Author Archive

أغيثونا…

حادثة عين السنوسي

حادثة عين السنوسي

قبيل وقوع حادث الحافلة الذي أودى بحياة عدد كبير من الشبان في الشمال الغربي، كتبت مقالا عن حدّة التفاوت الطبقي في تونس والوضع الكارثي الذي أصبحت عليه كل المرافق العمومية، وانتهيت فيه إلى القول بأن الهوّة التي تفصل بين مجتمع الأغنياء ومجتمع الفقراء ستصبح مثل الثقب الأسود الذي يهدّد بابتلاع كل شيء. أرسلت المقال إلى المجلّة وفي داخلي قناعة بأنني منذ فترة ليست بالقصيرة صرت أكرّر الفكرة ذاتَها في كل المقالات المعنية بالشأن العام والحياة السياسية، ما يورث نوعا من الإحساس باللاّجدوى. الفكرة ذاتها تتكرر مع تغيير طفيف في الصياغة بتغير المناسبة وحدّة الوجيعة. فمرّة نكتب عن وفاة رضّع في مستشفى عمومي، ومرّة أخرى نكتب عن انقلاب قطار في الشمال، مرّة نكتب عن انقلاب شاحنة تحمل مزارعات إلى الحقول، ومرّة أخرى نكتب عن سقوط حافلة من علوّ شاهق وعلى متنها عصارة شباب الوطن. تتغير التفاصيل والموت واحد، ويتغير شكل النص والفكرة ذاتها تطلّ من بين السطور!

نفعل ذلك لأن السيناريو الذي يحيط بالكارثة يتّخذ أيضا شكلا نمطيا يمكن دائما التنبؤ بما سيؤول إليه، فكثير من الموتورين سيحوّلون مجرى النقاش في فضاءات التواصل الاجتماعي إلى التفاوت الجهوي ومسؤولية بورقيبة وبن علي دون سواهما، وكأن التسع العجاف الماضيات محض هباء، أو خارج نطاق المسؤولية!، ويسارع رهط آخر من مواقع السلطة إلى التبشير بإعلان نوايا تتكرّر فيها نفس العبارات: الشروع في كذا، والإذن بكذا…، مع الإشارة إلى أن هذه الوزارة أو تلك لم تقصّر في شيء والإيحاء بأن لا رادّ لقضاء الله، وفي قضية الحال غيّروا مجرى النقاش من حديث عن البنية التحتية المتخلّفة إلى حديث عن السياقة الرعناء، ومن حديث عن عزلة الشمال الغربي وافتقاره لأساسيات التنمية إلى حديث عن قطاع تنظيم الرحلات الداخلية وما يوجد به من إخلالات، هذا فضلا عن المحاولات المفضوحة دائما لوضع البيض كلّه في سلّة واحدة بتعويم المسؤوليات في خطاب فضفاض عن الحسّ المدني وواجبات المواطنة، إذ يقال: إن المسؤولية مشتركة ولا تتعلّق بالحكومة وحدها!،  ويتزامن كل ذلك مع الإعلان عن تشكيل خلية أزمة ولجنة تحقيق لامتصاص الصدمة ومعالجة الاحتقان ظرفيا والباقي يتكفل به الزمن، فبعد أيام قليلة فقط يدخل كل شيء طيّ النسيان ويعود المتفرجون إلى شاشاتهم في انتظار كارثة أخرى..

قال أحد الخبراء الذين شاركوا في البحث عن الطائرة الماليزية المفقودة منذ خمس سنوات ولم يُعثر لها على أثر: «لقد اكتشفنا عشر ثغرات يمكن أن تكون كل واحدة منها سببا كافيا لوقوع كارثة ما»، وهذه قاعدة أساسية في كل الحوادث الدامية حيث تفضي التحقيقات دائما إلى اكتشاف سلسلة من الهفوات، وراء كل هفوة منها جهة واضحة يمكن تحميلها المسؤولية، وهذه الهفوات قد لا يتخيّل أحدٌ أن تجتمع في لحظة واحدة، لكنها -وهنا تكمن سخرية الأقدار- تجتمع فعلا: حُفَر الطريق وسرعةُ السّائق وصعوبةُ المنحدر وضعفُ الفرامل وعمر الحافلة، وتعذر وصول مرافق الحماية المدنية بسرعة وقلّة عدد سيارات الإسعاف وعدم توفر تجهيزات في المستشفيات المحلية، وكل ما سيسفر عنه البحث…، وهكذا لن يكون وراء الحادث وضراوته مسؤول واحد بل عدة مسؤولين موزعين على قطاعات مختلفة، وهو ما عبّر عنه المخرج السينمائي الكبير عاطف الطيب ببراعة مؤثرة في فيلمه الشهير «ضد الحكومة» حين جعل المحامي يطالب بمحاسبة الحكومة كلها ويصرخ بكل قواه في قاعة المحكمة «أغيثونا».

الفكرة التي تتكرّر دائما ولا محيد عنها، ملخّصها أن تراجع الخدمات العمومية هو عنوان الفشل السياسي الذريع، ولا معنى للديمقراطية إذا لم تكن سببا في تحقيق سعادة الإنسان. ونحن نعاين هنا تراجعا كبيرا في مجال النقل والصحة والتعليم، والتجهيز والقضاء والبيئة. هذه القطاعات كلها تزداد تخلّفا من يوم إلى آخر، ولم يعد ينفع معها ترقيع أو إصلاح، بل تتطلب كلها مشاريع إعادة بناء عملاقة، كما إن العامل البشري يلعب في هذه الكوارث المتلاحقة دورا حاسما بالإهمال والتقصير والتسويف والإرجاء وتجاهل مطالب الناس وتعويم الأولويات الملحّة في المجادلات السياسوية والمهاترات الإيديولوجية، لقد أصاب بنية التفكير والقيم ما أصاب بنية الطرقات والسكك، وهي أيضا أضحت في أمسّ الحاجة إلى إعادة بناء بغاية تأصيل قيم العمل والمواطنة في النفوس من جديد. فالحافلة والطريق ونظام الرحلة وبقية التفاصيل ليست قضاء ولا قدرا بل هي كلها مجتمعة أدلة لا تقبل الشك على فشل الدولة والمجتمع معا.

