ameur bouazza

في مثل هذا اليوم منذ إثنين وثلاثين عاما خلت، استيقظت باكرا على غير المعتاد، وأعددت نفسي جيدا لاستقبال مرحلة جديدة في حياتي.

ركبت أول سيارة تاكسي جماعي متجهة إلى المنستير، وفي تمام العاشرة صباحا كنت أصعد درج المندوبية الجهوية للتعليم في مقرّها القديم المتاخم لكلية طبّ الأسنان. لم يكن الأمر يستدعي البقاء طويلا هناك أو مقابلة مدير التعليم الثانوي، فبمجرد الاستظهار أمام السكرتيرة بالبرقية التي وصلتني نهاية الأسبوع الفائت حتى جذبت ملفا من الدرج واستخرجت منه بطاقة التعيين ثمّ سلمتني إياها بعد أن طلبت مني التوقيع على وصل الاستلام والقبول.

كان أول تعيين لي في التعليم الثانوي بمعهد التكوين المهني الهادي خفشة بالمنستير مركز المدينة، وما إن دقّ جرس الساعة الثانية بعد الزوال حتى كنت متّجها نحو قاعة التدريس بعد أن تسلمت من أحد الكتبة في الإدارة جدول الأوقات، ووقفت لدقائق في قاعة الأساتذة مرتبكا ووجلا، فقد كنت وأنا في الحادية والعشرين من العمر الأصغر سنّا بين كل الموجودين في تلك القاعة. وعندما أكملت ساعة الدرس الأولى ناداني ناظر الدراسات عامر عزيّز وكان إلى جانبه عامر البنوني مدير المعهد في الساحة وتجاذبا معي أطراف الحديث للتعارف ولتذكيري بلباقة بضرورة ارتداء ميدعة بيضاء التزاما بالنظام الداخلي للمعهد.

ومضت تلك السنة الأولى سريعة ولذيذة مثل غيمة بيضاء، تعرّفت فيها إلى المنستير المدينة التي لم أكن أعرفها من قبل، وتوطدت بيني وبين تلاميذ السنة الثانية على وجه الخصوص علاقات صداقة، فقد كنا متقاربين في العمر، ولم يكن ضارب مادة العربية يتجاوز النقطة الواحدة أمام مواد تخصصهم المهني كالميكانيك أو اللّحام أو النجارة، فلم يكونوا مهتمين بها إطلاقا، وكان بعض تلاميذي في السنة الأولى لا يحسنون وضع النقاط على الحروف أو لا يتقنون كتابة أسمائهم، وحين سألت بعض الزملاء عن السبب شرحوا لي كيف أن عددا هاما من الوافدين إلى التكوين المهني لم يتحصلوا على «السيزيام» وإنما جيء بهم بطريقة الارتقاء الآلي من مدرسة المهن والصنائع القريبة من المعهد والتي يطلق عليها اسم «جامعة السوربون»

أدركت منذ الأيام الأولى أن المطلوب أساسا هو تنمية الثقافة العامة لدى هؤلاء التلاميذ، وأنه ينبغي تحويل كل درس من دروس العربية إلى نقاش حول السلوك والقيم والأفكار والمجتمع، لا سيما أن أهم محور في البرنامج كان يتعلق بالعمل والضمير المهني، وخلاله كنا مطالبين بتثمين الوظائف اليدوية والمهارات التقنية وتنمية إحساس المتعلمين بالقيمة والجدوى والتساوي في الحقوق والواجبات بين كل الأفراد في المجتمع الواحد، من منطلق التكافل والتعاضد وحاجة الناس إلى العامل بالساعد حاجتَهم إلى العامل بالفكر. ولم يكن النقاش ليحدث بالفعل إلا مع قلة قليلة تهتم بالدرس، أما البقية فكثيرا ما كانوا ينصرفون عنا إلى شؤونهم ولا يكترثون بما نقول أو بما نسجله على السبورة من خلاصات، وقد ضبطت يوما أحدهم وهو يتابع مباراة في كرة القدم عشية الأربعاء بمذياع من الحجم الكبير جلبه معه للغرض، والحقّ أن العقوبة التي نالها لم تكن بسبب ذلك، لكن لأنه لم يتمالك نفسه عندما تلقى فريقه هدفا، ففرطت منه كلمة نابية قالها بصوت مرتفع كما لو كان في مدرج الملعب لا في قسم محترم!

