في شارع خلفي من شوارع تونس العاصمة التقيت عبد الرحمن مجيد الربيعي بلا موعد ذات صباح شتوي غائم وحزين من صباحات العام 2012. واسترقنا معا ساعة من الزمن في مقهى صغير يضع كراسيه على الرصيف، وتحيط به من كل الأنحاء دكاكين بيع الأشرطة والملابس المستعملة والعطور الرخيصة. كنت على وشك الانتهاء من إجراءات الهجرة ولم يبق على السفر إلا القليل، أما عبد الرحمن فلم ينقطع عن عادة التجول اليومية في المدينة بقامته الفارعة وخطوته الرياضية الرشيقة وأناقته المشهودة رغم الفوضى التي اكتسحت الشوارع في تلك الأيام وغيرت ملامحها..

عبد الرحمن مجيد الربيعي وتوفيق بكار (قابس 1992)

عبد الرحمن مجيد الربيعي وتوفيق بكار (قابس 1992)

لم تكن تلك أول مرة نلتقي فيها ولن تكون الأخيرة، فصداقتنا تجاوزت ساعتئذ العشرين عاما. لكنها كانت المرة الوحيدة التي شعرت فيها أن الربيعي في أمسّ الحاجة إلى أن يتحدّث بقلب مفتوح، وأنه رغم كل الصداقات التي كوّنها في حياته على امتداد خارطة الوطن العربي كان يومها في حاجة إلى صديق واحد فقط، صديق يتقاسم معه الشارع والزحام والفوضى. في أيام الانفلات والغليان تلك صار عبد الرحمن الذي لطالما كان مفردا في صيغة الجمع يمشي وحيدا في شوارع لم يعد يعرفه فيها أحد، ولم تعد عيناه بقادرتين على إخفاء الحزن العميق الذي يتصاعد من أعماق روحه.

نشأت علاقتي بالربيعي العام 1990 في اليوم الوطني للثقافة، حيث دعته إذاعة المنستير مع الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور للمساهمة في أمسية شعرية، وكلفتني بمرافقتهما من العاصمة إلى المنستير. وكان من الصعب علي منذ أن التقيتهما حتى وصولنا أمام باب الإذاعة أن أتخطى عتبات الدهشة والانبهار. وهو شعور طبيعي لشابّ في مطلع التجربة ومقتبل العمر يجد نفسه في سيارة بيجو 304 مع نجمين من نجوم الساحة الثقافية والأدبية في الوطن العربي.

كانت تونس في نهاية ثمانينات القرن الماضي وبداية تسعيناته مركزا عربيا على الصعيدين السياسي والثقافي لوجود الجامعة العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية فيها، كما يعود الفضل في ذلك إلى الاهتمام الرسمي بالثقافة والتعريب والنشر في ظل حكومة محمد مزالي (1980-1986) والانفراج السياسي النسبي الذي شهدته سنوات حكم الرئيس زين العابدين بن علي الأولى ولم يدم طويلا. وفي هذا الخضم، حطّ عبد الرحمن مجيد الربيعي الرحال في تونس للإقامة بها، وأصبح صديقا لإذاعة المنستير وعضوا نشيطا في ملتقاها الأدبي السنوي، ملتقى أدب التسعينات، بل يعود إليه الفضل في ما تحقق لهذا المهرجان الثقافي من إشعاع عربي بلغ ذروته في الدورة الخامسة العام 1995.

ملتقى أدب التسعينات

ملتقى أدب التسعينات

وعندما نتكلّم عن الصداقة في هذا السياق فإننا بلا شكّ نتحدّث عن حالة إنسانية فريدة من نوعها، فقد كان الربيعي يمتاز بقدرته العجيبة على نسج الصداقات وتمتين أواصرها ولذلك سرعان ما تخطت علاقته بنا في الإذاعة الحدود المألوفة. كما كان يوصَفُ بالرجل (المؤسّسة)، لسخائه في التعريف بالأعمال الأدبية الجديدة التي تصله من هنا وهناك، كان يكتب في منابر مختلفة، وفي مواضيع شتى، ولا يتردد في حضور الندوات التي يدعى إليها، ويشارك باستمرار في وسائل الإعلام. وأنا مدين له بشكل شخصي في الكثير من التغطيات الصحفية التي تحقّقَ فيها السّبقُ. لأنني كنت في كل مرة أحتاج فيها إلى التواصل مع ضيف من عاصمة عربية أسترشده فيرشدني.

وعلى الرغم من أن الأحداث التي عشتها مع عبد الرحمن الربيعي طيلة عشرين عاما غزيرة، ظلت تلك الجلسة الصباحية الغائمة في أحد المقاهي المنزوية عالقة بالبال، فقد كان كل واحد منا في تلك الأيام بصدد إنهاء فصل من فصول حياته، نلملم شتات الأصداء في وداع بعيد المدى. فلم نلتق إثر ذلك إلا مرة واحدة بعد خمس سنوات بالنادي الثقافي الطاهر الحداد وفي أزقة المدينة العتيقة كان لقاؤنا الخير، فبعد أن نال منه المرض واشتدّت عليه الوحدة ولم يعد كما كان، عاد إلى العراق.

وفي هذه السنوات التي انتصرت فيها الفوضى والتفاهة على الكثير من المبادئ والقيم الجميلة وتوسّعت فيها رقعة الانهيار، أتمثل دائما بما قاله لي عبد الرحمن تعليقا على سقوط بغداد: (سيعود العراق يوما كما كان، لكن ليس في المدى المنظور) فالحياة التي صرنا نرى أن ماضينا فيها أجمل من حاضرنا، وأن ذكريات الأمس أنبل فيها من ذكريات الغد وأحلى، ستعود يوما، لكن لن نشهد ذلك اليوم. وهذه مرارة أخرى تضاف إلى المرارات التي يخلفها دائما تواطؤ الأصدقاء على الرحيل.