أثار موقف رئيس الجمهورية من الذكاء الصناعي في خطابه بمناسبة يوم العلم لغطا كبيرا على وسائل التواصل الاجتماعي، واتخذ هذا اللغط في كثير من التعليقات منحى التنمر والسخرية من غير أن يتحول إلى نقاش هادئ ورصين، لا سيما أنه يتناول مسألة من أخطر المسائل وأعقدها في هذه اللحظة التاريخية على نطاق عالمي. ومساهمة منا في وضع الجدل في سكته الحقيقية، سكة النقاش المعتدل والاختلاف الفكري البناء هذه جملة من النقاط التي تبرّر استنكار موقف الرئيس بصفته الاعتبارية تلك من الذكاء الصناعي واعتباره إياه خطرا على الإنسانية.

الرئيس قيس سعيد في يوم العلم

الرئيس قيس سعيد في يوم العلم

أول هذه الأسباب أن كل الاختراعات والاكتشافات الكبرى عبر التاريخ يرافقها في البداية لغط حول أهميتها وخطورتها على الانسانية قبل أن يقع لاحقا احتواؤها وتوظيفها، وأبرز مثال على ذلك ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية من جدل حول جدوى الأبحاث الفضائية، لا سيما بعد فشل مهمة أبولو 13 العام 1970، وقد تفرّغ عالم الفيزياء (كارل ساغان) في بداية السبعينات لتأليف مسلسل تلفزيوني نشر لاحقا في كتاب بعنوان (الكون) حقق أعلى المبيعات بهدف تبسيط المعارف العلمية وتقريبها من أذهان العامة حتى يدركوا الانعكاسات المحتملة لبرنامج غزو الفضاء على حياتهم ومستقبلهم. ورغم كل المجهودات التي بذلت في هذا المجال والنجاحات الكبرى التي حققتها الإنسانية في اكتشاف الكون ما يزال هناك من يشكك في هبوط أرمسترونغ على سطح القمر وكروية الأرض ودورانها حول الشمس، بما يعني أن الأحكام المسبقة والقناعات الإيديولوجية تمثل أحيانا سدا منيعا أمام التقدم العلمي، وينطبق هذا على موضوع الذكاء الصناعي، فمن الخطورة بمكان أن يقرر الفرد أن هذا الذكاء يهدد الإنسانية لا انطلاقا من معطيات موضوعية ثابتة (كما هو الشأن مثلا بخصوص السلاح النووي) إنما انطلاقا من تخوفاته هو وقصوره عن مجاراة ركب التقدم! وإن اتخاذ موقف قاطع من قضية الذكاء الصناعي وهي قضية لم تطف على سطح الأحداث إلا منذ فترة قصيرة تسرّع لا مبرر له لا سيما عندما يتعلق الأمر بقيادة سياسية.

