تعليقا على تأزم الوضع الأمني في مصر غداة الذكرى الثانية لثورة 25 يناير حذّر عبد الباري عطوان رئيس تحرير القدس العربي في افتتاحية عنوانها: ماذا لو أسقط حكم الإخوان؟ من تحوّل الثورة المصرية إلى حرب أهلية، والخطر برأيه يتهدّد مصر في الحالتين: إذا ما أصرّت المعارضة على إسقاط الرئيس محمد مرسي، وإذا ما تواصل انخرام الأمن بشكل يستدعي تدخل المؤسسة العسكرية مجدّدا. وفي تعقيبه على هذه الافتتاحية لدى استضافته في برنامج نافذة على العالم بإذاعة مونت كارلو الدولية حمّل عبد الباري عطوان الإخوان في مصر المسؤولية فيما آلت إليه الأوضاع بتسرعهم في تحمل مسؤولية الحكم والاستفراد به دون أن تكون لهم القدرة على إدارة شؤون الدولة مما زج بالشارع المصري في أتون فوضى مدمرة، داعيا إياهم إلى الاحتذاء بالتجربة التونسية بالقول: “كان عليهم أن يكرّروا تجربة تونس..” ويستطرد في إيضاح ذلك برئاسة السبسي حكومةَ كفاءات وطنية وتولي فؤاد المبزع رئاسة الجمهورية خلال المرحلة الانتقالية ثم تشكيل حكومة الائتلاف الثلاثي بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي.
في هذا الموقف بعض التسرع والالتباس، فمقارنة وضع مصر فيما بعد الانتخابات بوضع تونس قبلها لا يستقيم، أما إذا نظرنا إلى ما يحدث هنا وهناك بعد أن باحت الصناديق بأسرارها فالتشابه كبير والأخطاء التي نسبها عبد الباري عطوان للإخوان في مصر لا يمكن تبرئة حزب حركة النهضة منها وأهم هذه الأخطاء التذرع بالتفوق الانتخابي لمباشرة الحكم.
وجهة النظر هذه تأخذ بعين الاعتبار ثلاثة عوامل: أولها أن الانتقال من وضع التنظيم السياسي المحظور إلى وضع الحزب الحاكم من الصعب أن يتحقق إجرائيا ولوجستيا في أقل من سنة واحدة هي عمر المرحلة الفاصلة بين سقوط النظام والانتخابات. وكل المؤشرات التي كانت تدل على تفوق هذا الطرف أو ذاك إنما كانت تدل على مدى الاستعداد لخوض المعركة الانتخابية وفرض الذات في مناخ سياسي تنافسي غير معهود، أما مباشرة الحكم ووضع استراتيجيات الدولة وتنفيذ مخططات تنموية للخروج من الوضع الاقتصادي السيئ فلا وهذا لا ينطبق على النهضة وحدها بل على كل الأحزاب.
العامل الثاني يتعلق بطبيعة المرحلة، فتجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا التي يطمئن بها الإخوان في مصر وتونس ناخبيهم تجربة متجذرة في بيئة سياسية مختلفة بينما ما تزال بلدان الربيع العربي تتحسس الطريق إلى التعددية الفعلية وحرية الصحافة واحترام حقوق الانسان بعد مرحلة طويلة من الحكم الفردي واختناق الحريات، ولا يمكن أن تطوى سنوات الاستبداد والفساد بمجرد إجراء انتخابات حرة ونزيهة تمتثل إلى نتيجتها كل القوى، ومن ثمة اقتضت خصوصية المرحلة من الفائزين التعامل مع نتيجة الصندوق بشكل مغاير: بتواضع أكثر وانفتاح أكبر على بقية مكونات الطيف السياسي مع الاحتفاظ بالتفوق الانتخابي ورقة ضغط، فالمهام المطروحة على النظام السياسي البديل في أي بلد عاش تجربة الثورة أخطر من مجرّد إدارة دواليب الحكم.