يجدر بنا في قضية الحال أن ننتبه إلى الثقل الرمزي الذي يحفّ بحادثة سقوط الحافلة، فقد أضحى الشباب المليء بكل أسباب الحياة وهو رمز المستقبل لقمة سائغة للموت بسبب هذا التخلف القاتل، وإننا نتدحرج كلنا شيئا فشيئا إلى هاوية بلا قرار فأغيثونا، أغيثونا، أغيثونا..


فرسان الزمن الجميل

المنصف لزعر

المنصف لزعر

رحل في شهر   واحد (نوفمبرٍ 2018) اثنان من فرسان الفنّ في بلادنا، أحمد معاوية والمنصف لزعر.
سبعينيان ينتميان إلى جيل مؤسّس غادرا مسرح الحياة من الباب الخلفي بخفّة، لم يذهبا إلى تحية الجمهور الذي كان يصفّق لسواهما، كأنما كانا على موعد بعد نهاية العرض يتعجّلان الذهاب إليه معا، هناك في عالم يوصف دائما في النعي والتأبين أنه مكان أجمل.

والراحلان كانا فارسين في زمنٍ أجمل. ستأخذك ذكراهما دائما وأبدا إلى تونس الستّينات والسبعينات، إلى المسرح البلدي الذي تحتفظ إلى اليوم خشبتُه ومقصوراته المطعّمة بالمخمل الأحمر بصدى وقع أقدام الموسيقيين والمغنين والراقصين والممثلين وهم يتأهبون لعرض أول، وصدى ضجيج المتفرجين الوافدين في كامل أناقتهم لمشاهدة هذا الحفل أو تلك المسرحية. ستأخذك ذكراهما إلى شارع الحرية، هناك حيث بدأ عصر التلفزيون في الأستوديوهات وغرف المونتاج، وفي المقاهي المحيطة بالإذاعة والشوارع التي تطوق خصرها.

ظلّ أحمد معاوية وفيّا للمسرح رغم مساهماته في بعض الأعمال التلفزية المتفرّقة، عرف بأدائه دور الزعيم الحبيب بورقيبة في مسرحية «الرجل الذي صمد»، وتوّج في العام 2005 بجائزة أفضل ممثل في مهرجان المسرح العربي بالأردن عن دوره في مسرحية «أنتيقون». أما المنصف لزعر فلا يُذكر إلاّ بالمسلسلات التلفزيونية رغم أعماله المسرحية الكثيرة، فقد رافق الدراما التونسية في تطورها اللافت منذ بداية التسعينات، وما يزال أداؤه المميّز لشخصية «إسماعيل» ضابط الشرطة المتسلّط في مسلسل «غادة» علامة مضيئة في تاريخ التلفزيون. فضلا عن أدوار أخرى كثيرة ومتنوعة حافظ فيها على ملامح الرجل «الجنتلمان» التي تمتاز بها شخصيته الواقعية.

لا غرابة في أن تختصر ذاكرة الجمهور ملايين الصور التي تستهلكها طيلة حياتها وتكثفها في لقطات قصيرة، تستبدل فيها عادة الشخصيات الحقيقية الواقعية بتلك الشخصيات الروائية المتخيلة، فأنطونيو كوين هو زوربا، ومنى واصف هي هند بنت عتبة، ومحمود عبد العزيز هو الشيخ حسني أو رأفت الهجان»، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى. لكن ما يبدو أقرب إلى الجحود هو البرود الذي تبديه كثير من الصحف والمواقع التونسية اليوم عند رحيل عمالقة الفكر والثقافة والفن، حيث يختصر النعي في بضعة أسطر تتردّد فيها نفس الكلمات الفضفاضة، ويختزل عمر كامل من الفنّ والخلق والإبداع والمعاناة في «حياة حافلة بالأعمال الفنية المتنوعة». فتحاول اللغة الإنشائية أن تداري العجز والقصور بقوالب ومفردات لا طائل من ورائها. إن الحاجة تبدو ملحة اليوم لتضطلع جهة ما بتأسيس مسرد أنطولوجي شامل يوثق تجارب فنانين ومثقفين كبار بذلوا بكل سخاء حياتهم في خدمة هذه البلاد وإغناء ذاكرتها، وتستحقّ ذكراهم لمجرد هذا فقط أن تُخلّد وأن تكون درسا وعبرة، ثم إن استحضار هذه التجارب بشكل علمي دقيق وشامل ليس مجرّد تكريم إنما عمل منهجي لردم الهوة التي تزداد عمقا بين الأجيال ومجابهة القطيعة التي أفضت إليها هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي على كل الوسائط الأخرى.

