في مرحلة متقدمة من التعليم الثانوي، التقطت من مكتبة المعهد كتابا مختلفا عما تعودت قراءته كان فيه مزيجٌ من الفكر العميق والحسّ المرهف يتجليان منذ الفصل الأول عندما نقرأ هواجس طبيب متخصص في جراحة الأعصاب خلال لحظات حرجة في غرفة العمليات وهو يعالج ورما في رأس طالبة جميلة ماتزال في أوّل العمر وشدّة الإقبال على الحياة. كانت العملية الجراحية تجري على إيقاع موسيقى شوبرت، وكان الراوي يستخلص من هذا الفضاء الذي ترفرف فيه رائحة الموت أشدّ الأسئلة حرقة ومكرا عن الوجود والكينونة والعدم، لذلك ربما أطلق الشاعر محمد بن صالح على صاحب الكتاب في المقدمة نعت الدكتور المتشائل.
مقالات رأي
العزل السياسي والعدالة الانتقالية
يثير مشروع قانون تحصين الثورة كثيرا من الجدل في الشارع التونسي، فبين غاية معلنة تتمثل في حماية الانتقال الديمقراطي وتداعيات ممكنة على العملية الانتخابية المقبلة يتداخل الأصل والفرع، ومما يزيد الوضع غموضا اختلاف صناع القرار الأكثر تأثيرا ضمن الائتلاف صاحب المشروع، فبين تلميحات رئاسة الجمهورية وقيادة حزب حركة النهضة بإمكانية التخلي عنه والزوبعة التي أثارها تحفظ رئاسة المجلس التأسيسي منه يأتي موقف رئيس الحكومة في تصريحات صحفية مختلفة ليوضح أكثر الارتباك شبه الرسمي إزاء المسألة. (مواصلة القراءة…)
عن المهدي المنتظر في تونس
أكّــد الجدل بخصوص رئيس الحكومة المقبل في تونس أن الهوة بين النخبة والعامة تزداد اتساعا من يوم إلى آخر. ويتجلى اختلاف الحسابات السياسية عن الانتظارات الشعبية في شخصية رئيس الحكومة وأولويات حكومته. فبينما تتطلع العامة إلى ضخ دماء جديدة في جهاز الحكم تتجه النخبة إلى رجال سياسة متقاعدين. وبينما يأمل المواطن في أن يكون الوضع الاقتصادي السيء عنوان المرحلة القادمة تتعالى في الجدل الدائر تخوفات سياسية حول مستقبل الديمقراطية
لا يمكن تفسير العودة القهرية إلى الثمانينيين الاّ في ضوء معطيين اثنين، أولهما نجاح السبسي في إدارة مرحلة ما قبل الانتخابات وهو ما يشجع على انتداب أحد زملائه للقيام بما قام به. وحالة التصحر التي يعاني منها المشهد بتفادي كل من كانت له صلة بنظام بن علي. وهذان الأمران يناقشان، فنجاح السبسي في ما كُــــلِّف به لا يعود فقط إلى إشعاعه كما قد يذهب إلى ذلك الكثيرون لكن ظروف المرحلة كانت الضامن الأوفر لنجاحه. لقد كانت مرحلة واضحة ذات أهداف محددة أدارها فريق حكومي يتضمن أسماء جديدة غير معروفة. (مواصلة القراءة…)
التقدم إلى الوراء
عامر بوعزة:
التجمهر في الفضاء العمومي رسالة تتعاضد في بناء قوتها التعبيرية عناصر متعددة تنضاف إلى محتواها اللفظي، هكذا كانت المظاهرات العظيمة الخالدة عبر التاريخ ومنها مظاهرة 8 أفريل 1938 التي طالب فيها المتظاهرون ببرلمان تونسي وخطب فيهم الزعيم علي البلهوان راجيا إقامة الدليل بالانضباط واجتناب العنف على جدارة الشعب بمطالبه تجسيدا لمبدأ التناسق بين شكل المظاهرة ومحتواها السياسي. وسواء أكانت الرسالة للاحتجاج أم للمساندة فإن قوتها تزداد رسوخا عندما يـدلّ السياق التاريخي على أنها نتيجة طبيعية لموقف جماعي تلقائي لم يخضع للضغط والمقايضة والابتزاز، فبالاحتشاد عشية 7 نوفمبر 1987 أمام مقر وزارة الداخلية في الشارع الرئيسي للعاصمة أعطى التونسيون زين العابدين بن علي موافقتهم على إزاحة بورقيبة عن عرشه و بنفس الطريقة طالبوه بالرحيل عشية 14 جانفي 2011.
