عامر بوعزة:
التجمهر في الفضاء العمومي رسالة تتعاضد في بناء قوتها التعبيرية عناصر متعددة تنضاف إلى محتواها اللفظي، هكذا كانت المظاهرات العظيمة الخالدة عبر التاريخ ومنها مظاهرة 8 أفريل 1938 التي طالب فيها المتظاهرون ببرلمان تونسي وخطب فيهم الزعيم علي البلهوان راجيا إقامة الدليل بالانضباط واجتناب العنف على جدارة الشعب بمطالبه تجسيدا لمبدأ التناسق بين شكل المظاهرة ومحتواها السياسي. وسواء أكانت الرسالة للاحتجاج أم للمساندة فإن قوتها تزداد رسوخا عندما يـدلّ السياق التاريخي على أنها نتيجة طبيعية لموقف جماعي تلقائي لم يخضع للضغط والمقايضة والابتزاز، فبالاحتشاد عشية 7 نوفمبر 1987 أمام مقر وزارة الداخلية في الشارع الرئيسي للعاصمة أعطى التونسيون زين العابدين بن علي موافقتهم على إزاحة بورقيبة عن عرشه و بنفس الطريقة طالبوه بالرحيل عشية 14 جانفي 2011.
في ضوء هذه الثوابت يُـــقرأ ما نظمته حركة النهضة في نفس الشارع عشية السبت 16 فيفري 2013 بوصفه حدثا سياسيا مُهِما يتنزل في سياق الوضع الذي تمر به البلاد منذ شهور والذي تفاقم حتى بلغ حدّ الأزمة الخانقة باغتيال الزعيم اليساري المعارض شكري بلعيد. هذه التظاهرة يمكن استقراء دلالاتها العميقة من ثلاثة زوايا، توقيتها وشكلها ومحتواها.
نظمت هذه التظاهرة بعد مضي عشرة أيام على حدوث أول جريمة سياسية من نوعها في تونس حيث لم يكن الشعب على عهد بجرائم الاغتيال وتصفية الخصوم كما يحدث في بلدان عربية أخرى، وقد صدمت هذه الجريمة الشارع التونسي بعنفها وغموضها فعبر عن هذه الصدمة في رسالة مباشرة وجهها يوم الجنازة فقد تجاوزت الحشود حجم اليسار التونسي بمختلف أطيافه لتشمل كل قوى سياسية ومدنية يوحد بينها رفض العنف.
سياسيا غيرت هذه الجريمة بعض المعادلات على أرض الواقع فقد بدا واضحا أنْ ليس للعنف السياسي الجديد حدودٌ يتوقف عندها بل إنه يترعرع بسرعة مخيفة في ظلّ تواصل الوضع غير المستقر بتمطيط الحالة المؤقتة والمماطلة في الإيفاء بمتطلبات الانتقال الديمقراطي، وهو ما جعل رئيس الحكومة يستجيب بشكل مفاجئ لتطلعات طيف واسع من المعارضة باقتراح حكومة مصغرة تُحيّد عن التجاذبات الحزبية، وفي سياق رفضها لهذه المبادرة اعتبرت النهضة هذا التصرف مقترحا شخصيا لا يحظى بمباركتها لأنه يمثل من وجهة نظرها انقلابا على الشرعية الانتخابية. وبعد أن فتح الجبالي في طريق التشاور منفذا جديدا للحوار مع المعارضة دون إقصاء للفئة المحسوبة على النظام القديم استقرّ عزم النهضة على إجهاض المقترح، ولم يبق إلا إضفاء الشرعية الجماهيرية على هذا الرفض من خلال مظاهرة “مليونية” تسخر لها شبكة الجزيرة ساعتين من البث المباشر على إحدى قنواتها!