هما فارسان ترجّلا حقيقة لا مجازا لأنهما عاشا مثلما أرادا. إنهما يمثلان المرحلة الزاهرة في تاريخ المسرح والتلفزيون في تونس، مرحلة «الزمن الجميل». وهذه العبارة ليست وهْمًا كما قد يجتهد البعض في تأويلها معتبرا أن الزمن حقيقة نفسية، وأنّ لكلّ جيل زمنَه الجميلَ الخاصّ به، بل هي وصف تقريبي لحقيقة مادية وتاريخ ماثل للعيان، وإن كان الجمال نسبيا وذاتيا، لكن العبارة تفرض نفسها للتمييز بين ذلك الزمن وأزمنة أخرى منذورة للقبح والرداءة والاستخفاف بعقول الناس وأذواقهم. الزمن الجميل هو زمن البدايات، الزمن الذي استجاب فيه المثقفون إلى دعوة المسعدي على لسان غيلان إلى «الكفر بالنواميس والحدود والعراقيل، وإنكار العجز والإسلام ونفي العدم، وإلى الإيمان بالفعل».

وكثيرا ما يقال كناية عن الموت «ترجّل فلان». يقال ذلك جزافا في المطلق لأن الموت يجمّل الأشياء ويمنحها طاقة تعبيرية غير ممكنة في مواجهة الأحياء، وكأنما الراحلون يستحقون دائما لقب الفارس ووصفه لمجرّد أنهم قد عبروا الخطّ الهلامي الفاصل بين الحياة والموت، ماتوا وذهبوا إلى عالم لم يعُد منه أحد حتى الآن ليروي ماذا يوجد حقّا وراءه؟ ولغة التأبين في سخائها لا تميّز بين من يحيا حياته ومن يمرّ بجوارها، بين من يترك في الأرض دويّا ومن لا يُسمع له حسيس أو صدى، بين من كان «عبئا على ليل المؤرخ» ومن يرتّب أحلامه في موته بطريقة أخرى، هكذا عندما يرحل الفرسان الحقيقيون دفعة واحدة ويمتلئ الغياب بالغياب، نتذكر حكمة الشاعر الكبير محمود درويش التي تُعرّف الحياةَ بتلازم الإرادة والكينونة «وحياتُنا هي أن نكون كما نريد».


السابع من نوفمبر

عامر بوعزة

عامر بوعزة

لا بد أن نعالج أنفسنا اليوم من هذا الوسواس القهري الذي أصاب الذاكرة. وخير أشكال العلاج المواجهة.

نعم، احتفلنا بالسابع من نوفمبر، لسنوات عديدة، كل بطريقته، في الصحف والإذاعات، في دور الثقافة، والمهرجانات، أمام لجان التنسيق وفي الشوارع والساحات. الأمر يشبه بقعة الزيت أو الشاي على الثوب الأبيض، تكون صغيرة في البداية ثم تترحرح شيئا فشيئا، وكلما طال بها العهد أصبح من الصعب محوُها، وصار لا بدّ من وضع الثوب كله في ماكينة الغسيل.

احتفلنا كلنا، لكن كل قدير وقدرو: الموظف العمومي الذي تمتع بيوم عطلة احتفل، والصباب الذي لاحظ أن جاره لم يبتسم كثيرا في ذلك اليوم احتفل، والأستاذ الذي طُلب منه أن يفتح قبل يومين قوسين صغيرين في درس العربية للحديث عن «الثورة الهادئة» احتفل، ورجل الأعمال الذي تبرّع بخلاص الأبواق في حفل صوفية صادق احتفل.

(مواصلة القراءة…)


مع الدولة أم ضدّها؟

حملات نظافة ودهن وتزويق تطال المعالم الأثرية

حملات نظافة ودهن وتزويق تطال المعالم الأثرية

لا أحد يستطيع أن يفسّر لك بدقّة كيف تجري الأمور الآن في تونس، وسوف تصطدم وأنت تحاول تفكيك الظواهر الغامضة من حولك بعبارات جاهزة على غرار «الشباب الثوري»، «مجموعات الفايسبوك»، «الشعب يريد». وهي عبارات تزيد الغموض غموضا وتجعل الأمر شبيها بتفسيرك الماءَ بالماء.

تردّدت هذه العبارات بكثرة في سياق الحديث عن الصعود الصاروخي للرئيس الجديد في الانتخابات الرئاسية بشكل لم تتوقعه النخب، ففي آخر لقاء معه قبل الصمت الانتخابي الذي سبق الجولة الأولى حدّد يوسف الشاهد منافسيه المباشرين ولم يذكر قيس سعيّد رغم وجوده على مدى سنتين كاملتين في نتائج سبر الآراء، بما يؤكد أن العائلة السياسية التقليدية تشبثت بالإنكار إلى آخر لحظة، ولم تتفطن لوجود إمكانات حشد أخرى خارج الأحزاب. لهذا نشطت كثيرا نظرية المؤامرة في الفترة الفاصلة بين الجولتين، وتركزت خصوصا على الدلالات التي يوحي بها وجود مجموعات مجنّدة في الفايسبوك لإنجاح شخص بعينه، ولماذا هي مغلقة؟

بعد الانتخابات اكتسحت المدن حملات منظمة للنظافة والدهن وخدمة البيئة. كما لو أن الوعي قد استيقظ فجأة، ومن الواضح أن لهذه المجموعات ذاتها دورا طلائعيا في تنشيط هذه الحملات وتغذيتها كي تنتشر عدواها بشكل عنكبوتي، بالتوازي مع نشر رسائل عن «الوعي الشبابي» و«اللحظة الثورية» و«العودة إلى يناير 2011»، وعن «صلاح الرعية بصلاح الراعي» الخ، ما يعطي الانطباع بأن هذه النشاط التطوعي الذي يوحي بالعفوية إنما يندرج في سياق خلق مناخ إيجابي ملائم للرئيس الجديد كي يباشر مهامه على رأس الدولة وهو مطمئن إلى وجود جيش ميداني على أهبة الاستعداد لكل الاحتمالات، ومن يخرج الشباب لحملات النظافة يمكنه أن يخرجهم للتظاهر والعصيان! (مواصلة القراءة…)


إنها مسألة دماغ يا حماري العزيز!

