Author Archive
فرسان الزمن الجميل
رحل في شهر واحد (نوفمبرٍ 2018) اثنان من فرسان الفنّ في بلادنا، أحمد معاوية والمنصف لزعر.
سبعينيان ينتميان إلى جيل مؤسّس غادرا مسرح الحياة من الباب الخلفي بخفّة، لم يذهبا إلى تحية الجمهور الذي كان يصفّق لسواهما، كأنما كانا على موعد بعد نهاية العرض يتعجّلان الذهاب إليه معا، هناك في عالم يوصف دائما في النعي والتأبين أنه مكان أجمل.
والراحلان كانا فارسين في زمنٍ أجمل. ستأخذك ذكراهما دائما وأبدا إلى تونس الستّينات والسبعينات، إلى المسرح البلدي الذي تحتفظ إلى اليوم خشبتُه ومقصوراته المطعّمة بالمخمل الأحمر بصدى وقع أقدام الموسيقيين والمغنين والراقصين والممثلين وهم يتأهبون لعرض أول، وصدى ضجيج المتفرجين الوافدين في كامل أناقتهم لمشاهدة هذا الحفل أو تلك المسرحية. ستأخذك ذكراهما إلى شارع الحرية، هناك حيث بدأ عصر التلفزيون في الأستوديوهات وغرف المونتاج، وفي المقاهي المحيطة بالإذاعة والشوارع التي تطوق خصرها.
ظلّ أحمد معاوية وفيّا للمسرح رغم مساهماته في بعض الأعمال التلفزية المتفرّقة، عرف بأدائه دور الزعيم الحبيب بورقيبة في مسرحية «الرجل الذي صمد»، وتوّج في العام 2005 بجائزة أفضل ممثل في مهرجان المسرح العربي بالأردن عن دوره في مسرحية «أنتيقون». أما المنصف لزعر فلا يُذكر إلاّ بالمسلسلات التلفزيونية رغم أعماله المسرحية الكثيرة، فقد رافق الدراما التونسية في تطورها اللافت منذ بداية التسعينات، وما يزال أداؤه المميّز لشخصية «إسماعيل» ضابط الشرطة المتسلّط في مسلسل «غادة» علامة مضيئة في تاريخ التلفزيون. فضلا عن أدوار أخرى كثيرة ومتنوعة حافظ فيها على ملامح الرجل «الجنتلمان» التي تمتاز بها شخصيته الواقعية.
لا غرابة في أن تختصر ذاكرة الجمهور ملايين الصور التي تستهلكها طيلة حياتها وتكثفها في لقطات قصيرة، تستبدل فيها عادة الشخصيات الحقيقية الواقعية بتلك الشخصيات الروائية المتخيلة، فأنطونيو كوين هو زوربا، ومنى واصف هي هند بنت عتبة، ومحمود عبد العزيز هو الشيخ حسني أو رأفت الهجان»، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى. لكن ما يبدو أقرب إلى الجحود هو البرود الذي تبديه كثير من الصحف والمواقع التونسية اليوم عند رحيل عمالقة الفكر والثقافة والفن، حيث يختصر النعي في بضعة أسطر تتردّد فيها نفس الكلمات الفضفاضة، ويختزل عمر كامل من الفنّ والخلق والإبداع والمعاناة في «حياة حافلة بالأعمال الفنية المتنوعة». فتحاول اللغة الإنشائية أن تداري العجز والقصور بقوالب ومفردات لا طائل من ورائها. إن الحاجة تبدو ملحة اليوم لتضطلع جهة ما بتأسيس مسرد أنطولوجي شامل يوثق تجارب فنانين ومثقفين كبار بذلوا بكل سخاء حياتهم في خدمة هذه البلاد وإغناء ذاكرتها، وتستحقّ ذكراهم لمجرد هذا فقط أن تُخلّد وأن تكون درسا وعبرة، ثم إن استحضار هذه التجارب بشكل علمي دقيق وشامل ليس مجرّد تكريم إنما عمل منهجي لردم الهوة التي تزداد عمقا بين الأجيال ومجابهة القطيعة التي أفضت إليها هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي على كل الوسائط الأخرى.