انتظمت المظاهرة في شارع الحبيب بورقيبة وهو الشريان الرئيس للعاصمة والإطار الرمزي لكل التحولات التاريخية، ففيه نصب الاستعمار الفرنسي قبالة الكنيسة تمثال الكاردينال لافيجيري قبل أن يحل محله بعد عقود تمثال العلامة ابن خلدون، وفيه نظم الصليبيون في المؤتمر الأفخارستي مسيرتهم الاستعراضية الكبرى استفزازا لمشاعر المسلمين، وفيه وُضع لسنوات نصبُ بورقيبة التذكاري قبل أن ينقل إلى حلق الوادي فاسحا المجال لساعة عملاقة غير متفق على قيمتها الجمالية والرمزية. في نفس الشارع الذي طالب فيه التونسيون بن علي بالتنحي سيخطب الشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة من على منصة تجمّع فوقها ممثلون عن التيار الإسلامي الأكثر تشدّدا.
ولم تكن التظاهرة حدثا تلقائيا فحركة النهضة هي التي بادرت بتوجيه الدعوة إلى التظاهر تعبيرا عن مساندة الشرعية والوحدة الوطنية، فكانت الأمسية أقرب إلى المهرجان الخطابي الحزبي منها إلى المسيرة الشعبية العامة حيث استخدمت إلى جانب اللافتات مكبرات الصوت وتداول على المنصة عدد من الخطباء من أبرزهم نائبة رئيس المجلس التأسيسي ووزيرة شؤون المرأة التي تنتمي ظاهريا إلى حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، وبدا الانضباط الحزبي واضحا من خلال التنظيم الشكلي كما لم تسجل حالات فوضى وعنف مماثلة لما يحدث عادة في المسيرات التي يحتضنها هذا الشارع وتكررت الدعوات لملازمة الهدوء واجتناب العنف لإعطاء صورة مثالية عن “شباب حركة النهضة”.
من حيث المحتوى عكست تظاهرة السادس عشر من فيفري بعض وجوه التداخل العائد بقوة بين الحزب الحاكم والدولة حيث سعت الحركة إلى الإيحاء بأن المطالب المرفوعة تمثل كل التونسيين باستعارة شعار “الشعب يريد” من سياقه الأصلي وتوجيهه للدعاية الحزبية وكأن الحاضرين في الشارع يومها يمثلون الشعب، أما الرسالة الأهم والتي اختصرت بها وكالات الأنباء العالمية هذا الكرنفال السياسي فتتمثل في إعلان الشيخ راشد الغنوشي عدم استعداد حركته للتفريط في الحكم.
ولئن كان توظيف الشارع في التعبير السياسي أمرا بديهيا فإن استحواذ السلطة على الفضاء العمومي لمخاطبة الخصوم هو من تقاليد الأنظمة الشمولية، وبصرف النظر عن الجدل حول عدد المتظاهرين وطاقة استيعاب الشارع عموما فإن هذه التظاهرة توجه عبر توقيتها وشكلها التنظيمي ومحتواها رسالة مفادها أن حزب حركة النهضة يتحكم جيدا في أدوات التعبئة الجماهيرية وأنه قادر في أي لحظة على استغلال ورقة الشارع، وهي رسالة تعود راشد الغنوشي على توجيهها في مواقيت محددة على غرار تهديده بالنزول إلى الشارع قبيل التصريح بنتائج انتخابات المجلس التأسيسي في أكتوبر 2011 وهو ما اعتبر حينها تهديدا للسلم الاجتماعي بالتشكيك المسبق في الاقتراع إذا لم يكن لفائدة النهضة!
إن فكرة الدفاع عن الشرعية تقوم على فهم مغلوط لمبادرة الجبالي التي يظل فيها أمين عام حزب حركة النهضة رئيسا للحكومة مع تغيير براجماتي في تركيبتها وهي مبادرة تشترط تسارع نسق صياغة الدستور تحت قبة المجلس التأسيسي حتى تنتهي المرحلة المؤقتة في أقرب وقت كما يغفل هذا الشعار أن للشرعية الانتخابية أمدا قد تم تجاوزه وأن الإمعان في تمطيطها سيؤدي لامحالة إلى تمزقها. لكن المتمعن في التظاهرة ذاتها وما تبعها من أحداث يقف بوضوح على أن بعض أطياف الشارع التونسي تشبث بالدور القديم الموكول لها في سياق تأبيد الوضع القائم والتصدي للتغيير الإيجابي، هذه الجموع ستكون دون شك أكبر عائق في تحقيق الانتقال الديمقراطي الذي يقوم أساسا على فكرة التداول على الحكم.