إضراب البريد التونسي

إضراب البريد التونسي

بعد ساعات من الوقوف في طابور حلزوني يمتدّ من الشارع حتى الشباك رقم 3 تعلمك موظفة البريد أن الدينار الالكتروني الجديد المخصّص للتسجيل الجامعي لا يمكن أن يقتنيه إلاّ صاحب الشأن نفسه، وتدعوك إلى التنحّي كي تفسح المجال لمن يقف بعدك. تحاول أن تتمالك أعصابك كي لا تنفجر في وجهها، وتعلمها أن هذا هو اليوم الثاني الذي ينقضي سبهللا، فقد جاء صاحب الشأن بنفسه في اليوم السابق وقيل له «أرجع غدوة»، وأنه لا شيء يمنع صاحب الشأن من القدوم مجددا لو كان على يقين من أن الأمر سيتمّ، فتقول لك ببرودة أعصاب تغبطها عليها: إن وزارة التعليم العالي أرسلت إلى مؤسسة البريد قسطا فقط من أسماء الطلبة وأنهم في انتظار الأقساط الأخرى، تسألها: وقتاش؟ فتقول لك: لا أعرف!

عند هذا الحدّ يمكنك أن تسحب كرسيا وتجلس مانمأمام أجةنتحخنن أمام أقرب حمار يمكنه الإصغاء إلى هواجسك، فتسأله: بالله عليك يا سيدي، ألم تكن الأمور في السنوات الخوالي تجري بشكل أفضل؟ هل التقدم التكنولوجي يعني السير إلى الوراء؟ أليس أيسر على الطالب أن يدفع معاليم الترسيم مباشرة في الجامعة التي ينتسب إليها عوضا عن هذا الدينار الالكتروني الذي صار مجرّد الحصول عليه من المشقة بمكان؟ ثم ألم تُجعل التكنولوجيا للتخفيف عن المواطن وعن الإدارة، ولتقطع مع هذه الطوابير الطويلة التي لا تنتهي، وهذا الوقت الضائع الذي يتبدّد سدى في الانتظار، وهذا الضجر، وهذا العنف، وهذه المرارة التي تخيم على المكان..

(مواصلة القراءة…)


قيس سعيّد ومشروع الانتقال الثّوري

 

قيس سعيّد

قيس سعيّد

يصف كثيرون قيس سعيّد المرشّح الفائز بأكبر عدد من الأصوات في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية بأنه رجل «قليل الكلام» وأنه خاض حملة انتخابية «شعبية» بأقلّ التكاليف اقتصر فيها على جلسات المقاهي مع الشباب الرافض الثائر المعطّل، وأنه قادم من خارج المنظومة ليعيد إلى «الخطّ الثوري» حلمه بتغيير الدولة والمجتمع، من ثمة أصبح الرجل ظاهرةً يُراد لها أن تكون على قدر من كبير الغموض.

والحقّ أن قيس سعيّد لم يكن مُقلاّ في الكلام بل تحدّث في منابر عديدة، لكنه في كل الحوارات التي أجريت معه كان يعيد بنفس الطريقة وبمفردات قليلة لا تتغير فكرة واحدة تتعلق بتغيير نظام الحكم واعتماد المجالس المحلية للوصول إلى تمثيلية تشريعية تفقد معها الأحزاب مبرّر وجودها وتضمحلّ تلقائيا، وبذلك يكون التخطيط الاستراتيجي قائما على قاعدة القرب، بالانطلاق من المحلّي فالجهوي ثم الوطني. وهو يؤكد أن مشروعه هذا يهدف إلى توفير الآليات القانونية لتمكين الشباب من تقرير مصيره مُلحّا على أن الوكالة في هذا التصور قابلة للسحب لضمان الالتزام في ممارسة الحكم تشريعا وتخطيطا وتنفيذا، وعن علاقة هذا المشروع بالنظام السياسي الراهن يتحدث قيس سعيّد عن «الانتقال الثوري» في مقابل «الانتقال الديمقراطي»، إذ ينطلق من فكرة مركزية يبدو أنها ترقى لديه إلى مستوى الحقيقة المطلقة وهي أن «عهد الديمقراطية النيابية قد انتهى».

(مواصلة القراءة…)


واقفون في عالم يجري

مطار حمد الدولي

مطار حمد الدولي

بين مطارات بعض دول الخليج العربية ومطار تونس قرطاج أكثر من خمسة آلاف كيلومتر وحوالي خمسين عاما من التفوّق والرّقي والرفاه، ليس هذا انطباعا بل حقيقة قابلة للقياس، نصفها الأول مبهج ونصفها الثاني محزن، حقيقة ينبغي قراءتها بعقلانية وتفهّم بعيدا عن منطق التخوين الأجوف، ليس هذا أيضا جلدا للذات إنما دعوة إلى التجرّد من المشاعر الشوفينية البغيضة ومعاينة الواقع بعيدا عن مظلّة الشّعور الزائف بالعظمة.
إن مطار تونس الذي يحمل اسم قرطاج العظيمة متأخر فعلا عن مطارات العالم المتقدّم كذلك مطارات دول الخليج بما يعادل نصف قرن أو أكثر، وهذا تقدير موضوعي مناسب إذ لا معنى للمبالغة وترديد مقولة المشير أحمد باشا باي الشهيرة عند زيارته باريس منتصف القرن التاسع عشر: “إنّ القوم سبقونا الى الحضارة  بأحقاب من السنين وبيننا وبينهم بون بائن” ولو أحببنا أن نبالغ لجاز لنا أن نقول إنّ هذا المطار أضحى يعيش خارج عصره،وإنّ المسافة التي تفصله عن كثير من مطارات الدنيا تُقدر بسنوات ضوئية و”لله فينا علم غيب نحن صائرون إليه، نسأل الله حسن العاقبة”.

