عندما بدأت طائرة الخطوط التونسية تهبط شيئا فشيئا في سماء القاهرة وبدأت أضواء الحياة المصرية التي لا تنام ليلا  تتلامع في عيون المسافرين كان لا بد من التهام هذا المشهد السياحي الطري من وراء تلك النافذة الصغيرة مُقدِّمة لوجبة شهية تنتظر زائر مصرَ لأول مرة. هي وجبةٌ شهية فيها بقايا من كل شيء، من أحاسيس الناس ومشاعرهم، من إيديولوجيا آمنوا بها وأفكار اعتنقوها، من محبة عارمة أو شعور غامض بمودّة قديمة لا تعرفها عندما يسألك بائع في خان الخليلي عن أحمد حمزة وينبهك بضحكته المصرية العتيقة التي تـشبه شجر السنديان إلى أنه أطلق اسم هذا الفنان التونسي على محله التجاري لأنه يحبه كثيرا ويسأل دائما عن أحواله عندما يزوره التونسيون.

خان الخليلي

خان الخليلي

إنها وجبة دسمة تتناولها الروح و يتداعى فيها الجدار الفاصل بين الحقيقة والخيال بين الواقع والحلم، بين الممكن و المستحيل.

لم أر من القاهرة في اللحظات الأولى غير مشاعري المتدفقة في كل الاتجاهات، فبينما كانت الحافلة تقطع بنا المسافة بين المطار وفندق شهرزاد في “العجوزة” كنت كمن يخلع نعليه ليدخل استوديو مصر الذي خرجت منه روائع السينما وعلمتنا حب الحياة. وعندما فتحت النافذة صباحا وخرجت حافيا لأتفقد النيل من علو أربعة طوابق سياحية هرمة كانت السماء ملبدةً بغيوم قاتمة تنذر بأمطار لا تهطل وتملأ النفس خوفا وانقباضا، وكانت في أعلى لوحة إشهارية تمتطي ظهر عمارة من عمارات قاهرة المعز وتخترق تلك السحبَ الغامضةَ صورةُ الفنانة التونسية لطيفة العرفاوي في إعلان عن شريط جديد. كان ذلك منذ عشر سنوات، عندما كانت الفنانة الرائعة هند صبري طفلة بين يدي مفيدة التلاتلي في تونس تخطو خطواتها الأولى في صمت القصور وهدأة الملكات، هند صبري التي أصبحت اليوم ورقة رابحة في المشهد السينمائي والتلفزي المصري والعربي !

أتذكر رحلتي إلى مصر وسط هذه المشاعر الشوفينية الجيّاشة التي أتت على الأخضر واليابس وغمرت بمياه الحقد الآسنة كل شيء جميل من حولنا، أتذكر وقائع لقائي برجل مصري أسمر في مطعم شعبي من مطاعم بورسعيد، دفع ثمن السندويتشات التي تناولتها وعندما تمانعتُ بلطف متسائلا : كيف أردّ هذا الجميل ؟ قال لي: عندما تلتقي مصريا في شوارع تونس أكرمه…

أسترجع الآن إحساس الطمأنينة التي تغمر زائر مصر بفيوض من مشاعر الانتماء وهو يرى تلك اللوحة الشهيرة في ميناء القاهرة الجوي تستقبل القادمين وتودع الرائحين: ادخلوها بسلام آمنين…، في مصر تبدو لك كل الأشياء مختلفة وجذابة، فتظلّ لفترة طويلة واقعا تحت تأثير سحر لا يقاوم…

وأنت على ظهر دبابة قديمة من بقايا حرب أكتوبر في المتحف الحربي، أو عندما تقترب من فرعون نائما في جلال وأنفة في برود القاعة الفرعونية بالمتحف القومي، أو عندما يناولك النادل الشاب القادم من آفاق الصعيد المصري عصير القصب المثلج في حي خلفي من أحياء الهرم أو حينما تتمشى عند الأصيل الذهبي في ثوب بيرم التونسي على شاطئ الاسكندرية الساحر أو عندما تعبر الكوبري وتخيط الانتظار بالانتظار في شوارع مزدحمة تتآكل تحت وطأة القيظ والضوضاء…