أما العامل الثالث فيتمثل في ما يمكن تسميته بتـنازع الشرعيات، فإسقاط نظام بن علي تم على مرحلتين: المرحلة أولى انتهت بهروب الرئيس عشية 14 جانفي، وتوجت المرحلة الثانية بعد ثلاثة أشهر بالإعلان عن إنهاء العمل بالدستور والمضي في اتجاه انتخاب مجلس تأسيسي، فانتقلت البلاد خلال هذا السقوط التدريجي من الشرعية الدستورية إلى التنظيم المؤقت للسلط العمومية تمهيدا لما ستفضي إليه الانتخابات، ولئن كانت الانتفاضة في البدء من صنع الشارع وحده فإن قوى سياسية متباينة حرضت على الاعتصام الذي فرض إلغاء الدستور، إذ اتسمت تلك الأشهر الثلاثة بصراع بين اتجاهين اتجاه سعى إلى التغيـير في سياق الاستمرارية واتجاه سعى إلى التغيــير بالقطع مع الماضي، وكان موقع الإسلاميـين في الحياة السياسية المقبلة دون شك أحد نقاط التمايز الأساسية بين الاتجاهين قبل انتصار الرؤية الراديكالية.
لكن الشرعية الانتخابية في الحالة التونسية مؤقتة ومشروطة باكتمال صياغة الدستور واختيار نظام سياسي جديد ومن ثمة أصبح تسرع النهضة وشريكيها في ممارسة الحكم على قاعدة المحاصصة الحزبية خطأ ستتجلى آثاره لاحقا في تفاقم المشكلات والتذبذب بين مقتضيات الوضع المؤقت ومطالبات الفئات الضعيفة والمهمشة.
هذه العوامل الثلاثة ترجح أن وضع الإخوان في مصر لا يختلف كثيرا عن وضع النهضة في تونس من جهة التسرع في الاستحواذ على مقاليد السلطة تحت مظلة الشرعية الانتخابية بل قد يصير الوضع التونسي أشدّ تعقيدا لأن للشرعية أمدا تم تجاوزه دون الإيفاء بالدستور. ولئن كان الجدل السياسي حول آفاق الشرعية إبان الاحتفال بالذكرى الأولى لانتخابات 23 أكتوبر قد أذعن لسياسة الأمر الواقع حفاظا على السلم الاجتماعي فإن الإعداد الجدي لانتخابات جديدة بالتوازي مع وضع سياسات عاجلة للنهوض بالفئات الضعيفة هما المهمتان الوحيدتان المطلوبتان من النهضة وشركائها في الحكم للحيلولة دون الوقوع في المزيد من الفوضى.
فالتحول الديمقراطي في مصر يلفت أنظار العالم إليه بالنظر إلى ثقل مصر السياسي في المنطقة ودورها التاريخي في الصراع العربي الاسرائيلي، وفي تونس يستمد أهميته من خصوصية النموذج المجتمعي المحلي وأسبقية الثورة التونسية في سياق الربيع العربي، ولكن الدعوة إلى أن يقتدي الإخوان في مصر بتونس تبدو مظلّلة فنقاط الاختلاف التي تميّز كل دولة عربية عن الأخرى أقوى بكثير من نقاط الالتقاء التي تجمّع الأحزاب الدينية في مرجعية واحدة وأفق مشترك، وهذا ما أقر به عبد الباري عطوان ذاته حين نبه إلى أن التصدي إلى الإخوان في مصر سيفضي إلى وضع دموي شبيه بوضع الجزائر في بداية التسعينات رغم أن لكل بلد ظروفها وشخصيتها وهويتها السياسية والجينية، وهذه نقطة أخرى نختلف فيها معه ومع كل من يُــلوِّح بالتجربة الجزائرية للتخويف من الوقوف في وجه التيارات الإسلامية الصاعدة بقوة إلى منصات الحكم، فعلاوة على الفروق الجغراسياسية توجد فروق أخرى تاريخية، فالمواجهة اليوم في مصر وتونس تقع بين المعارضات وأحزاب حاكمة قد تكون تنكرت لبعض عهودها أو أخفقت في الإيفاء بها وهو من جوهر الممارسة الديمقراطية التي تقوم على المساءلة المستمرة والعمل تحت الرقابة والتداول على السلطة إلا أن يكون لدى القابضين على صولجان الحكم في بلدان الربيع العربي رأي مخالف.





