عامر بوعزة مع المنصف المرزوقي والطاهر هميلة بمناسبة حلقة من المقهى السياسي يوم 19 جوان 2011

مع المنصف المرزوقي

في مرحلة متقدمة من التعليم الثانوي، التقطت من مكتبة المعهد كتابا مختلفا عما تعودت قراءته كان فيه مزيجٌ من الفكر العميق والحسّ المرهف يتجليان منذ الفصل الأول عندما نقرأ هواجس طبيب متخصص في جراحة الأعصاب خلال لحظات حرجة في غرفة العمليات وهو يعالج ورما في رأس طالبة جميلة ماتزال في أوّل العمر وشدّة الإقبال على الحياة. كانت العملية الجراحية تجري على إيقاع موسيقى شوبرت، وكان الراوي يستخلص من هذا الفضاء الذي ترفرف فيه رائحة الموت أشدّ الأسئلة حرقة ومكرا عن الوجود والكينونة والعدم، لذلك ربما أطلق الشاعر محمد بن صالح على صاحب الكتاب في المقدمة نعت الدكتور المتشائل.

هكذا عرفتُ الدكتور محمد المنصف المرزوقي لأول مرة، ثم تكوّنتْ لديّ صورةٌ عنه من وجهةِ نظر صديقه الكبير محمد بن صالح الذي تجمعني به صداقة تجاوز عمرها الآن عشرين عاما، فبين الرجلين قصة حياة في الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان، وهما ينتميان إلى جريدة الرأي التي تعتبر أحد أبرز محاضن الفكر الديمقراطي والحقوقي في تونس، وبينهما حوار  فكري أصيل مبثوث في كتبهما، ومثلما نقرأ تقديم الشاعر للدكتور في كتابه “الطبيب والموت” نقرأ للدكتور فصلا داخل أحد أهم كتب محمد بن صالح “أحوال عائشة”، عنوانه “عن..عن زمن الخسّة” يقدم نفسه فيه بصفة “أخصائي في أمراض المجتمع الخسيس” من واجبه أن يتدخل عندما تنهار مقاومة الانسان ليداوي عطشه للحبّ وتطلّعه للجمال والحرّية.

التقيت الدكتور مرات قليلة، مرة في حفل نظمه حزب المؤتمر من أجل الجمهورية تكريما لأحمد الكرفاعي رئيس تحرير جريدة الرأي الذي انتبه مبكرا إلى موهبة المرزوقي فهيأ لها مكانا تترعرع فيه على أعمدة تلك الصحيفة الشهيرة، ومرة أخرى  في الفيلا التي يملكها بضاحية القنطاوي لإجراء حوار إذاعي. وفي كل هذه اللقاءات كان المرزوقي المفكر يطلّ برأسه من شرفة عالية في مكان ملوث بضجيج السياسة وأدخنتها، وهو لم يخف حسرته في أعقاب ذلك اللقاء الإذاعي على عدم توفر فرصة للتحاور معه بصفته مفكرا، كما لم يُخف قرفَه من خسّة أحد الأجوار توقف ليحييه بحرارة مفتعلة قائلا: لقد كان يخاف من تحيتي عندما كان البوليس السياسي يحاصر هذا البيت!

وبكثير من سداد النظر والبصيرة الثاقبة قال لي محمد بن صالح ونحن في طريقنا لزيارة أحمد الكرفاعي في بيته: “ليس ثمة حزب بلا إيديولوجيا، الأحزاب التي تدعي ذلك هي أقرب إلى الجمعيات الثقافية منها إلى التنظيمات السياسية..!”،  وقد صدق قوله حقا عندما انفجر حزب الدكتور بمجرد اعتلائه سدّة الحكم، وانفض من حوله كثير من الذين أغوتهم أفكار المؤتمر الأساسية : النضالية والمبدئية في مقابل الايديولوجيا.  ولم يكن وهو المتفرغ للشعر والفلسفة مرتاحا لرؤية صديقه القديم يرفل في ثوب الرئاسة. فوصول المرزوقي إلى قصر قرطاج لم يكن بالأمر المستساغ كثيرا لدى معارفه وزملائه في الصحة العمومية والرابطة، وهكذا ضاع من بين الأصدقاء القدامى المفكرُ الحقوقي الذي يعرفون، ووجد  الرئيسُ في الشباب الذي يعرفه من خلال برنامج “الاتجاه المعاكس” في قناة الجزيرة (!) ما يغذي إحساسه بأنه الرئيس المناسب في المكان المناسب. ألم يستدلّ في حوار تلفزي على أن الشعب التونسي لا يعارض دعوته من منبر الأمم المتحدة إلى إطلاق سراح الرئيس محمد مرسي بقدوم عشرة شبان من حزب المؤتمر لاستقباله بباقة ورد أمام قصر الرئاسة؟!

هل يعلم السيد الرئيس أن حاله يشبه رسما كاريكاتوريا مضحكا وصفه هو في كتابه الطبيب والموت، في الرسم فارس يمتطى حصانا ويحاول اجتياز ممر جبلي خطير: هاوية على اليسار وأخرى على اليمين, والطريق ضيق يمنع من النكوص على الأعقاب. بعد مشقة يصل الفارس إلى آخر الطريق فيقرأ لافتة كُتب عليها: “سيقع تتبع كل من لم تتهشم ضلوعُه!”.

لقد خلف محمد المنصف المرزوقي دكتاتورا طالما أدخل الرعبَ في قلوب البسطاءِ موكبُه المهيب تحفُّ به جوقةُ المطبّلين وهو يزرع شجرته السنوية في أوائل نوفمبر.  وهو الطبيب والحقوقي الذي أوصلته الصدف الانتخابية إلى الرئاسة وألزم نفسه بأن يعالج التونسيين من فوبيا الرئيس. ففتح قصره منذ اليوم الأول لأفواج الزائرين من تلاميذ المدارس الابتدائية إلى الغلاة والمتطرفين، وصار بمقدور أي كان أن يحتفظ لنفسه بصورة تذكارية وهو جالس على كرسي بن علي (الحقيقي لا المخصص لحوار الحضارات!). ضمن رؤية المفكر الثائر هذه للرئاسة تذبذب أداء المرزوقي بين أمرين، رغبتِه في الثورة على صورة الرئيس التقليدية والتزامه بأداء ما تبقى من صلاحيات رئاسية وفق الأعراف التي تقتضيها واجبات الرئاسة. وهكذا نجد في النهاية صورة هجينة لرئيس يصرّ على ألا يرتدي ربطة العنق لكنه لا يتحرج كثيرا من غرس شجرة في أوائل شهر نوفمبر على إيقاع جوقة المطبلين (ذاتها!)، ولعله كان أفيد بكثير للتونسيين لو انعكست الآية فلبس الرئيس لباس الرؤساء وتخلى عن الاحتفالات الرديئة التي تمتد فيها الأيادي وتشرئب الأعناق والزغاريد.

لذلك ربما سُرقت شجرة الرئيس بعد مغادرته الموكب محفوفا بوزرائه والجوقة وجموع المستقبلين ولم تُسرق من قبل أشجار بن علي في أوائل نوفمبر، أليس المرزوقي مختلفا عن بن علي في كل شيء؟!