وأنت تخترق مساءً ميدان العتبة، وتشق الأمواج البشرية الهادرة تبدو لك الوجوه وجها واحدا هو وجه الرجل المصري الأسمر الذي صهدته الشمس وأعمل فيه الزمن أخاديد غائرة، هو وجه أمل دنقل وأحمد فؤاد نجم وعبد الرحمان الأبنودي  وجمال عبد الناصر وعبد الحليم حافظ وأحمد زكي، ووسط هؤلاء تتوقع في كل لحظة أن يطلع المعلم نونو من بين طيات الرواية  صائحا: ملعون أبو الدنيا، وتبدو لك الأشياء في منطقة وسطى بين ما كان وما ينبغي دائما أن يكون…

لقد ظلّ الأدباء والفنانون يحفرون بأظافرهم أنفاقا موصلة تحت جدران العزل الاسمنتية التي أقامتها السياسات الوطنية أنفاقا تتسرب منها أشعة الضوء لتبدّد عتمة الواقع وغربته، أنفاقا أمكننا بها أن نشعر بكثير من الزهو  والخيلاء عندما وقف أحمد زويل ليتسلم جائزة نوبل أمام أنظار العالم…

والآن يتساءل بعض “حكماء هذه الأمة وعقلائها” في غمرة الدهشة المفتعلة مما يحدث عربيا على مدرجات ملاعب الكرة: كيف يحدث هذا الذي يحدث؟ وكيف تمتد يد أخ لأخيه فتدهسه كمن يفقأ بإصبعه عينيه اللتين يرى بهما الحياة؟ يتساءل هؤلاء في سذاجة من يؤدي واجب العزاء بلا رغبة، يتساءلون عن طوفان الكره هذا الذي أدخلنا زمنَ التشرذم والانبتات، زمنَ الأقليات والهويات الممسوخة، زمنَ الأورام والبثور التي تقيّحت في جسد الألم العربي، إنهم يتساءلون وهم يدركون أن المعارك العربية التي تندلع بمناسبة مباريات رياضية هي براكين الوجع تفور في وجه التشيؤ واللامعنى والفراغ والصمت والهزيمة، هي حالة الانتحار الجماعي لمارد جبار يعيش في قارورة تتقاذفها الأمواج إلى النسيان واللامبالاة، إنها النتيجة الوحيدة التي يمكن أن تفضي إليها سياسات ثقافية جعلت الفكرة القومية أضحوكة والتاريخ العربي المليء بالحلم مؤامرة، والانتماء إلى جذور مشتركة أكذوبة لا يصدقها الأطفال، لقد بدأت الطبول تدق منذ زمن بعيد ولم تفعل جماهير الكرة شيئا غير تنفيذ فكرة حلم بها آخرون منذ أمد طويل…

لقد كنت ترى من خلال الأيادي المتشابكة شبح شهداء الساقية وأطياف من رحلوا في حمام الشط وجنود أكتوبر واليمن والسويس وبنزرت والجزائر، وتصغي من وراء كرنفال الفضائيات وزعيقها إلى إذاعة صوت العرب وصرخة مراهقة في ريف الشمال الإفريقي يوم وفاة العندليب الأسمر، ويتراءى لك وسط الفوضى هتاف مبحوح في حناجر طلبة ثائرين يوم موت الزعيم…

إنها أغنية عظيمة تتهاوى تحت أقدام أشخاص غاضبين من لا شيء ومن كل شيء وهو المصير العربي المشترك الذي حلم به الأجداد وبذلوا في سبيله الغالي والنفيس يُزف إلى مزبلة التاريخ وقاعِ الهزيمة السحيق، إنه آخر مسمار يُـدَقُّ باسم الهوية في نعش هذا الوطن…

ملعون أبو الــدنيا…