المجلس الوطني التأسيسييثير مشروع قانون تحصين الثورة كثيرا من الجدل في الشارع التونسي، فبين غاية معلنة تتمثل في حماية الانتقال الديمقراطي وتداعيات ممكنة على العملية الانتخابية المقبلة يتداخل الأصل والفرع، ومما يزيد الوضع غموضا اختلاف صناع القرار الأكثر تأثيرا ضمن الائتلاف صاحب المشروع، فبين تلميحات رئاسة الجمهورية وقيادة حزب حركة النهضة بإمكانية التخلي عنه والزوبعة التي أثارها تحفظ رئاسة المجلس التأسيسي منه يأتي موقف رئيس الحكومة في تصريحات صحفية مختلفة ليوضح أكثر الارتباك شبه الرسمي إزاء المسألة.

يندرج المشروع في سياق تصفية الإرث الثقيل للعهد السابق، عهد يختلف الملاحظون في توصيفه، فمن القائلين بأنه عهد الدكتاتورية المطلقة والفساد المحض الممتد من الاستقلال إلى 14 جانفي (!) إلى القائلين بأنه عهد بناء دولة مدنية لم تخفق إلا في أن تكون ديمقراطية، ويتقدم النشطاء منهم في خضم الحراك الجديد بوصفهم المنهزمين سابقا في معركة الديمقراطية والإصلاح السياسي داخل البيت الدستوري، لكن التوصيف الأدق للعهد السابق أنه العهد الذي لم يكن للإسلاميين فيه مجال في الحياة السياسية، وأيا كانت التوصيفات فإن مسألة إبعاد “رجال بن علي” عن التنافسات الانتخابية الجديدة بقانون خاص للعزل السياسي كان محل وفاق بمناسبة الفصل 15 من القانون الانتخابي الأول بعد الثورة ثم لم يَعُد كذلك بعد 23 أكتوبر عندما انقسم المشهد إلى أحزاب في الحكم وأخرى في المعارضة وحلت الشرعية محل التوافق الاضطراري.

يأتي مشروع قانون تحصين الثورة في ظرف لم تباشر فيه الحكومة الشرعية تصفية الإرث السياسي للعهد السابق ضمن منظومة للعدالة الانتقالية، وكان ينتظر أن تراعي هذه المنظومة طبيعة المجتمع وخصوصية الثورة، فالمجتمع التونسي لم يشهد خلال نصف قرن هزات اجتماعية تتمرد على الوضع القائم إلا في مناسبات قليلة ارتبطت كلها بالظروف الاجتماعية قبل الحقوق السياسية، في مقابل التماهي مع السياسات الرامية إلى صياغة نموذج مجتمعي ليبرالي، وكان تشدّد النظامين في تصفية الخصوم السياسيين وعلى رأسهم الإسلاميون أمرا مقبولا على نطاق واسع، أما الثورة التونسية فلم تكن كما هو معلوم حصيلة عمل سياسي منظم تقف وراءه حركة بعينها إنما أخذت ملامحها تتشكل تدريجيا في خضم الانتفاضة التي أوقدها حريق البوعزيزي، هي ثورة مرتجلة تظافرت فيها عوامل شتى ولم يتحدد مسارها إلا عند إجبار معتصمي القصبة السلطةَ الانتقالية على تعليق العمل بدستور1959 والمضي في اتجاه مجلس تأسيسي لدستور جديد.

خلاصة ذلك أن الذين رفعوا عرش الدكتاتور على أعناقهم والذين أسقطوه هم التونسيون، ينقسمون إلى طبقات اجتماعية بعضها يتحرك في مركز النموذج المجتمعي والبعض الآخر يتحرك في الهامش في انتظار الدخول إلى المركز عن طريق الانتداب في الوظيفة العمومية أو الحصول على خطة حزبية أو بأي شكل من أشكال الصعود في السلم الاجتماعي فقد كان المطلب الأول للمتظاهرين في منطقة سيدي بوزيد يوم 17 ديسمبر 2010 “التشغيل استحقاق”، وكانت العلاقة مع النظام القائم نفعية في الغالب الأعم بأشكال انتهازية متنوعة دون اصطفاف خلف إيديولوجيا عميقة، مما خلف صراعا حادا لا بين مرجعيات سياسية بل بين فئات اجتماعية وجهات جغرافية، ومما يعزز هذا الرأي أن قبول التونسيين بديكور ديمقراطي طيلة ثلاثة عقود تحت طائلة الخوف من التطرف الديني والأصولية الفكرية عقبه في أقل من سنة تفوق انتخابي لحزب ديني!

طبيعة المجتمع وخصوصية الثورة أمران يفترضان وضع تصور خاص للعدالة الانتقالية تسمح بإنجاز المساءلة والاعتراف قبل الانتقال إلى المصالحة التي ينبغي أن تكون غاية أي مشروع من هذا النوع، لكن منظومة العدالة الانتقالية لم تتضح معالمها بعدُ في تونس، والإجراءات المتخذة لفائدة ضحايا النظامين السابقين والمتعلقة بالتعويضات المادية وترميم المسارات المهنية تمثل جزءا فقط منها، أما جوهرها وهو أساس الانتقال الديمقراطي فيتطلب حوارا رفيعا لمقاربة الماضي واتخاذ موقف واضح منه وتحديد الأخطاء والمسؤوليات قبل التقاضي أو إبرام الصلح وهذا ما تباطأ الائتلاف الحاكم في إنجازه مما فتح باب التزايد عريضا أمام جهات يبدو الهاجس الانتخابي أقوى لديها من إرادة التصفية السلمية الحقيقية لإرث ثقيل يجثم على صدور كل التونسيين بمشاعر مختلفة، مشاعر ذنب لدى البعض ومشاعر اضطهاد لدى البعض الآخر، هذا التباطؤ والارتباك في التعامل مع ملف الماضي يتجلى بوضوح في تعامل الائتلاف الحاكم مع رموز النظام السابق السجناء تحفظيا، فقد اعتمد نفس أسلوب بن علي وغلف رغبته في محاسبتهم على المسؤولية السياسية بجرائم حق عام من قبيل الاستيلاء على أموال عمومية وهو ما أخفق فيه وجعل المجتمع الدولي ينظر إليهم بوصفهم معتقلين سياسيـــين عندما تجاوز الإيقاف الآجال القانونية ولم يتضح مصيرهم بعد.

في الأثناء يبدو مشروع قانون تحصين الثورة بصيغته الحالية خطأ لا يدري أحد هل هو امتداد وراثي لأخطاء الدكتاتورية أم أول أخطاء الديمقراطية، فهو من حيث الشكل أداة يمسك بها طرف سياسي يتمتع بالنفوذ ويوظفها لاستبعاد بعض الخصوم من الانتخابات، لا يختلف الأمر في ذلك عن منع نظام بن علي قيام أي حزب على أساس ديني أو وضعه لاحقا مقاييس محددة للترشح في الانتخابات الرئاسية يعرف القاصي والداني أنها تهدف أساسا إلى إبعاد شخص بعينه، أما من حيث المضمون فإن أصحاب المشروع يفرضون تصورا أحاديا للدكتاتورية يوحي بأن الخطر الوحيد المتربص بالثورة يأتي من الماضي، ويتغافلون عن أهمية دور المؤسسات في الأنظمة الديمقراطية لمجابهة أي استيلاء ممكن على المنجز الديمقراطي لفائدة دكتاتورية جديدة واحترام إرادة الشعب أينما كان اتجاهها.