small_old_couvأتاحت لي عزلة كورونا المجيدة قراءة ثانية في كتاب “نظرية الموز” للصديق العزيز الصحفي والشاعر التونسي عامر بوعزة الذي صدر في العام ٢٠١٦.

يتألف هذا الكتاب النبيل والساخر من مجموعة نصوص ومقالات قصيرة مكثفة، بالغة الكمال في أفكارها، صانعة قوسًا إنسانيًا واسعًا فوق قريتنا الكونية، من الأدب إلى الصحافة والإعلام إلى العولمة إلى الطبقة الوسطى إلى فيروز ومحمود درويش وبورقيبة والقاهرة وغزة وكوبا وأشياء أخرى، وهي على كل حال تقرأ بأكثر من وجه، متجاوزة بذلك الفضاء التونسي بإشارات وإحالات ذكية إلى فضاءات أخرى أوسع تشملنا بعذاب الذاكرة طالما أننا وقعنا جميعًا في فخ العولمة.

نصوص بوعزة كتبت بخليط سحري من النوستالجيا والسخرية حول تلاشي الطبقة الوسطى التي كان الموز أحد أهم رموزها في الموائد وفي الذاكرة التونسية قبل سقوط جدار برلين، وتلك حكاية أخرى تشبه حكايتنا أيضًا. يعبر القاريء إلى نصوص الكتاب من خلال عتبة قصيرة، هي ملخص مكثف لكتاب (فخ العولمة) للكاتبيْن (هانس بيتر مارتن – هارالد شومان)الذي صدر ١٩٩٦ وتنبأ بديكتاتورية السوق والإعلام الموجه والقيم الجديدة الخالية من أية مضامين إنسانية، في ظل هيمنة النموذج الأمريكي على العالم، والأهم أن الثروة ستتركز في حجر خمس سكان العالم، وسيصبح الـ ٨٠٪؜ عاطلين ومعوزين وفائضين عن الحاجة!

حامد الناظر

حامد الناظر

يقول بوعزة “انتهت حكايتنا مع الموز، ولم ينتبه أحدٌ إلى أن ذلك النصر تحقق بفضل العولمة، وكان على الذين ناهضوا العولمة أن يفكروا قليلاً قبل الإصداع بمواقفهم المناهضة وأن يقارنوا بين حالهم مع الموز وحال آبائهم زمن السيادة الحدودية التقليدية والحماية الجمركية الصارمة، زمن جدار برلين. عليهم أن يختاروا بين حالتي الموز واللاموز، بين الوفرة التي يشهدونها بعيونهم ويلمسونها بأصابعهم في الأسواق والحرمان الذي طبع ذكريات طفولتهم خلال نصف قرن مضى.

موزة لكل فم، أليست تلك هي العولمة؟”.

“الموز ومعه الصحيفة” كانا أحد أهم رموز الطبقة الوسطى في السودان، وكانت هذه الطبقة النبيلة مثل غيرها في معظم بلاد الله قبل سقوط جدار برلين ومجيء البشير وبن علي وجورج بوش الأب ويلتسين، طبقة واسعة وممتدة أفقيًا في كل مؤسسات الدولة، في التعليم والصحة والسكة الحديد والموانيء ومياه المدن ومصلحة الضرائب وسلك القضاء وغيرها الكثير، قبل أن يصبح هاتف جالاكسي الذكي رمزًا أصيلًا لطبقة جديدة فقيرة لا اسم لها، تعود في آخر يومها بباقة إنترنت ورصيد مكالمات بدل كيس الموز وصحيفة اليوم الطازجة، أليست هذه عولمة البشير التي بشرتنا ب”البيتزا الإيطالية والهوت دوغ”؟

اجتاحت ثورات الفائضين عن الحاجة نصف العالم تقريبًا على موجات متتالية، وأشكال متباينة من التعبير خلال العقود الثلاثة الماضية، وهاهي جائحة كورونا تهدد العروش وتخلخل ما بقي من قيم إنسانية في ضمائر ساسته الأنانيين. ولكي ينجو الخمس الثري الذي يملك مفاتيح المستقبل، لم يعد أمامه إلا أن يخبر هذه اللعنة الماكرة، على وجه اليقين، كيف تفرق بين من يستحقون الحياة وبين الفائضين عن الحاجة حتى تقوم بدورها على الوجه الأكمل فيخلو لهم وجه العالم، هذه هي المعضلة الآن وليست في ذلك السؤال الذي طرحه كتاب (مارتن/شومان) ماذا نفعل بالحرية التي أوجدتها العولمة؟