هل يمثل الذّكاء الصناعي خطرا

هل يمثل الذّكاء الصناعي خطرا؟

ثانيا: إن التخويف من التكنولوجيا أيا كانت مجالاتها عادة ما تقف وراءها مجموعات ضغط لها مصلحة ما في موجة الخوف التي تثيرها. والاستثمار في (الفوبيا) ليس بالأمر الجديد في عالم التكنولوجيا، ففي عام 1999 وبمناسبة المرور إلى الألفية الجديدة عمت العالم موجة من الخوف غير مسبوقة. فانطلاقا من احتمال عدم انتقال الخوارزميات التي تشغل الحواسيب بشكل صحيح إلى القرن الجديد، رسمت سيناريوهات أعطاب مختلفة يقع أبسطها في ماكينات القهوة ومصاعد العمارات، وأعقدها في المفاعلات النووية. لقد صور إخفاق الكمبيوترات والشبكات في عبور الألفية بوصفه خطرا يهدد الإنسانية، وكانت تلك الموجة العارمة من الخوف والترقب مدخلا لضخ استثمارات ضخمة في المعدات والبرمجيات، واكتشف لاحقا وبعد الانتقال بلا أضرار تذكر أن تلك السيناريوهات الكارثية مبالغ فيها.
ثالثا: إن الجدل حول انعكاسات استخدام الذكاء الصناعي منحصر حاليا في بعض الدوائر السياسية، وليس غريبا أن يرد أول موقف في تونس من هذه القضية في خطاب رئيس الجمهورية وأن تكون كلمة الأمين العام للأمم المتحدة هي مرجعه الأساس! بينما يفترض في قضية تقنية كهذه أن يعتدّ بآراء العلماء، وأن يكون الجدل في مستوى الدوائر الأكاديمية ومؤسسات البحث. والتضاد بين حقلي السياسة والمعرفة يعود إلى بداية التسعينات من القرن الماضي عندما خرجت الانترنت من مخابر البحث إلى الاستخدام العمومي وطرح السؤال الحاسم (من الذي سيتحكم في هذه الشبكة العالمية؟)، واختار العلماء الاستقلالية التامة عن الحكومات التي ليس يمكنها إلا التحكم في البنية التحتية لطريق المعلومات السيارة باعتبارها من الموارد السيادية، أما حيازة المعلومات ومراقبتها فموضوع اختلاف بين الأنظمة من الشمولية التي تضع يدها على كل المنشورات إلى الليبرالية المطلقة التي لا تتدخل إلا لحماية الأمن القومي ومجابهة الإرهاب. ومما يفسر هذا التضاد بين الساسة والعلماء أمر بديهي فمن السهل أن تحكم شعوبا متخلفة أما الشعوب المتعلمة فمن الصعب السيطرة عليها! وهناك في هذا السياق رأي يفسر ثورة 2011 في تونس التي لعبت فيها وسائل التواصل الاجتماعي دورا أساسيا بأن نظام بن علي ذاته هو الذي مهد لها الطريق عبر سعيه إلى تعميم الانترنت وتمكين الناس من اقتناء الحواسيب الشعبية دون أن يقرأ حسابا لعاقبة كل ذلك على وجوده، حيث أسهم الارتباط واسع النطاق بالشبكة في تعميم حالة الرفض فضلا عن انتشار الإحباط لدى فئة الشباب على وجه الخصوص لتناقض واقعهم مع ما يرونه حولهم في العالم.
رابعا: إذا اقتصرنا على الدوائر العلمية فإن الآراء المتداولة حول الذكاء الصناعي مختلفة جدا، والاختلاف يبدأ من تعريف المصطلح، فهناك من يرى أن كل ما ينتمي إلى عالم الحوسبة هو شكل من أشكال الذكاء الصناعي وبناء على ذلك فهو منتشر اليوم في حياتنا اليومية دون أن يطرح أي تهديد! لكن للتدقيق يمكن القول بأن الجدل الدائر حاليا مرتبط بتطوير (اللغة الطبيعية) مع الإعلان عن نسخة متطورة من برنامج الذكاء الصناعي (ChatGPT) الذي يجعل الآلة تحاكي الانسان. ولم يتحقق هذا التطور إلا مع القدرة اللامتناهية للحواسيب الجديدة على معالجة البيانات الضخمة بسرعة فائقة، ويمكن لهذه الوظائف الجديدة مثلا استنباط الصور ومحاكاة الصوت البشري وتغيير الفيديوهات بما يمكن أن يكون أداة للتزييف والتظليل. وهذه مخاطر محدودة قد تطال فعليا الحقل الاجتماعي والتربوي وتضع على المحك أخلاقيات المجتمع الافتراضي، بما يدعو إلى استنباط طرق ووسائل تمكن من احتواء هذه التقنيات الجديدة بدل التصادم معها. فمزاياها في مختلف المجالات الحيوية تبرر وجودها واستمراراها والاستثمار في تطويرها على المدى المتوسط والبعيد وتجعل اعتبارها بشكل قاطع خطرا على الانسانية موقفا لا يخلو من سذاجة.
أخيرا: عندما يبادر رئيس الدولة بما له من صلاحيات تنفيذية واسعة بالحسم قطعيا في مجال خلافي كهذا فإنه يصطف علنا في جبهة الرفض والمقاومة ويضع نفسه بوضوح في مواجهة جيل كامل من أبناء شعبه يمثل له الذكاء الصناعي فرصة رائعة للاستثمار والابتكار والخروج من حالة اليأس والقتامة وانسداد الأفق بما يمكن أن يوفره من آفاق جديدة. فكل التكنولوجيات عند ظهورها تعيد السباق إلى نقطة الانطلاق، وتمنح الشعوب فرصة جديدة، لقد بات معروفا أن تونس كانت أول دولة عربية ترتبط بشبكة الانترنت مطلع تسعينات القرن الماضي لكنها اليوم وبعد مضي ثلاثين عاما على ذلك الحدث موجودة في ذيل قائمة الدول التي طورت حياتها بفضل الانترنت، حدث هذا الفشل رغم أن الرئيس بن علي كان طيلة عهدته مهووسا بالتقنيات الحديثة، ومولعا بشكل شخصي بكل ما يمت إلى التكنولوجيا بصلة وكانت وسائل الدعاية في نظامه حريصة على ترويج صورته جالسا في مكتبه أمام حاسوب ضخم، واليوم يعرف القاصي والداني أن الرئيس قيس سعيد مولع بالكتابة اليدوية وفنون الخط العربي مستخدما الحبر والدواة وان تحمسه للتكنولوجيا لم يتجاوز دفاعه عن منصة الاستفتاء بل حتى في هذه ما يزال حديثه عن محاولات الاختراق التي تعرضت لها المنظومة أو محاولات التشويش عبر الأقمار الصناعية (هكذا) محل تندر أيضا لبعدها عن الواقع واستحالتها! وفي ظل واقع كئيب متجهم كهذا وموقف معاد بصراحة للذكاء الصناعي وهو عماد المرحلة المقبلة من مستقبل الإنسانية في كل المجالات ماذا يمكن لمهندس تونسي شاب حديث التخرج أن ينتظر من حكومة بلاده؟ إن حالة العزلة التي تعيشها طبقة كاملة من الشباب التونسي بسبب تخلف قوانين البلاد وعدم قدرتها على مجاراة العصر وبسبب ضعف شبكة الاتصالات وتمسك الإدارة بإجراءات بيروقراطية بالية تجعله يتطلع إلى ثورة حقيقية تقتلع الجذور الميتة التي تسد مجرى النهر وتعوق تدفقه، لكن أعلى هرم السلطة لا يعطي أي بصيص أمل في هذا الاتجاه ولن يكون بمستطاعه لومهم عندما يهاجرون وبكل الطرق.