في ضوء هذه الثوابت يُـــقرأ ما نظمته حركة النهضة في نفس الشارع عشية السبت 16 فيفري 2013 بوصفه حدثا سياسيا مُهِما يتنزل في سياق الوضع الذي تمر به البلاد منذ شهور والذي تفاقم حتى بلغ حدّ الأزمة الخانقة باغتيال الزعيم اليساري المعارض شكري بلعيد. هذه التظاهرة يمكن استقراء دلالاتها العميقة من ثلاثة زوايا، توقيتها وشكلها ومحتواها. (مواصلة القراءة…)
هل أصبحت النهضة قدوة للإخوان في مصر؟
تعليقا على تأزم الوضع الأمني في مصر غداة الذكرى الثانية لثورة 25 يناير حذّر عبد الباري عطوان رئيس تحرير القدس العربي في افتتاحية عنوانها: ماذا لو أسقط حكم الإخوان؟ من تحوّل الثورة المصرية إلى حرب أهلية، والخطر برأيه يتهدّد مصر في الحالتين: إذا ما أصرّت المعارضة على إسقاط الرئيس محمد مرسي، وإذا ما تواصل انخرام الأمن بشكل يستدعي تدخل المؤسسة العسكرية مجدّدا. وفي تعقيبه على هذه الافتتاحية لدى استضافته في برنامج نافذة على العالم بإذاعة مونت كارلو الدولية حمّل عبد الباري عطوان الإخوان في مصر المسؤولية فيما آلت إليه الأوضاع بتسرعهم في تحمل مسؤولية الحكم والاستفراد به دون أن تكون لهم القدرة على إدارة شؤون الدولة مما زج بالشارع المصري في أتون فوضى مدمرة، داعيا إياهم إلى الاحتذاء بالتجربة التونسية بالقول: “كان عليهم أن يكرّروا تجربة تونس..” ويستطرد في إيضاح ذلك برئاسة السبسي حكومةَ كفاءات وطنية وتولي فؤاد المبزع رئاسة الجمهورية خلال المرحلة الانتقالية ثم تشكيل حكومة الائتلاف الثلاثي بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي. (مواصلة القراءة…)
رياض نعسان آغا بين الثقافة والسياسة
أجري هذا الحوار الإذاعي منذ سنتين، كان الدكتور رياض نعسان آغا وزيرا للثقافة في سوريا وقد زار تونس على رأس وفد ثقافي رفيع المستوى للمشاركة في فعالية القيروان عاصمة للثقافة الإسلامية..
وإثر الحفل الفني الذي حضره رفقة السيد عبد الرؤوف الباسطي وزير الثقافة الأسبق رصدت بشكل سريع انطباعاته حول الحفل (الصورة المصاحبة) والتمست منه إجراء حوار مطول نسبيا فرحب على أن يكون ذلك بعد ساعة فقط في نزل لايكو وسط العاصمة..
وكان الحوار الذي أنزله اليوم بوصفه شهادة على تجربة مثقف عربي خبر عالم الفن والإبداع وبلغ مواقع القرار الثقافي المتقدمة ثم انتصر لفكره الأصيل..
Audio clip: Adobe Flash Player (version 9 or above) is required to play this audio clip. Download the latest version here. You also need to have JavaScript enabled in your browser.