هما فارسان ترجّلا حقيقة لا مجازا لأنهما عاشا مثلما أرادا. إنهما يمثلان المرحلة الزاهرة في تاريخ المسرح والتلفزيون في تونس، مرحلة «الزمن الجميل». وهذه العبارة ليست وهْمًا كما قد يجتهد البعض في تأويلها معتبرا أن الزمن حقيقة نفسية، وأنّ لكلّ جيل زمنَه الجميلَ الخاصّ به، بل هي وصف تقريبي لحقيقة مادية وتاريخ ماثل للعيان، وإن كان الجمال نسبيا وذاتيا، لكن العبارة تفرض نفسها للتمييز بين ذلك الزمن وأزمنة أخرى منذورة للقبح والرداءة والاستخفاف بعقول الناس وأذواقهم. الزمن الجميل هو زمن البدايات، الزمن الذي استجاب فيه المثقفون إلى دعوة المسعدي على لسان غيلان إلى «الكفر بالنواميس والحدود والعراقيل، وإنكار العجز والإسلام ونفي العدم، وإلى الإيمان بالفعل».
وكثيرا ما يقال كناية عن الموت «ترجّل فلان». يقال ذلك جزافا في المطلق لأن الموت يجمّل الأشياء ويمنحها طاقة تعبيرية غير ممكنة في مواجهة الأحياء، وكأنما الراحلون يستحقون دائما لقب الفارس ووصفه لمجرّد أنهم قد عبروا الخطّ الهلامي الفاصل بين الحياة والموت، ماتوا وذهبوا إلى عالم لم يعُد منه أحد حتى الآن ليروي ماذا يوجد حقّا وراءه؟ ولغة التأبين في سخائها لا تميّز بين من يحيا حياته ومن يمرّ بجوارها، بين من يترك في الأرض دويّا ومن لا يُسمع له حسيس أو صدى، بين من كان «عبئا على ليل المؤرخ» ومن يرتّب أحلامه في موته بطريقة أخرى، هكذا عندما يرحل الفرسان الحقيقيون دفعة واحدة ويمتلئ الغياب بالغياب، نتذكر حكمة الشاعر الكبير محمود درويش التي تُعرّف الحياةَ بتلازم الإرادة والكينونة «وحياتُنا هي أن نكون كما نريد».
السابع من نوفمبر
لا بد أن نعالج أنفسنا اليوم من هذا الوسواس القهري الذي أصاب الذاكرة. وخير أشكال العلاج المواجهة.
نعم، احتفلنا بالسابع من نوفمبر، لسنوات عديدة، كل بطريقته، في الصحف والإذاعات، في دور الثقافة، والمهرجانات، أمام لجان التنسيق وفي الشوارع والساحات. الأمر يشبه بقعة الزيت أو الشاي على الثوب الأبيض، تكون صغيرة في البداية ثم تترحرح شيئا فشيئا، وكلما طال بها العهد أصبح من الصعب محوُها، وصار لا بدّ من وضع الثوب كله في ماكينة الغسيل.
احتفلنا كلنا، لكن كل قدير وقدرو: الموظف العمومي الذي تمتع بيوم عطلة احتفل، والصباب الذي لاحظ أن جاره لم يبتسم كثيرا في ذلك اليوم احتفل، والأستاذ الذي طُلب منه أن يفتح قبل يومين قوسين صغيرين في درس العربية للحديث عن «الثورة الهادئة» احتفل، ورجل الأعمال الذي تبرّع بخلاص الأبواق في حفل صوفية صادق احتفل.
مع الدولة أم ضدّها؟
لا أحد يستطيع أن يفسّر لك بدقّة كيف تجري الأمور الآن في تونس، وسوف تصطدم وأنت تحاول تفكيك الظواهر الغامضة من حولك بعبارات جاهزة على غرار «الشباب الثوري»، «مجموعات الفايسبوك»، «الشعب يريد». وهي عبارات تزيد الغموض غموضا وتجعل الأمر شبيها بتفسيرك الماءَ بالماء.
