حمدت الله كثيرا عندما قرأت نص أدونيس “رماد البوعزيزي” ، لقد هبط هذا النص في وقت حرج أخذ فيه جمع غفير من الأوصياء على التاريخ والرّمز والمجاز يسحبون محمد من أسماله البالية ليخرجوه بالقوة من بيت الأسطورة الذي شيدته له ضمائر الناس في الوطن العربي، وقد كان سببا -مجرد سبب لا غير- في أن تتهاوى أصنام السياسة العربية الواحد تلو الآخر فتتكسّر تحت وطأة أمواج الغضب الشعبي.
جاء أدونيس في الوقت المناسب ومدّ يده ليدفع البوعزيزي دفعةً قوية إلى الداخل ويغلق باب البيت آخذا المفتاح معه، إنها نقطة ينبغي أن يعود الجميع بعدها إلى السطر ويبحثوا عن جثة أخرى يبدؤون معها سطرا آخر في لعبة الكـرّ والفرّ العجيبة هذه، فالاندفاع الأهوج في مقاومة صورة البوعزيزي وصدّها تحت مسميات العدالة والحق والفضيلة والديمقراطية تبدو للناظر عن بعد كالوقوف أمام قاطرة تشق عباب الفراغ. إن إحساس بعض الأشخاص بامتلاك الحقيقة لا يعدو أن يكون تورما واضحا في ذواتهم وخللا في تصورهم للوجود، فهم لا يتورعون مثلا إذ يفتحون ثلاجة الموتى ليقتلعوا ضرسا ذهبيا يرون أنهم أحق به من الديدان، أو يقصون إصبع جثة متفحمة ليفوزوا بخاتم يعرفون أنْ لا أحد سيتذكره في المأتم. هؤلاء هم الجزء المخفي من جبل الثلج، هذا الجزء ما كان ليظهر لو لم يذوّب حريقُ البوعزيزي الجزء الظاهر منه والذي كان ستارا كثيفا يمنع الناس من رؤية الأشياء كما ينبغي أن تُرى.
لقد كانت الثورة الشعبية زلزالا عنيفا أطاح بعرش الفساد وظلت ارتداداته المتتابعة تسحب الأرض من تحت الأنبياء الجدد والكهنة والسحرة وحملة المباخر والمشعوذين، وها إن رماد البوعزيزي يعيد إلى الحقيقة شيئا من نسبيتها بعد أن مرّغ أنفَها البعضُ في وحل المزايدات الانتهازية والدونكيشوتيات الخالية من كل معنى إيجابي، فلم يكن ضروريا الربط بين الدفاع عن سجينة لم يهتم أحد بالإصغاء إليها في غمرة الثورة وما تلاها وإخراج البوعزيزي من ذاكرة الرمز وتجلياته الممكنة والتراجع عن منحه شرف الحرف الأول في فقرة التغيير الدراماتيكي الذي حدث. (مواصلة القراءة…)