المناضلة الجزائرية جميلة بوعزة
من أجمل النصوص التي كنت أدرسها بشغف لتلاميذ الصف الثاني من التعليم الثانوي نص عنوانه «كلنا جميلة». لا تحضرني الآن تفاصيله بدقّة بعد مضي زمن طويل على ذلك الزمن الجميل، لكن أذكر بوضوح أنني كنت أدرسه بفخر وحماس كبيرين، فهو يروي بشكل قصصي متخيّل سيرة المجاهدة جميلة بوعزة، والظروف التي التحقت فيها بالثورة الجزائرية وكيف اقتدت بجميلة بوحيرد وجعلت من تطابق اسميهما مدخلا طريفا لإقناع أهلها بأن الانضمام إلى الثورة ليس شأنا خاصا أو اختيارا فرديا إنما هو واجب وطني، وذلك ما تعنيه عبارة العنوان: «كلنا جميلة».
كانت تلك واحدة من أهمّ الزوايا التي ينهض عليها درس العربية ذاك في محور «حب الوطن»، أما طرافة ذلك النص بالذات فتكمن في التعريف بجميلتين من جميلات الثورة الجزائرية في آن معا، جميلة بوعزة التي نفذت واحدة من أكثر عمليات التفجير دموية في قلب العاصمة الجزائرية يوم السادس والعشرين من يناير 1957، وجميلة بوحيرد العقل المدبر لكثير من العمليات الفدائية والتي أصبحت أسطورة الثورة وملهمة الشعراء والكتاب والفنانين بوصفها رمزا يخلد في ذاكرة الأجيال دور المرأة الجزائرية في النضال من أجل الحرية والعزة والكرامة.
محاكمة جميلة بوعزة
وقد كان لزاما في هذا الدرس أن نفتح دائما قوسين حتى يتوقف التلاميذ الأشقياء عن التغامز والهمس تعليقا على الاشتراك في اللقب بين المدرس وبطلة الدرس، لم يكن في ذلك ما يدعو إلى الزجر، بل كانت فرصة مناسبة للإشارة إلى أن كثيرا من الألقاب موجودة ومنتشرة في مختلف بلدان المغرب العربي لأسباب تتعلق تاريخيا بحركة القبائل والعروش وحلها وترحالها. فلقب بوعزة منتشر كثيرا في المغرب والجزائر، أما من يحملونه في تونس فأقل بكثير وموجودون في الساحل بنسبة كبيرة وفي مناطق متفرقة من البلاد دون أن تكون بينهم روابط معروفة أو انتماءات إلى جذور مشتركة. لكن لا يمكن للمرء أن يتعالى البتة عن مشاعر الفخر تستيقظ في أعماقه وهو ينطق اسم المناضلة الجزائرية الذي يتطابق مع اسمه هو. إنها قرابة من نوع خاص، ليس ضروريا أن تفسرها الانتماءات القبلية أو العائلية. بل كان ذلك مدخلا مناسبا للحديث عن أواصر القربى بين الشعبين التونسي والجزائري والدعم الكبير الذي قدمته تونس للثورة الجزائرية في سنوات الاستقلال الأولى، فوالدة جميلة بوحيرد تونسية الأصل، والكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي مولودة في بيت من بيوت تونس العتيقة، ومفدي زكريا شاعر الثورة وصاحب نشيدها درس في بلادنا، كما هو شأن الكاتب عبد الحميد بن هدوقة الذي عمل طويلا في الإذاعة التونسية، والأمثلة أكثر من أن تحصى.
جميلة بوباشا بقلم بيكاسو
جميلة بوحيرد وجميلة بوعزة كانتا ضمن ست نساء حكم عليهن الاستعمار الفرنسي بالإعدام، ولئن كانت الأولى هي أشهر المجاهدات إطلاقا فلأن كرسي الزعامة العربي لا يتسع لشخصين أبدا، وينبغي الحفر عميقا في ذاكرة الثورة الجزائرية لإظهار جميلات أخريات مثل الكاتبة والأستاذة الجامعية «دانيال مين» التي شاركت في عمليات جانفي 1957 الفدائية وهي في الثامنة عشرة من العمر، واختارت بعد الاستقلال الجنسية الجزائرية، واسم«جميلة عمران» وقد توفيت العام 2017 مخلّفة أعمالا عديدة منها كتاب عنوانه «النساء الجزائريات والحرب التحريرية». وكذلك «جميلة بوباشا» التي ألقي القبض عليها وهي بصدد القيام بعملية فدائية، فتعرضت في السجن إلى أبشع أشكال التعذيب الجسدي، وحكم عليها بالإعدام سنة 1961، لكن محاكمتها أثارت أيضا اهتماما دوليا كبيرا كما حدث في محاكمة بوحيرد، وتعاطف معها بشكل خاص جون بول سارتر ورفيقة دربه سيمون دي بوفوار التي كتبت عنها بمعية محاميتها جيزيل حليمي كتابا رسم صورة غلافه الرسام العالمي بابلو بيكاسو. ثم أطلق سراحها في العفو التشريعي سنة 1962 وانضمت إلى أول مجلس وطني في الجزائر بعد الاستقلال.
في العام 2015 توفيت المناضلة الجزائرية جميلة بوعزة عن سن تناهز الثامنة والسبعين عاما ولو كانت على قيد الحياة لخرجت اليوم مع الشباب إلى الشارع توقا للحرية، فثورة التحرير التي انحنى لها ضمير العالم إجلالا افترست ككل الثورات أبناءها. يروي بوصوف عبود زوج جميلة بوعزة الذي قضى جزءا كبيرا
جميلة بوحيرد
من حياته في سجون دولة الاستقلال منذ الانقلاب على أحمد بن بلة، في شهادة مؤثرة كيف هاجم البوليس السياسي المسمى بالأمن العسكري بيتهما في سبتمبر 1983 لينتزع منهما كل ما يؤرخ لنضالهما المشترك وتاريخهما المشرف ومنذ ذلك التاريخ أصبحت الأسرة لا تقوى حتى على توفير حاجاتها الأساسية.
عندما نقرأ قصص جميلات الجزائر اللواتي وهبن أنفسهن للوطن وهن في مطلع العشرينات من العمر، نشعر بنفس الأسى الذي عبرت عنه أحلام مستغانمي حين تحدثت عن ظروف ولادة روايتها الشهيرة ذاكرة الجسد، قالت: «كتبتها كالطلقة، دفعة واحدة، كنت مدعوة إلى حفل ديبلوماسي وارتديت الثوب القسنطيني، كنت كمن يحمل الجزائر على جسده، الجزائر الأصلية، لا تلك التي يعرفها الناس بأغنية الشاب خالد ديدي». جرى هذا الحوار في أوج العشرية السوداء عندما كانت الجزائر تنزف، وكنا في الملتقيات الأدبية نتلهف لملاقاة أدباء الجزائر وكتابها، الذين كانوا يكتبون حزنهم وحنينهم في المنافي القسرية تنديدا بالموت وقد صار خبزا يوميا في بلد المليون شهيد. وكانت تونس قد أصبحت آنذاك مرة أخرى ملاذا آمنا وبيتا دافئا لكل الجزائريين.