تردّدت هذه العبارات بكثرة في سياق الحديث عن الصعود الصاروخي للرئيس الجديد في الانتخابات الرئاسية بشكل لم تتوقعه النخب، ففي آخر لقاء معه قبل الصمت الانتخابي الذي سبق الجولة الأولى حدّد يوسف الشاهد منافسيه المباشرين ولم يذكر قيس سعيّد رغم وجوده على مدى سنتين كاملتين في نتائج سبر الآراء، بما يؤكد أن العائلة السياسية التقليدية تشبثت بالإنكار إلى آخر لحظة، ولم تتفطن لوجود إمكانات حشد أخرى خارج الأحزاب. لهذا نشطت كثيرا نظرية المؤامرة في الفترة الفاصلة بين الجولتين، وتركزت خصوصا على الدلالات التي يوحي بها وجود مجموعات مجنّدة في الفايسبوك لإنجاح شخص بعينه، ولماذا هي مغلقة؟
بعد الانتخابات اكتسحت المدن حملات منظمة للنظافة والدهن وخدمة البيئة. كما لو أن الوعي قد استيقظ فجأة، ومن الواضح أن لهذه المجموعات ذاتها دورا طلائعيا في تنشيط هذه الحملات وتغذيتها كي تنتشر عدواها بشكل عنكبوتي، بالتوازي مع نشر رسائل عن «الوعي الشبابي» و«اللحظة الثورية» و«العودة إلى يناير 2011»، وعن «صلاح الرعية بصلاح الراعي» الخ، ما يعطي الانطباع بأن هذه النشاط التطوعي الذي يوحي بالعفوية إنما يندرج في سياق خلق مناخ إيجابي ملائم للرئيس الجديد كي يباشر مهامه على رأس الدولة وهو مطمئن إلى وجود جيش ميداني على أهبة الاستعداد لكل الاحتمالات، ومن يخرج الشباب لحملات النظافة يمكنه أن يخرجهم للتظاهر والعصيان! (مواصلة القراءة…)
إنها مسألة دماغ يا حماري العزيز!
بعد ساعات من الوقوف في طابور حلزوني يمتدّ من الشارع حتى الشباك رقم 3 تعلمك موظفة البريد أن الدينار الالكتروني الجديد المخصّص للتسجيل الجامعي لا يمكن أن يقتنيه إلاّ صاحب الشأن نفسه، وتدعوك إلى التنحّي كي تفسح المجال لمن يقف بعدك. تحاول أن تتمالك أعصابك كي لا تنفجر في وجهها، وتعلمها أن هذا هو اليوم الثاني الذي ينقضي سبهللا، فقد جاء صاحب الشأن بنفسه في اليوم السابق وقيل له «أرجع غدوة»، وأنه لا شيء يمنع صاحب الشأن من القدوم مجددا لو كان على يقين من أن الأمر سيتمّ، فتقول لك ببرودة أعصاب تغبطها عليها: إن وزارة التعليم العالي أرسلت إلى مؤسسة البريد قسطا فقط من أسماء الطلبة وأنهم في انتظار الأقساط الأخرى، تسألها: وقتاش؟ فتقول لك: لا أعرف!
عند هذا الحدّ يمكنك أن تسحب كرسيا وتجلس مانمأمام أجةنتحخنن أمام أقرب حمار يمكنه الإصغاء إلى هواجسك، فتسأله: بالله عليك يا سيدي، ألم تكن الأمور في السنوات الخوالي تجري بشكل أفضل؟ هل التقدم التكنولوجي يعني السير إلى الوراء؟ أليس أيسر على الطالب أن يدفع معاليم الترسيم مباشرة في الجامعة التي ينتسب إليها عوضا عن هذا الدينار الالكتروني الذي صار مجرّد الحصول عليه من المشقة بمكان؟ ثم ألم تُجعل التكنولوجيا للتخفيف عن المواطن وعن الإدارة، ولتقطع مع هذه الطوابير الطويلة التي لا تنتهي، وهذا الوقت الضائع الذي يتبدّد سدى في الانتظار، وهذا الضجر، وهذا العنف، وهذه المرارة التي تخيم على المكان..
قيس سعيّد ومشروع الانتقال الثّوري
يصف كثيرون قيس سعيّد المرشّح الفائز بأكبر عدد من الأصوات في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية بأنه رجل «قليل الكلام» وأنه خاض حملة انتخابية «شعبية» بأقلّ التكاليف اقتصر فيها على جلسات المقاهي مع الشباب الرافض الثائر المعطّل، وأنه قادم من خارج المنظومة ليعيد إلى «الخطّ الثوري» حلمه بتغيير الدولة والمجتمع، من ثمة أصبح الرجل ظاهرةً يُراد لها أن تكون على قدر من كبير الغموض.