الذئاب والنــــــعاج
صدرت خلال الأسبوع الماضي إشارات رفيعة المستوى اعتبرت رسائلَ موجهةً إلى الرئيس المدير العام لدار الصباح تدعوه إلى الاستقالة بعد أن صار الوضع محرجا أكثر مما يجب، من هذه الإشارات قولُ أحد أعضاء الحكومة إن قضية دار الصباح أصبحت قضية كرامة واستغرابُه من إصرار الرجل على منصبه بعد أن رفضه الجميع. من هذه الإشارات أيضا عدم استبعاد مستشار سياسي كل الاحتمالات في هذه القضية وهو ما قد يمثل دليلا على أن الترويكا بصدد البحث عن الصيغة الأقل إحراجا للخروج من عنق الزجاجة.
لكن الرسالة رغم وضوحها الشديد لم تصل إلى وجهتها، مما يدل على أن كثيرا من “رجال المرحلة” لم يستوعبوا الدرس الأكثر أهمية في سياق الثورة التونسية، كونَها ثورةَ كرامة قبل كل شيء، والغريب أنهم يتشبثون بالمناصب التي وضعوا فيها خطأ كما يتشبث الغريق بحطام المركب!
تحضرني في هذا السياق ثلاثة مواقف متناقضة، أولها موقف الشاعر الكبير المنصف الوهايبي الذي عين في ظل حكومة محمد الغنوشي على رأس إذاعة المنستير لكنه لم يعد إليها بعد حفل التعيـين انتصارا لكرامته وعلو همته والحال أن لو بقي لما كان أسوأ ممن جاء بعده!
والموقف الثاني المناقض له موقف من جاء بعده وأعني الدكتور جميل بن علي الذي لم يستوعب من درس الوهايبي شيئا! واستمات في التشبث بكرسيه حتى رفض مشاركة زملائه الاستقالة تعاطفا مع الحبيب بلعيد الذي أقيل بطريقة مهينة. وفي تقرير تلفزي شوهد وهو يواجه بلامبالاة مستفزة الأجواءَ المحتقنةَ التي بلغتها الإذاعةُ بعد عام من توليه إدارتَها وكأن الذين تجمهروا أمام مكتبه رافعين شعار ديقاج، يصرخون في واد بلا قاع أو كأنهم بعض من شعب الموزمبيق! رغم أنه كان يبدو في مكتبه كمن وقع في مصْــيَدة ولم يتسنّ له الخروجُ إلى سيارته إلا تحت حماية الجيش!!، ولكن يبدو أن الجهات الحكومية التي تقف وراء التعيينات في قطاع الإعلام تـــثمن هذا التنازل الطوعي عن الكرامة لفائدة الكرسي، فكافأت إصراره على البقاء بلا قيد أو شرط بمنصب مهم في رئاسة المؤسسة موهمة المحتجين بأنها قد استجابت لطلبهم!!
أما الموقف الثالث فهو موقف الصحفي البشير الصغاري الذي عاد من قناة الجزيرة ليتولى إدارة نفس المؤسسة بعد أن غادرها صاحبنا المذكور أعلاه في اتجاه العاصمة، لكنه خير بعد شهر فقط رفع الراية البيضاء وعاد إلى ميدان الكفاح الأصلي، بلاط صاحبة الجلالة مفضلا شرف المهنة على أن يكون دمية تحركها أطراف أخرى عن بعد، والغريب أن استقالته قوبلت بلامبالاة باردة، فلم يدعه أحد للتوضيح وفضح الأسباب.
القضية برمتها وانطلاقا من هذه النماذج لا تخرج عن نطاق الحكمة القديمة: لم تكن الذئاب لتكون ذئابا لو لم تكن النعاج نعاجا، فالحكومات على اختلاف ألوانها تــــتذأببُ حينما تجد من يسير في ركابها سير النعاج. والذين تلونوا كالحرباء وصاروا يتودّدون للحكومة من أجل الظفر بغنيمة ضاربين بكرامتهم عرض الحائط هم أشدّ خطرا على تونس من الحكومة ذاتها إذا ما أخطأت!