في المطارات العصريّة المتقدّمة تُقاس جودة الخدمات بالوقت الذي يقطعه المسافر من لحظة الدخول حتى لحظة الوصول إلى مقعده في الطائرة وعكسيا في رحلة العودة، لا يتعلّق الأمر إذن بنظافة المراحيض أوابتسامة الشرطي ّوالطريقة التي يتعامل بها رجال الجمارك مع حقائب المسافرين فحسب، فالمطار مرفق عامّ وصورة نموذجية عن البلد الذي يُفضي إليه، واشتراطات الجودة تفرض الانصياع إلى المعايير الدولية التي تناسب أسلوب حياة الانسان المعاصر لا سيما تحت وطأة الإحساس بهاجس الوقت. وقد استطاعت البوابات الالكترونية في مطارات دول الخليج أن تختصر مسافة العبور من المنافذ الحدودية بشكل لا يُصدّق، فليس من الضروري في هذه البوّابات الاستظهارُ بجواز السفر أو ختمه، وليس من الضروري أن يتأمل سحنتك رجل الشرطة ويقارنها بصورة الجواز، يكفي استخدام البصمة لفتح الباب، ولا يستغرق الأمر الاّ دقائق معدودات يختلف طولها حسب درجة الازدحام البشري في المطار لا غير،وباستخدام تطبيقة على الهاتف الجوال يمكنك الاطلاع في أي وقت على كشف بحركات السفر يشتمل على كل مواعيد الدخول والخروج فيأي مدة تختارها، بينما ما يزال المسافر إلى تونس مطالَبا عند الوصول إلى المطار بتعمير ورقة صغيرة لا يعرف سرّها أحد ولا يُفهم سبب وجودها حتى الآن، رغم أنها انقرضت تقريبا من أغلب مطارات الدنيا.

مطار تونس قرطاج الدولي

مطار تونس قرطاج الدولي

سلسلة المقارنات طويلة لا تنتهي، ولا حاجة بنا إلى التوقّف طويلا عند أشياء أصبحت شبه عادية في المطار بوصفه صورة مصغرة عن البلد، كالغلاء الفاحش في مقاهي المنطقة الحرة، أو الفزع و الرّعب اللّذين ينتابان القادمين لحظة انتظار حقائبهم، أو تلك النّظرة الزّائغة التي يستقبلك بها موظفو الدّولة دون سواهم، فحسناوات شركات الاتصال اللواتي يستقبلنك عند البوّابة هن الوحيدات المبتسمات على الدّوام في هذا الجوّ الكافكاوي، أمّا إذا عنّ لك أن تقضي حاجتك البشريّة وغالبا ما ستفعل،فانتبه إلى بعض أقفال المراحيض المستعصي إصلاحُها منذ سنين، وانتبه إلى عاملة النّظافة وهي تمسك بيدها لفافة الأوراق كي تسلّمك ببرود قطعة منها بعد غسل يديك أملا في مقابل مالي لن تقدر على دفعه لأنّك ببساطة لا تحمل عملة محلّية وهو سبب كاف لجعلك ترى لعناتها المكتومة تلاحقك وأنت تبتعد عنها وتذوب في الزحام.

لو أدرنا عقارب التاريخ خمسين عاما إلى الوراء لرأينا مشهدا معاكسا تماما،فبمقاييس السبعينات كان مطار تونس قرطاج الدولي مفخرة حقيقية، بينما مطارات دبي أو الدوحة مجرّد مهابط بسيطة للطائرات في دول صغيرة ما تزال في بداية طريقها إلى الثّروة والرخاء تجرّ وراءها خلاصة قرون صعبة وقاحلة من الصحراء.فالمسألة حينئذ نتاج طبيعي لمسارات مختلفة امتزج فيها الاقتصادي بالسياسي والثقافي، وتغيرت في ضوئها مراكز الرّفاه والتفوّق الحضاري، لا يُفسّر الأمر فقط بالثّراء، لكن أيضا بالتّخطيط الجيّد وابتكار الحلول المناسبة، فمن المؤكد أنّ تونس كانت أسبق من دول الخليج إلى دخول عصر المعلومات لكنّ عواملَ عدّة جعلتنا لا نهتدي في العشرين عاما الماضية إلى توظيف هذه التّكنولوجيا في تحسين نمط العيش وتطوير المرفق العام، بينما هم فعلوا، والدليل على ذلك الشّكلُ المُذهل ُللحكومات الالكترونية في دول الخليج وتعثّرها أو فشلها الذّريع عندنا.
الحكومة الالكترونية هي المبيد الأكثر فتكا بالبيروقراطية، فالمعاملات التي يجري إنجازها باستخدام الهواتف الذّكية هي اليوم أكثر من أن تحصى، بدءا من التحويلات البنكية وصولا إلى حجوزات السفر والفنادق، وخلاص المخالفات المرورية، وتجديد بطاقات الإقامة والعلاج. أمكن كل ذلك بفضل مُخطّط إقليمي شامل للحوكمة الالكترونية مُخرجاته تكاد تكون متطابقة في دول مجلس التعاون، إذ جرى تنفيذه تحت مظلّة هذه المنظمة، ويستند إلى بيئة رقمية متكاملة يمثل النظام البنكي القوي والمتطوّر أهمّ محاورها فضلا عن التشريعات والبنية الأساسية للاتصالات. فالمعاملات المالية في كل المرافق الحكومية الكترونية وجوبا ووسائل التحقق من هويات المستخدمين والتصدّي للغش مُتعدّدة وفعّالة وفي المتناول، وهي أقلّ تعقيدا من التوقيع الالكتروني الذي توقّفت عنده مخيّلة صناع القرار عندنا بما جعلنا لا نتقدم سنتمترات في هذا المجال.

