محمد الغرياني مستشارا لراشد الغنوشي

محمد الغرياني مستشارا لراشد الغنوشي

لماذا كل هذه القسوة تجاه محمد الغرياني؟

هكذا تساءل البعض تعليقا على موجة السخرية والانتقاد التي رافقت الظهور التلفزيوني الأول لآخر أمين عام للتجمّع الدستوري الديمقراطي بعد توليه مهامه الجديدة في ديوان راشد الغنوشي رئيس مجلس النواب. ويُلمّح هذا السؤال إلى أن التجمعيين قد انفرط عقدُهم منذ سنين وتفرّقوا داخل المشهد السياسي الحالي، وأن ما أتاه الغرياني ليس جديدا، فباستثناء الحزب الدستوري الحرّ الذي يتشبّث بمقولات العهد السابق إزاء الإسلام السياسي ارتمى كثير من التجمعيين في أحضان النهضة وانتهى الأمر!

وهو سؤال يتنزل أيضا في سياق الشعور السائد لدى العامة باهتراء المقولات الثورية، فقد حان الوقـــت -كما يقولون- بعد استيفاء كل أدوات المحاسبة دون إنجاز مصالحة حقيقية إلى طيّ صفحة الماضي طيّا بلا رجعة والانطلاق نحو المستقبل دون الالتفات إلى الأمس، لأن إخفاق أدوات العدالة الانتقالية في تضميد جـراح الوطـــن -لأسباب ليس هذا مجالها- لا يعني تركها مفتوحة إلى الأبد.

لقد تأسّس التجمع الدستوري الديمقراطي على ثلاثة عناصر، أولها السواد الأعظم من منخرطي الحزب الاشتراكي الدستوري الذين لم يتردّدوا في الالتحاق بركب «التغيير المبارك» والتنكّر للمجاهد الأكبر سويعات قليلة فقط بعد أن كانت الشّعب الدستورية تحبّر برقيات المساندة لفخامته في الحرب التي يخوضها ضدّ الظلاميين! ويتكوّن العنصر الثاني من المستقلين واليساريين والنقابيين والحقوقيين وغيرهم من النشطاء الذين وجدوا في «بيان السابع من نوفمبر» وعودا بالقطع مع ثقافة الحزب الواحد. وعلى امتداد عقدين من الزمن لم ينصهر هذان الرافدان انصهارا تاما لعدة أسباب أهمها افتقار التجمع لعقيدة سياسية حقيقية، ومحافظته على هذا التفكّك الداخلي لإحكام السيطرة على طريقة «فرّق تسد».

أما العنصر الثالث وهو الذي يشكّل الأغلبية العظمى من منخرطي التجمع فيتكون من موظفي القطاع العام، إذ فرض التداخل بين الحزب والدولة نوعا من الإلزام غير المعلن بأن يكون الالتزام السياسي من شروط الانتساب إلى الوظيفة. وكانت تبعات التشبث بالاستقلالية أو المعارضة وخيمة، فالخطط الوظيفية مثلا تعتبر استحقاقا على أساس الولاء السياسي إلى جانب الكفاءة المهنية وقبلها غالبا. وكان التعيين في مختلف المناصب حتى المتوسطة منها يخضع لاختبار الكفاءة الحزبية.

ومنذ بداية التسعينات عندما اختار النظام الحلول الأمنية لاستئصال الإسلاميين انزلق مشروع السابع من نوفمبر من دولة التعددية والحقوق والحريات إلى دولة بوليسية صارمة. ولئن مثل هذا الاختيار نقطة الالتقاء الجوهرية بين الجنرال وبعض اليساريين والحقوقيين، فإنه كان نقطة الاختلاف المركزية مع المعارضة الراديكالية التي خرجت عن السيطرة. أما التجمع فقد انحرف عن وظيفة الحزب السياسي وأصبح جهازا في خدمة الشرطة والمخابرات وكل أجهزة الأمن. وهكذا عندما وصلنا إلى حدود العام 2011، كان التجمع قد حطّم المصعد الاجتماعي نهائيا، وأقام مكانه سلّم النفاق والوصولية والخبث والانتهازية، وقضى على تكافؤ الفرص ليجعل من الوشاية الوظيفة المركزية للعمل السياسي، الوشاية كانت تطال الجميع لا المعارضين فقط وتمارس داخل النسيج الواسع للتجمّع ذاته. ولهذا لم يبد الحزب الحاكم أي مقاومة عشية الثورة، بل يروى أن كثيرا من مقرات لجان التنسيق أحرقها التجمعيون لإتلاف ما فيها من وثائق تدينهم.

إن الآراء التي تدافع عن حقّ محمد الغرياني في العمل جنبا إلى جنب مع راشد الغنوشي بعد أن كان -كما ردّد سمير الوافي أكثر من مـرة أثـــناء البـــرنامج- «ثالث رجل في نظام بن علي»! آراء يغلب عليها الطابع الإنسانوي والحقوقي والبراغماتي، لكننا ننظر بعيون أولئك الذين لا يتحدّث عنهم أحد، أولئك الذين شملهم العار، فانسحبوا من المشهد، ولم يقوَوا على معاودة الظهور، بل أصيب بعضهم بانهيار نفسي، ودفعوا باهظا ثمن انتمائهم إلى المنظومة القديمة وإيمانهم بها وانخداعهم بشعاراتها دون أن يكونوا ضالعين في الفساد أو مورطين في أيّ شيء. لقد كانوا يمثلون الأغلبية الصامتة التي تعرف ما يجري في كواليس السلطة لكنها تحلم بالإصلاح من الداخل، ثم دفعت ثمن ما اعتبر «تواطؤا بالصمت».

لقد انتابت الجميع في البدء «حالة العفّة الثورية» وما تزال تنتاب البعض حتى يومنا هذا، وقد رُفع فيها شعار «لا فرق بين زلم وآخر»، يشهد بذلك الموقف المسرحي المهين الذي خاطب فيه الرئيس قيس سعيد مرشحه لرئاسة الحكومة هشام المشيشي باستعلاء عندما تناهى إلى سمعه أنه سينتدب وزيرين من أكفأ من أنجبت منظومة بن علي في تخصصهما، قائلا بوضوح: لا مكان لهؤلاء في الدولة!

لكن سياسة وضع البيض كله في سلة واحدة لا يستفيد منها دائما إلا الفاسدون والذين لا كرامة لهم، فقد عاود فعلا كثيرٌ من الانتهازيين والوصوليين والوشاة على امتداد السنوات العشر الماضية الظهور في مختلف الأحزاب وتسلقوا من جديد السلالم المفضية إلى كراسي السلطة، فيما انسحب كثير من الشرفاء الذين اعتبروا أن تشبثهم بما جاء في بيان السابع من نوفمبر حتى اللحظة الأخيرة سذاجة تستحق العقاب. وأيا كانت المبررات التي يسوقها محمد الغرياني لوجوده في ديوان رئيس مجلس النواب فإنه لن يستطيع أن يغير من واقع الحال شيئا فبهذا التعيين يهين راشد الغنوشي أبناء الحركة الإسلامية ويعتدي رمزيا على الديمقراطية ويهين فكرة الثورة ويستخف بكل قطرة دم أهرقت من أجلها.