————————————————————
للمزيد حول هذا الموضوع شاهد فيديو طرد جميل بن علي من إذاعة المنستير
الإذاعة التونسية من عثمان الكعاك إلى محمد المؤدب
كثيرا ما نرى في منابر الحوار التلفزية من يدافع بقوة عن تعيينات حكومة الترويكا، وحجته في ذلك أن الكفاءة هي المعيار الأول، وعادة ما يكون أصحاب هذا الرأي من المنتمين إلى حزب النهضة لأن الحديث عن الولاء موصول بهذا الحزب دون سواه.
ومن الضروري قبل الاسترسال في عرض وجهة النظر هذه التـنويه إلى أننا نتوخى في مقاربة الواقع السياسي منهجا وسطا ما أمكن، فالنهضة شريك أساسي في الانتقال الديمقراطي ولا يمكن تخيل وضع سياسي يستثنيها لكنها غير معصومة من الخطأ.
يبدو إذن إصرار المتحدثين باسم النهضة على أولوية الكفاءة في كثير من المناصب الحساسة خصوصا في مؤسسات الإعلام أمرا يحتاج إلى نقاش، ما يؤكد ذلك هو أن التعيينات في هذا القطاع شكلت منذ مباشرة الحكومة أعمالها نقطة الصدام المركزية مع المعارضة وسائر مكونات المجتمع المدني، والمثل الأكثر دلالة على ضبابية المسألة يقع في شارع الحرية، فمؤسسة الإذاعة تضم تسع إذاعات جهوية بالإضافة إلى المجلة والبوابة الالكترونية، وهو ما يجعلها تقريبا أضخم مؤسسة إعلامية وطنية عدّة وعتادا.
لقد عينت الحكومة على رأس الإذاعة التونسية أحد موظفيها بطريقة غامضة، فقد انتبه البعض بمحض الصدفة لا غير إلى أن الرائد الرسمي يتضمن تسمية مدير عام جديد والحال أن السابق ظلّ يمارس وظيفته دون أن ينبهه أحد إلى أنه قد أقيل، ولو لا ألطاف الله التي دفعت بسائقه الشخصي إلى إعلامه بالأمر لظلّ الوضع على حاله حتى الساعة…!
والرئيس المدير العام الجديد رئيس مصلحة مغمور بالإذاعة فما الذي جعله يحظى بثقة الحكومة ليترأس مجلس إدارة يشرف على تسع مؤسسات؟ هل اختير على أساس الولاء؟
تستدعي الإجابة عن هذا السؤال التذكير بأن المعني بالأمر من موظفي الدار وقد أهّــلَهُ التنظيم الهيكلي الجديد إلى الحصول على خطة وظيفية وهو ما يستبعد أي علاقة له بأي تنظيم محظور في العهد السابق لأن نظام بن علي كان شديد الحرص على مراجعة الملفات الأمنية لمنظوريه واستبعاد كل من حفت به الشبهات ولو من بعيد في الانتداب والترقية. كما يستبعد أن تكون النهضة عينته بسبب انتسابه إليها بعد الثورة فالمنطق السليم يفترض أن الأحق بالتسمية لو كانت بسبب الولاء هم قدامى المناضلين في الحزب الأجدر بالثقة من المتحولين.
النهضة براء إذن من تسمية محمد المؤدب رئيسا مديرا عاما للإذاعة على أساس الولاء، فهل تم ذلك على أساس الكفاءة؟
لقد اطلعنا على السيرة الذاتية للرئيس المدير العام الجديد في الصفحة السادسة من مجلة الإذاعة لشهر ماي 2012 في نسختها الأصلية، قبل أن يتم تأخير صدورها وإعادة طبع الصفحة لحذف الفقرة الخاصة بالر م ع الجديد. والفقرة المصنصرة تقول إن محمد المؤدب متحصل على الإجازة في الكهرباء وشهادة الدراسات المعمقة في الهندسة الكهربائية وهو بصدد إعداد دكتوراة حول معالجة الإشارة !. ولا أحد يعرف ما إذا كانت المؤسسة قد تكبدت خسائر إعادة طبع الصفحة إرضاء لتواضع المعني بالأمر وعدم رغبته في إطلاع العامة على مستواه العلمي المرموق،مأأم أم لتواضع السيرة الذاتية وفقرها المدقع مقارنة بسِيَرِ كل من تقلدوا أمر الإذاعة منذ عهد المرحوم عثمان الكعاك، وسيرة الرئيس المدير العام الجديد مقارنة بالمهمة التي تقلدها تبدو حجة كافية على أن تسميته لم تتم على أساس الكفاءة.
