكبرى وخفوت وهجها الذي كان منذ نصف قرن زمن الأحلام الكبيرة، لكن لا أعتقد أنه ثمة ما يستدعي الزج بالتجربة الشعرية في خضمّ هذه الدوامة العنيفة فالشعر ينظر إلى الوجود في كليته ولا يقتصر على معايشة الآني في ظرفيته وتاريخيته، ما نعيشه اليوم لم يتجلّ بعد في قصائد مدهشة ومجددة والتجارب القليلة التي تفاعلت مع الثورات لم تخرج عن دائرة الانبهار والوصف ومحاولة النفاذ إلى عمق اللحظة بسرعة.
نشرت كتابك الثاني في القاهرة وأنت مقيم في الخليج العربي فكيف ترى حضور الإبداع التونسي في المشهد العربي عامة؟
صعوبات النشر متشابهة في مختلف البلدان العربي ولكن هناك تقصير واضح من قبل الأجهزة الثقافية الرسمية في تونس في التعريف بالإنتاج الثقافي الوطني في المشرق والخليج وحضور المؤسسات الرسمية في معارض الكتاب ضعيف وأحيانا منعدم، لا يمكن الاطمئنان بسهولة إلى الإجابات التقليدية عن واقع التبادل الثقافي العربي والتذرع بقلة القراءة، فالخارطة الثقافية العربية بصدد التحول والانزياح ومراكز القوى التقليدية تتراجع لفائدة مراكز جديدة، الخليج العربي اليوم يمثل نقطة جذب هامة وذلك ما لم تنتبه إليه السلط الثقافية عندنا، هناك عمل كبير ينتظرنا لتوصيل التجارب المحلية إلى الأفق العربي وتجاوز هذه الثنائية التقليدية بين المشرق والمغرب.
أن يكون الشاعر إْعلاميا هل يؤثر ذلك بالسلب أم بالإيجاب على تجربته ؟ ثم آلا ترى أن الصحافة تأخذ الكثير من وقت الشاعر بما قد يتسبب في هيمنة قلم الصحفي على قلم الشاعر ؟
أن تكون إعلاميا معناه أن تكون دائما في قلب الحدث، تعايش عصرك لحظة بلحظة دون أن تجد الوقت الكافي للتأمل والابتعاد مسافة كافية لتعميق الرؤية لهذا يصعب جدا التوفيق بين الكتابة الشعرية والعمل الصحفي، الصحافة تهيمن على روح الشاعر وتأخذه بعيدا عن الينابيع الأولى بل وتزج به في دوامة عنيفة. لهذا السبب لا يمكن للإعلامي أن يكتب بغزارة أو بإسهاب وتتكثف الكتابة بشكل يجعل النص أقرب إلى الومضة. لكن الشعر يلقي دائما بظلاله على النص الصحفي ويتسلّل إلى التقارير في المفردات وإيقاع الكتابة وهذا أمر إيجابي.