والحقّ أن قيس سعيّد لم يكن مُقلاّ في الكلام بل تحدّث في منابر عديدة، لكنه في كل الحوارات التي أجريت معه كان يعيد بنفس الطريقة وبمفردات قليلة لا تتغير فكرة واحدة تتعلق بتغيير نظام الحكم واعتماد المجالس المحلية للوصول إلى تمثيلية تشريعية تفقد معها الأحزاب مبرّر وجودها وتضمحلّ تلقائيا، وبذلك يكون التخطيط الاستراتيجي قائما على قاعدة القرب، بالانطلاق من المحلّي فالجهوي ثم الوطني. وهو يؤكد أن مشروعه هذا يهدف إلى توفير الآليات القانونية لتمكين الشباب من تقرير مصيره مُلحّا على أن الوكالة في هذا التصور قابلة للسحب لضمان الالتزام في ممارسة الحكم تشريعا وتخطيطا وتنفيذا، وعن علاقة هذا المشروع بالنظام السياسي الراهن يتحدث قيس سعيّد عن «الانتقال الثوري» في مقابل «الانتقال الديمقراطي»، إذ ينطلق من فكرة مركزية يبدو أنها ترقى لديه إلى مستوى الحقيقة المطلقة وهي أن «عهد الديمقراطية النيابية قد انتهى».
واقفون في عالم يجري
بين مطارات بعض دول الخليج العربية ومطار تونس قرطاج أكثر من خمسة آلاف كيلومتر وحوالي خمسين عاما من التفوّق والرّقي والرفاه، ليس هذا انطباعا بل حقيقة قابلة للقياس، نصفها الأول مبهج ونصفها الثاني محزن، حقيقة ينبغي قراءتها بعقلانية وتفهّم بعيدا عن منطق التخوين الأجوف، ليس هذا أيضا جلدا للذات إنما دعوة إلى التجرّد من المشاعر الشوفينية البغيضة ومعاينة الواقع بعيدا عن مظلّة الشّعور الزائف بالعظمة.
إن مطار تونس الذي يحمل اسم قرطاج العظيمة متأخر فعلا عن مطارات العالم المتقدّم كذلك مطارات دول الخليج بما يعادل نصف قرن أو أكثر، وهذا تقدير موضوعي مناسب إذ لا معنى للمبالغة وترديد مقولة المشير أحمد باشا باي الشهيرة عند زيارته باريس منتصف القرن التاسع عشر: “إنّ القوم سبقونا الى الحضارة بأحقاب من السنين وبيننا وبينهم بون بائن” ولو أحببنا أن نبالغ لجاز لنا أن نقول إنّ هذا المطار أضحى يعيش خارج عصره،وإنّ المسافة التي تفصله عن كثير من مطارات الدنيا تُقدر بسنوات ضوئية و”لله فينا علم غيب نحن صائرون إليه، نسأل الله حسن العاقبة”.
في المطارات العصريّة المتقدّمة تُقاس جودة الخدمات بالوقت الذي يقطعه المسافر من لحظة الدخول حتى لحظة الوصول إلى مقعده في الطائرة وعكسيا في رحلة العودة، لا يتعلّق الأمر إذن بنظافة المراحيض أوابتسامة الشرطي ّوالطريقة التي يتعامل بها رجال الجمارك مع حقائب المسافرين فحسب، فالمطار مرفق عامّ وصورة نموذجية عن البلد الذي يُفضي إليه، واشتراطات الجودة تفرض الانصياع إلى المعايير الدولية التي تناسب أسلوب حياة الانسان المعاصر لا سيما تحت وطأة الإحساس بهاجس الوقت. وقد استطاعت البوابات الالكترونية في مطارات دول الخليج أن تختصر مسافة العبور من المنافذ الحدودية بشكل لا يُصدّق، فليس من الضروري في هذه البوّابات الاستظهارُ بجواز السفر أو ختمه، وليس من الضروري أن يتأمل سحنتك رجل الشرطة ويقارنها بصورة الجواز، يكفي استخدام البصمة لفتح الباب، ولا يستغرق الأمر الاّ دقائق معدودات يختلف طولها حسب درجة الازدحام البشري في المطار لا غير،وباستخدام تطبيقة على الهاتف الجوال يمكنك الاطلاع في أي وقت على كشف بحركات السفر يشتمل على كل مواعيد الدخول والخروج فيأي مدة تختارها، بينما ما يزال المسافر إلى تونس مطالَبا عند الوصول إلى المطار بتعمير ورقة صغيرة لا يعرف سرّها أحد ولا يُفهم سبب وجودها حتى الآن، رغم أنها انقرضت تقريبا من أغلب مطارات الدنيا.