بناء على ما تقدم يبدو أن خلاصنا في الأمد المنظور ليس في حاجة إلى ثروة طائلة كي يتحقّق بل إلى كثير من التّواضع لنقف على حقيقة حجمنا الراهن بعيدا عن منطق “ثلاثة آلاف سنة من الحضارة” المنطق الذي أضحى لا ينتج الاّ المزيد من البؤس والشقاء كلّما تقدّم العالم من حولنا أكثر.

 


خلّي بالك من زيزو

الزبيدي يعلن عن ترشحه للانتخابات الرئاسية

الزبيدي يعلن عن ترشحه للانتخابات الرئاسية

يصور الفيلم الكوميدي «الرجل الغامض بسلامته» بطريقة كاريكاتورية كيف يمكن امتطاء المصعد السياسي بارتداء بدلة فخمة واستعمال حقيبة جلدية فاخرة. إذ تدفع الظروف الاجتماعية الصعبة البطل «هاني رمزي» إلى البحث عن شغل، فيتقمص شخصية رجل أعمال حتى يغير مظهره، ومكنه ذلك من تحقيق هدفه، حيث أبدى أحد الوزراء إعجابه بأفكاره، ورأى فيه نموذج الشابّ المصري الطموح الذي يستحق الوصول إلى أعلى المراتب بسرعة، فاتّخذه مستشارا. أما العنوان فمن أغنية لصلاح جاهين غنتها سعاد حسني في فيلم «خلي بالك من زوزو» وتقول فيها «الرجل الغامض بسلامته متخفي بنظارة…» وأصبحت هذه العبارة تستخدم في الشارع المصري للتعبير عن الوجاهة الزائفة.

ولا شك أن هذا الوصف ينطبق بشكل ميلودرامي على صورة عبد الكريم الزبيدي وهو يعلن ترشحه للانتخابات الرئاسية المبكرة واستقالته من وزارة الدفاع، حيث يظهر فيها على يمينه رجل بنظارات سوداء وشعر حليق يجعلان ملامحه صامتة خالية من أي تعبير، ولولا تحريكه الرأس بين الفينة والأخرى تعبيرا عن موافقته المطلقة لكل ما يقوله المترشح لكان أشبه بالتمثال، قبل أن يضع إصبعه على فمه في إشارة آمرة للصحفيين بأن يصمتوا، بشكل يعطي انطباعا لا يرقى إليه شك في أنه حارس شخصي للوزير، لكن قلة من الملاحظين اهتموا بهذا الرجل وبرمزية إصبعه الآمرة بالسكوت أمام هجمة تبدو منظمة ضد المكلفة بالاتصال والتي يبدو أن ظهورها في الصورة إلى جانب المترشح تسبب إحراجا كبيرا لمهندسي الحملة وتلخبط أوراقهم في وقت قاتل، ما دعا إلى اتخاذ قرار استعراضي بتقديمها كبش فداء في محاولة لتدارك الأمر، وقد تقدمت باعتذاراتها للصحفيين في حوار إذاعي مؤكدة أن الشخص الثاني الذي ظهر رفقة الزبيدي وكان يحمل نظارات شمسية، لا أحد يعلم من هو! ezgif-5-b4d51b54e07f

وهكذا تتخذ الصورة بفضل التسونامي الذي أثارته في المجال الاجتماعي بعدا آخر ينحو بها في اتجاه السريالية، إذ نكتشف أن الرجل الغامض صاحب النظارة السوداء والإصبع الصارمة ليس ملاكا حارسا بل هو شخص مجهول لا علاقة له بالمترشح ولا بفريقه الأمني أو الاتصالي، ومن ثمة تنقلب الدلالات رأسا على عقب، وننتقل من صورة الرئيس المحتمل المدجّج بالحراس والمرافقين إلى وضع آخر مغاير تماما وشخص عارٍ من أي حماية ويمكن لكل من هبّ ودبّ أن يخترق فريقه بسهولة ويقف إلى جانبه في لجظة تاريخية وصورة رمزية. والتونسيون في هذه المسألة منقسمون منذ الإطاحة بزين العابدين بن علي إلى فريقين: فريق تعجبه صورة الرئيس المتخفّف من كل مظاهر الهيبة والصرامة وفريق آخر تزعجه!

والحق أن الرجل الغامض في الصورة ليس مجهولا بالشكل الذي قد يسمح لهواة نظرية المؤامرة بابتكار قصص عن اختراقات مخابراتية للمشهد الانتخابي، فبالرجوع إلى صفحته على الفايسبوك وتأمل منشوراته، ستكتشف أنه شخص عادي، مواطن تونسي، أستاذ جامعي شاب، مواقفه منحازة بوضوح للعائلة الوسطية، وله بعض النشاطات في المجتمع المدني، ويظهر من خلال صوره الشخصية أنه مغرم كثيرا بالنظارات السوداء التي تجعل مظهره أقرب ما يكون إلى رجل الأمن، كل شيء يبدو عاديا لديه باستثناء أمر واحد فقط، ماذا يفعل يومها إلى جانب عبد الكريم الزبيدي؟ ومن كلفه بمرافقته واللّصوق به؟ لا أحد يمكنه أن يجيب عن هذا السؤال، فمن الواضح أن أسهل شيء في بلادنا اليوم هو امتطاء المصعد السياسي، بعد أن اختلط الحابل بالنابل واشتبك الكوع بالبوع..