عامر بوعزةورغم خيبة الأمل التي كنت أشعر بها لأنني لن أتمكن مع هؤلاء التلاميذ من تصريف معارفي الجامعية الطازجة  فقد ساعدني ذلك الوضع كثيرا لأنني كنت مطالبا في ذلك العام باستكمال شهادتين من شهادات الدراسات العليا لأنال الأستاذية في اللغة والآداب العربية، وهما شهادة الحضارة التي كان يدرسها الدكتور علي الشنوفي والدكتور سعد غراب، وشهادة اختيارية في التاريخ موضوعها «القضية الفلسطينية ونشأة الحركة الصهيونية العالمية»، وكان ينبغي أيضا متابعة دروس التأهيل البيداغوجي مع متفقد المادة المازري الغنوشي رحمه الله، وهو أحد كبار مدرسي العربية في جهة الساحل، وكان يتأهب لمغادرة المهنة نحو التقاعد في ذلك العام، ورغم ذلك كان ينظم لقاءات التكوين نصف الشهرية في كامل الرقعة الجغرافية التي يشرف عليها، وكثير من الدروس النموذجية شهدناها معه في معهد المنصورة بمدينة القيروان ومعاهد سوسة رغم ما يسببه له ذلك من تعب وإرهاق، إلا أنه كان بحقّ «فخّار بِكْري» ورجلا من الزمن الذي كاد فيه المعلم أن يكون رسولا. لكن بسبب الشيخوخة والوهن لم يعد بمستطاعه أن يفاجئ أحدا بقدومه كما يفعل المتفقدون عادة، فقد كان الوقت الذي يستغرقه للوصول إلى القسم عند قدومه يكفي للاستعداد كما ينبغي، وعموما لم نكن لنتفاجأ البتة بقدوم أيّ متفقد، فقد كانت بين زملاء المادة الواحدة أساليب معروفة لإشعار بعضهم البعض عندما يتفطن الأقرب منهم إلى ساحة المعهد الخارجية إلى حركة غير عادية قرب مكتب المدير يستفاد منها أن ركب المتفقد قد حلّ، فيبادر إلى إرسال أحد تلاميذه إلى الزميل المعني المشمول بزيارات الإرشاد والتفقد وهو عادة المنتدب حديثا من بين الزملاء ليسلمه ورقة مطوية ويطلب منه على سبيل التمويه قطعا من الطباشير.

انتهى ذلك العام بسرعة ولم تتبق منه الا صداقات متينة مع كثير من الزملاء والإداريين والتلاميذ وقد أصبحوا لاحقا حرفيين وتجارا وتقنيين في مختلف المهارات اليدوية، وما أزال إلى اليوم ألتقي كثيرا منهم وما يزال بعضهم يناديني بعبارة (سيدي) عندما يلتقيني مصادفة. لقد كانت سنة من أجمل سنوات العمر، وقد ارتحت كثيرا في هذا المعهد لأنه يقع في سرّة مدينة المنستير التي ألفتها وألفتني، وسرعان ما اندمجت في وسطها الثقافي والإعلامي الأمر الذي جعلني أشعر بانزعاج كبير عندما وزّع المنصف جقيريم القيّم العام جداول الأوقات في العام الجديد على كل الزملاء وعندما جاء دوري قال لي: «اتصل بالإدارة الجهوية فقد تمّ نقلك إلى «بنبلة»» ، ولم يكن عسيرا على نفس السكرتيرة التي تسلمت منها يوم 3 أكتوبر 1988 بطاقة دخولي الحياة المهنية من بوابة التعليم الثانوي أن تقنعني يوم 14 سبتمبر 1989 بقبول النقلة دون اعتراض، فقد قالت: «إن بنبلة لا تبعد كثيرا عن هنا، ولن تستفيد بشيء لو بقيت مدرسا في التعليم المهني، ثم إن الحبيب المكني مدير المعهد شخص رائع يحبّ كل الزملاء العمل معه. اذهب إلى هناك ولن تندم»

وذهبت يومها إلى بنبلة، ولم أندم، وقضيت هناك سبع سنوات هي كل تجربتي في مجال التعليم قبل أن أغادره في اتجاه وظيفة أخرى وعالم جديد.