سلسلة المقارنات طويلة لا تنتهي، ولا حاجة بنا إلى التوقّف طويلا عند أشياء أصبحت شبه عادية في المطار بوصفه صورة مصغرة عن البلد، كالغلاء الفاحش في مقاهي المنطقة الحرة، أو الفزع و الرّعب اللّذين ينتابان القادمين لحظة انتظار حقائبهم، أو تلك النّظرة الزّائغة التي يستقبلك بها موظفو الدّولة دون سواهم، فحسناوات شركات الاتصال اللواتي يستقبلنك عند البوّابة هن الوحيدات المبتسمات على الدّوام في هذا الجوّ الكافكاوي، أمّا إذا عنّ لك أن تقضي حاجتك البشريّة وغالبا ما ستفعل،فانتبه إلى بعض أقفال المراحيض المستعصي إصلاحُها منذ سنين، وانتبه إلى عاملة النّظافة وهي تمسك بيدها لفافة الأوراق كي تسلّمك ببرود قطعة منها بعد غسل يديك أملا في مقابل مالي لن تقدر على دفعه لأنّك ببساطة لا تحمل عملة محلّية وهو سبب كاف لجعلك ترى لعناتها المكتومة تلاحقك وأنت تبتعد عنها وتذوب في الزحام.
لو أدرنا عقارب التاريخ خمسين عاما إلى الوراء لرأينا مشهدا معاكسا تماما،فبمقاييس السبعينات كان مطار تونس قرطاج الدولي مفخرة حقيقية، بينما مطارات دبي أو الدوحة مجرّد مهابط بسيطة للطائرات في دول صغيرة ما تزال في بداية طريقها إلى الثّروة والرخاء تجرّ وراءها خلاصة قرون صعبة وقاحلة من الصحراء.فالمسألة حينئذ نتاج طبيعي لمسارات مختلفة امتزج فيها الاقتصادي بالسياسي والثقافي، وتغيرت في ضوئها مراكز الرّفاه والتفوّق الحضاري، لا يُفسّر الأمر فقط بالثّراء، لكن أيضا بالتّخطيط الجيّد وابتكار الحلول المناسبة، فمن المؤكد أنّ تونس كانت أسبق من دول الخليج إلى دخول عصر المعلومات لكنّ عواملَ عدّة جعلتنا لا نهتدي في العشرين عاما الماضية إلى توظيف هذه التّكنولوجيا في تحسين نمط العيش وتطوير المرفق العام، بينما هم فعلوا، والدليل على ذلك الشّكلُ المُذهل ُللحكومات الالكترونية في دول الخليج وتعثّرها أو فشلها الذّريع عندنا.
الحكومة الالكترونية هي المبيد الأكثر فتكا بالبيروقراطية، فالمعاملات التي يجري إنجازها باستخدام الهواتف الذّكية هي اليوم أكثر من أن تحصى، بدءا من التحويلات البنكية وصولا إلى حجوزات السفر والفنادق، وخلاص المخالفات المرورية، وتجديد بطاقات الإقامة والعلاج. أمكن كل ذلك بفضل مُخطّط إقليمي شامل للحوكمة الالكترونية مُخرجاته تكاد تكون متطابقة في دول مجلس التعاون، إذ جرى تنفيذه تحت مظلّة هذه المنظمة، ويستند إلى بيئة رقمية متكاملة يمثل النظام البنكي القوي والمتطوّر أهمّ محاورها فضلا عن التشريعات والبنية الأساسية للاتصالات. فالمعاملات المالية في كل المرافق الحكومية الكترونية وجوبا ووسائل التحقق من هويات المستخدمين والتصدّي للغش مُتعدّدة وفعّالة وفي المتناول، وهي أقلّ تعقيدا من التوقيع الالكتروني الذي توقّفت عنده مخيّلة صناع القرار عندنا بما جعلنا لا نتقدم سنتمترات في هذا المجال.
بناء على ما تقدم يبدو أن خلاصنا في الأمد المنظور ليس في حاجة إلى ثروة طائلة كي يتحقّق بل إلى كثير من التّواضع لنقف على حقيقة حجمنا الراهن بعيدا عن منطق “ثلاثة آلاف سنة من الحضارة” المنطق الذي أضحى لا ينتج الاّ المزيد من البؤس والشقاء كلّما تقدّم العالم من حولنا أكثر.