عن المنصف المرزوقي وحرّية الإعلام في عهده

الدكتور المنصف المرزوقي

الدكتور المنصف المرزوقي

يتباهى الدكتور المنصف المرزوقي بأنه لم يسجن طيلة فترة إقامته في قصر قرطاج رئيسا للجمهورية أي صحفي، وهو يعتقد أن هذا التسامح الرئاسي مع الصحافة هو أحد أهم الإنجازات التي يمكن التباهي بها. والمرزوقي يصدر في هذا الموقف عن خلفية حقوقية تقوم على الاعتقاد بأن السلطة السياسية لا تملك إزاء الصحافة الحرّة والمنفلتة إلاّ التهديد بالسجن، وهو تصور نمطي أحادي ضيق الأفق يتجاهل عمدا أن مجالات التضييق على الصحفيين أكثر من أن تحصى، بل قد يكون السجن أحيانا أقلها عبئا لا سيما إذا ما تعلق الأمر بثلب ومخالفة صريحة لمواثيق المهنة وأخلاقياتها.

للتدليل على ذلك وشرح الموضوع للدكتور المنصف المرزوقي إذا ما أتيح له الاطلاع على هذه الكلمات، أنقل هنا نص تدوينة سرعان ما حذفها صاحبها بعد نشرها لأسباب غير معروفة، وهي «رسالة مضمونة الوصول إلى عبد اللطيف المكي وتنبيه إلى بعض المخبرين بالتلفزة من هذا الطرف أو ذاك» وفق تعبير الكاتب، ولا ضير في إعادة نشرها مع تغطية بعض الأسماء احتراما لرغبة صاحبها في سحبها، يقول: «ذات مساء من سنة 2012 رتب لنا (م.ع) الاجتماع بالسيد لطفي زيتون المستشار السياسي لرئيس الحكومة حمادي الجبالي قصد مناقشة مشاكل التلفزة التونسية. كنا مجموعة من التلفزة يرافقنا محمد المدب من الإذاعة الوطنية، وقد وقع الاستعداد لهذا اللقاء عبر تقسيم الأدوار بيننا، ووقع الاتفاق على أن أبدأ أنا الحديث بإعطاء بسطة عن التلفزة الوطنية وعن مشاكلها وكيفية النهوض بها لتصبح مرفقا عموميا يستجيب لتطلعات المواطنين، وهكذا كنت أعتقد، غير أن الحقيقة كانت غير ذلك، واللقاء كان مرتبا لأمر آخر.

حوالي الساعة الخامسة مساء وقع استقبالنا بقاعة محاذية لمكتب رئيس الحكومة، وبعد عبارات الترحيب والمجاملة أخذت الكلمة، وبدأت الحديث كما اتفقنا، ولكن في الأثناء لمحت نظرة استهزاء من كلامي من لطفي زيتون، وعند سؤالي أجابني حرفيا بأنه ومن معه لا يعنيهم كلامي ولا تعنيهم مشاكل التلفزة بقدر ما تعنيهم «الأخبار» وكيف يمكن تطويعها لفائدتهم، أحسست حينها أنني في المكان الخطأ مع الأشخاص الخطأ!
مباشرة أخذ هو الكلمة وتساءل عمّن يمكنه أن يتقلّد منصب رئيس مدير عام الإذاعة التونسية عوضا عن السيد الحبيب بلعيد، أجابه في الحين (م.ع) بأنه أحضر معه «محمد المدّب» لتقلّد هذا المنصب وهو الوحيد الذي يمكنه أن يطبق ما يطلب منه،  ثم تساءل عمّن يمكنه تقلّد منصب رئيس مدير عام التلفزة فأجابه المهندس (م.س) من التلفزة بأنه أهل لذلك.

لطفي زيتون

لطفي زيتون

خلت الأمر هزلا، لكن من الغد بلغني أن غاية الاجتماع كانت هذه، وبعد مدة علمت من أحد الحاضرين أنه وقعت الموافقة على تعيين محمد المدب على رأس الإذاعة التونسية، وهم مدعوون إلى التكتم على الخبر إلى حين صدور التعيين بالرائد الرسمي حتى لا تقع شوشرة، خاصة أن البلاد تعيش حالة احتقان شديدة على الإعلام العمومي».

عند هذا الحد تنتهي التدوينة، وهي تصف بوضوح شديد الأجواء داخل غرفة عمليات تسيرها النهضة في ظل رئاسة المنصف المرزوقي الحقوقي المؤتمن على الحريات وعلى كرامة التونسيين جميعا. وكل ما في هذا النص حقيقي موثق بالوقائع الثابتة. وكما يستشف مما جاء فيه فإن دور «الطابور الخامس» قد لعبه (م.ع) وهو أحد العائدين إلى التلفزيون بعد الثورة بموجب العفو التشريعي العام، إذ أطرد في حادثة مشهودة أقدم فيها على قطع التيار الكهربائي يوم إعادة بث حلقة من برنامج «المنظار» مطلع التسعينات تناولت موضوع الاعتداءات الإرهابية على مقرّ لجنة التنسيق بباب سويقة! وهو هنا لا يمتلك أي صفة رسمية تتناسب والدور الخطير الذي يقوم به في الوساطة بين لطفي زيتون والمستعدين لبيع أعناقهم من أبناء الإذاعة والتلفزيون، ما يجعله أقرب ما يكون إلى المشرف على تنظيم سري أو جهاز مواز، لا سيما في تلك الفترة التي نُصبت فيها خيام روابط حماية الثورة أمام مبنى التلفزة للتنكيل بكل العاملين فيها وإهانتهم والانتقام منهم ولو رمزيا.

