مباشرة بعد عودته من السعودية أين شارك في القمة العربية الصينية، اتجه الرئيس قيس سعيّد في وقت متأخر من الليل إلى ضاحية «المنيهلة» (التي كان يقيم بها قبل انتخابه رئيسا للبلاد). والتقى مجموعة من المواطنين، ردّد أمامهم من جديد أن الأزمة الاقتصادية التي تتخبّط فيها تونس هي نتاج العقود الماضية خصوصا «العشرية السوداء» (!) وأن المرحلة الراهنة في حاجة إلى مقاربات جديدة هو منكبّ على ابتكارها… إلى آخر الأسطوانة. ولم يشقّ رتابة هذا المشهد إلا صوت أحد المواطنين وهو ينادي: الحليب يا سيادة الرئيس!

الرئيس قيس سعيّد

الرئيس قيس سعيّد

قد يكون الأمر مخيبا لآمال البعض. فالمتحلقون حول الرئيس ساعتئذ وهم أنصاره وأقرب الناس إليه (بحكم الجوار)، نزلوا بالمطالب الاجتماعية درجة أخرى إلى الأسفل. لقد كان التونسيون ساعة (الانفجار الثوري غير المسبوق) يحلمون بالحرية والكرامة والعدالة، ويطالبون بحقهم في الرفاه ونصيبهم من الأفق! وبعد أن تهاطلت عليهم الوعود من كل حدب وصوب، وأغرقهم السياسيون الذين امتطوا حصان السلطة على اختلاف مشاربهم في بحار من الأوهام وأضغاث الأحلام، ها هو ربّ عائلة من قاع المدينة يقف الآن وشبحُ الفقر جاثم على كتفيه في مواجهة (أعلى هرم السلطة) ليقول له: الحليب يا سيادة الرئيس!

لم يطالب هؤلاء الرجل الذي يستحوذ (مؤقتا) على جميع السلطات بالقطار السريع الذي سيربط بنزرت ببن قردان، أو بالمدينة الصحية التي ستقام بالقيروان. لم يطالب هؤلاء ابن حيّهم الذي أوصلوه إلى قصر قرطاج بمقاربات سياسية جديدة تقيم المدينة الفاضلة. فأحلامهم بسيطة ومشروعة وتحقيقها ممكن بمجرد الذهاب إلى البقالة. لكنها الأزمة (ومن سواها؟) تضغط بأصابعها على أعناقهم، وتتلذّذ بموتهم البطيء تحت سياط العوز والفاقة والجوع بسادية مرعبة دون أن يتمكن أحد من الوقوف في وجهها. أبناء «المنيهلة» نسخة مصغّرة من شعب يئن تحت وطأة الحاجة ويختصر يأسه في عبارة واحدة: الحليب يا سيادة الرئيس!

ينبغي ألا نسخر من هذا المشهد على مرارته، فالحليب هو الأمن الغذائي، وهو أكثر أهمية من بناء طريق سيارة أو إعادة اختراع عجلة سياسية جديدة. لأنه يرتبط بالسلم الاجتماعي والسيادة الوطنية ويحفظ كرامة المواطنين في وطنهم. هل كان الرئيس يعي وهو يسرد ذكرياته في المدرسة عند زيارته مصنع الألبان لماذا حرصت دولة بورقيبة على تقديم الغذاء مجانا للتلاميذ في المدارس؟ هل كان يدرك أن الأمر يتجاوز مجرد (إطعام أفواه الجياع) ليكون استراتيجية عميقة لنشر التعليم في مجتمع كان يرفع شعار (يوكل والا ما يقراش)!

ينبغي ألا تجعلنا صرخة ذلك المواطن أمام الرئيس نشعر بالخجل من أنفسنا، فكل الشعوب في حاجة إلى الحليب، وأن نطالب بالحليب ونحن نقترب من نهاية الثلث الأول في القرن الحادي والعشرين فذلك معناه أن أولوياتنا ينبغي أن يُعاد ترتيبها من جديد، وأننا في حاجة إلى ثورة أخرى لكن تعصف هذه المرة بالخطط والمفاهيم الاقتصادية البالية من أجل اقتصاد وطني لا يساوم في مسألة الاكتفاء الذاتي. هكذا تترجم حركات الشعوب قبل شعاراتها عندما يتقن الحاكم فن الإصغاء إلى الشعب. فما كان لشعب من الشعوب أن يصرخ في وجه حاكمه: الحليب يا سيادة الرئيس! لولا أن الرئيس منشغل عنه بإعادة كتابة التاريخ وتوجيه دفة الإنسانية نحو مسار جديد!

ولله في خلقه شؤون!