إن هذا الغموض الذي يفتح باب التأويلات والظنون على مصراعيه، لا يخدم الحكومة في شيء إذ يقيم الدليل على استخفافها بالمؤسسات العمومية ويقوي موقف أهل المهنة المطالبين بهيئة عليا مستقلة من مشمولاتها وضع الرجل المناسب في المكان المناسب.
الثورة التونسية، تغيير نظام أم تغيير مجتمع
لا أحد كان يتوقع حدوث هذا السيناريو: رحيل الجنرال زين العابدين بن علي ذي القبضة الحديدية الخانقة عن أرض تونس وسمائها عشية 14 جانفي 2011 بطريقة مرتجلة يكتنفها الغموض، ولا أحد قد احتاط لذلك على الأقل بتصور المقتضيات العاجلة، فبدا هذا الارتباك عند التردّد في استخدام آلية الدستور[1] بما جعل البلاد تشهد تعاقب رئيسين في أقلّ من أربع وعشرين ساعة بعد أن هيمن عليها رئيسان لفترة نصف قرن ونيف[2]! ، و تتالت الأخطاء في ظلّ حكومة السيد محمد الغنوشي إلى أن أجبره الحراك الجماهيري في محيط مقر الحكومة أو ما أصبح يعرف بمصطلح “اعتصام القصبة” على الاستقالة وعيّن الرئيس المؤقت السيد فؤاد المبزع رجلا من رجال العهد البورقيبي السيد الباجي قائد السبسي للاضطلاع بأعباء المرحلة الانتقالية، مع الإعلان في ذات الوقت عن تعليق العمل بالدستور القديم وتحديد موعد لانتخابات تعدّدية تفضي إلى إنشاء مجلس تأسيسي في منتصف صائفة 2011.

الثورة التونسية
تؤكّد أحداث الأربعين يوما التي تلت فرار الرئيس التونسي المخلوع إذن أن الثورة لم يكن مخططا لها بالشكل الذي يضمن تحقيق أهدافها بسرعة وفعالية، فكانت ثورة شعب رفع شعار إسقاط النظام دون أن يتهيأ لإمكانية تحقق مطلبه هذا !، فوسط الارتباك الحكومي والتردد الواضح في التعامل مع الماضي مجسّدا في رموز النظام السابق ومؤسساته ، عاد المُهجرون من المنافي بسرعة وتتالى تأسيس الأحزاب السياسية استعدادا لاستحقاقات المرحلة المقبلة، وتواصل الوضع الأمني مضطربا حتى بلغ يوم 25 فيفري حدّ الاعتداء العنيف على أحد رموز السيادة الوطنية مقـرِّ وزارة الداخلية الشامخ المهيب وسط الشارع الرئيسي في العاصمة وهو صورة عن هيبة الدولة وقسوتها، و كان الشارع ذاته قد احتضن الآلاف من المنادين برحيل بن علي عشية يوم 14 جانفي بينما كان سجناء سياسيون يقبعون في أقبية هذه الوزارة يسمعون صدى هتافات الناس وهم تحت الأرض لا يرون من سماء الحرية أو أفقها المفتوح إلا بصيصا من الضوء يتسع شيئا فشيئا تحت وقع الحناجر المدوية.