خبر تعيين محمد المدب

خبر تعيين محمد المدب

أما في ما يتعلق بالإذاعة، فالحادثة أصبحت معروفة، والحبيب بلعيد لم يسمع بنبإ إقالته فعلا إلا من سائقه الشخصي الذي أطلعه على نسخة من الرائد الرسمي (نعم هكذا كانت تدار الدولة!)، وقد عرفت النهضة حقّا كيف تفرض اسم مرشحها الذي ما كان ليقبل به أحد، فهو مجرّد موظف تقني في الإذاعة، مُنح في فترة إدارة «منصور مهني» إبان الفصل بين الإذاعة والتلفزيون فرصته في الإشراف على القطاع الهندسي، وأخفق لمحدودية أفقه وتواضع إمكاناته، لكنه استغلّ هذا الانفلات الذي حدث عقب الثورة ليعود في ثوب «المضطهد السياسي» في أكبر عملية تحيّل شهدتها المرحلة. والمقالات التي كتبتُها على أعمدة الصحافة في هذا الموضوع كثيرة أشهرها مقال بعنوان «الإذاعة التونسية من عثمان الكعّاك إلى محمد المدّب» إذ منحت الترويكا مع الأسف هذا الشخص صلاحيات واسعة النطاق لا تتناسب ومؤهلاته ولا تليق بدولة يزعم حكامها أنها دولة القانون والمؤسسات، ولعل أبرز إنجاز يمكن له أن يتباهى به اليوم هو توقيعه على قرار فصلي من الإذاعة التونسية إثر التحاقي للعمل بالخارج، وحرماني من حقي في الإلحاق بوكالة التعاون الفني، وربما لا يعرف السيد المنصف المرزوقي رئيس الجمهورية آنذاك أن كل الزملاء الذين حرموا من التعاون الفني صدر قرار طردهم من الرئيس زين العابدين بن علي شخصيا، لا لشيء إلا لاعتقاده أن العمل في قناة الجزيرة يساوي «خيانة الوطن» وأن كل ما فعلته الإدارة بعد ذلك هو إخراج مسرحي قانوني كتنظيم مجلس تأديب صوري ينتهي إلى إصدار قرار الفصل النهائي، لكن صاحبنا لم يكن في حاجة حتى إلى مثل ذلك في عهد الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان حيث يمكن له أن يفعل ذلك بجرة قلم بسيطة!

ولكم أضحكني الدكتور المنصف المرزوقي وهو يخاطب «إلياس الغربي» في أول حلقة من برنامج «ميدي شو» يقدمها في موزاييك بوصفه «من الجيل الجديد الذي يعول عليه في دعم الانتقال الديمقراطي»، فلست أدري إن كان يعلم أو لا يعلم أن كل الذين يهيمنون على المشهد الإعلامي اليوم صنعتهم الإذاعة والتلفزة الوطنية، وهم من اكتشافات المرفق العمومي في منتصف التسعينات عندما تأسست قناة 21 ومن بعدها إذاعة الشباب لتجديد المشهد الاتصالي بأوامر رئاسية وتوجيه سياسي. سنذكر هنا بمرارة ذلك الوصف المهين الذي استخدمته «أم زياد» في وصف المشهد حين قالت: «خسارة أن أول صفحات الحرية سيكتبها العبيد» ليعلم المرزوقي أن الاستعباد أشد وطأة من السجن، فبعدما حرّرت الثورة أبناء الإعلام العمومي لم يكن أحد ليقبل لاحقا بأن يتعامل معهم بوصفهم أحرارا، وتكشف القصة التي عرضناها المخطط الذي تم تنفيذه لغلق أبواب الأقفاص مجدّدا وتغيير السجّانين.

ليت الدكتور المرزوقي سجن من أخطأ في حقّه وكان منصفا بحقّ!


لماذا نستورد القمح من أوروبا؟

نقلت وكالة «رويترز» للأنباء عن مصادر تجارية في أوروبا خبرا يتعلّق باقتناء تونس نحو 92 ألف طن من قمح الطّحين اللّين، وقدّمت تفاصيل ضافيةً عن هذه المناقصة الدولية التي كانت قد انفردت أيضا بالإعلان عنها في وقت سابق، فذكرت آجالها، ومراحل تنفيذها، والأسعار التي تمّ اعتمادها. والسؤال الوحيد الذي لم تجب عنه هو: لماذا تستورد تونس القمح من أوروبا؟

تمّ تداول الخبر في شبكات التّواصل الاجتماعي بكثير من السّخرية والاستغراب والحوقلة، فقد تزامن مع توجيه وزير الفلاحة التّهاني للشعب التونسي بصابة قياسية من القمح، وهي نفس العبارة التي استخدمها رئيس الحكومة عند زيارته ديوان الحبوب للاطّلاع على المجهودات المبذولة من قبل كل أجهزة الدولة بما فيها الجيش الوطني لإجلاء المنتوج، وقد اعتبر أنها «أكبر صابة في تاريخ تونس»، ونفى كلّ ما يُتداوَل حول وجود كميات ضائعــة أو عرضة للتلف، متحدّثا عن بوادر انفراج في عمليات التّجميع والنقل.

(مواصلة القراءة…)


Copyright © 1996-2010 آراء حرة. All rights reserved.
View My Stats iDream theme by Templates Next | Powered by WordPress