في ظلّ تجاذبات عنيفة تستدرج الثورة الشعبية إلى ساحتها للاستحواذ على منجزها، تضمَّن الخطاب الرئاسي[3] الذي رسم خارطة طريق الفترة الانتقالية في معرض حديثه عن بعث “هيئة تحقيق أهداف الثورة والاصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي” إشارة إلى رجال المرحلة فهذه الهيئة متكونة من “شخصيات سياسية وطنية وممثلين عن مختلف الأحزاب السياسية والهيئات والمنظمات والجمعيات ومكونات المجتمع المدني المعنية بالشأن الوطني في العاصمة والجهات ممن شاركوا في الثورة وساندوها“[4]. (مواصلة القراءة…)
مصر التي في خاطري
عندما بدأت طائرة الخطوط التونسية تهبط شيئا فشيئا في سماء القاهرة وبدأت أضواء الحياة المصرية التي لا تنام ليلا تتلامع في عيون المسافرين كان لا بد من التهام هذا المشهد السياحي الطري من وراء تلك النافذة الصغيرة مُقدِّمة لوجبة شهية تنتظر زائر مصرَ لأول مرة. هي وجبةٌ شهية فيها بقايا من كل شيء، من أحاسيس الناس ومشاعرهم، من إيديولوجيا آمنوا بها وأفكار اعتنقوها، من محبة عارمة أو شعور غامض بمودّة قديمة لا تعرفها عندما يسألك بائع في خان الخليلي عن أحمد حمزة وينبهك بضحكته المصرية العتيقة التي تـشبه شجر السنديان إلى أنه أطلق اسم هذا الفنان التونسي على محله التجاري لأنه يحبه كثيرا ويسأل دائما عن أحواله عندما يزوره التونسيون.

خان الخليلي
إنها وجبة دسمة تتناولها الروح و يتداعى فيها الجدار الفاصل بين الحقيقة والخيال بين الواقع والحلم، بين الممكن و المستحيل.
لم أر من القاهرة في اللحظات الأولى غير مشاعري المتدفقة في كل الاتجاهات، فبينما كانت الحافلة تقطع بنا المسافة بين المطار وفندق شهرزاد في “العجوزة” كنت كمن يخلع نعليه ليدخل استوديو مصر الذي خرجت منه روائع السينما وعلمتنا حب الحياة. وعندما فتحت النافذة صباحا وخرجت حافيا لأتفقد النيل من علو أربعة طوابق سياحية هرمة كانت السماء ملبدةً بغيوم قاتمة تنذر بأمطار لا تهطل وتملأ النفس خوفا وانقباضا، وكانت في أعلى لوحة إشهارية تمتطي ظهر عمارة من عمارات قاهرة المعز وتخترق تلك السحبَ الغامضةَ صورةُ الفنانة التونسية لطيفة العرفاوي في إعلان عن شريط جديد. كان ذلك منذ عشر سنوات، عندما كانت الفنانة الرائعة هند صبري طفلة بين يدي مفيدة التلاتلي في تونس تخطو خطواتها الأولى في صمت القصور وهدأة الملكات، هند صبري التي أصبحت اليوم ورقة رابحة في المشهد السينمائي والتلفزي المصري والعربي !
أتذكر رحلتي إلى مصر وسط هذه المشاعر الشوفينية الجيّاشة التي أتت على الأخضر واليابس وغمرت بمياه الحقد الآسنة كل شيء جميل من حولنا، أتذكر وقائع لقائي برجل مصري أسمر في مطعم شعبي من مطاعم بورسعيد، دفع ثمن السندويتشات التي تناولتها وعندما تمانعتُ بلطف متسائلا : كيف أردّ هذا الجميل ؟ قال لي: عندما تلتقي مصريا في شوارع تونس أكرمه…
أسترجع الآن إحساس الطمأنينة التي تغمر زائر مصر بفيوض من مشاعر الانتماء وهو يرى تلك اللوحة الشهيرة في ميناء القاهرة الجوي تستقبل القادمين وتودع الرائحين: ادخلوها بسلام آمنين…، في مصر تبدو لك كل الأشياء مختلفة وجذابة، فتظلّ لفترة طويلة واقعا تحت تأثير سحر لا يقاوم… (مواصلة القراءة…)







