انتخابات 23 أكتوبر 2011

انتخابات 23 أكتوبر 2011

“إقبال التونسيين على صناديق الاقتراع فاق كل التوقعات”، تلك هي العبارة التي تردّدت بكثافة على ألسنة جميع المتدخلين يوم 23 أكتوبر 2011 إجابة عن كثير من التساؤلات.

هذه العبارة لا يمكن تجاوزها بسرعة لأنها في نظرنا تمثل بيت الداء وأصل الدواء..

فلماذا أقبل التونسيون بكثافة على الانتخابات بينما توقعت استطلاعات الرأي التي تداولتها الصحف عزوفا؟ ولماذا تعجز النخب عن مرة أخرى عن فهم الشعب وتحليل ردود أفعاله بشكل صحيح حتى تتوقع جيدا ولا تقف مبهوتة أمام واقع يتضح من جديد أنها لا تعرفه كما يجبُ؟

تقتضي الإجابة عن السؤال الأول الاعتراف بأن وسائل الإعلام أخفقت في تقديم الهوية الصحيحة للشعب التونسي ورصد تفاعلاته الحقيقية مع المستجدات، فالتلويح بإمكانية حدوث عزوف عن الانتخاب جاء عن طريق متابعات صحفية وتحقيقات ركّزت على سخط فئات اجتماعية مختلفة من وفرة العرض الانتخابي وتداخل البرامج السياسية وتشابه الوعود، وهو ما فنّده الواقع بشدّة إذ أقبل المقترعون بكثافة وانحصر السباق بين أربع أو خمس قائمات حزبية ومستقلة رغم أن القائمات المترشّحة في مختلف الدوائر عددها كبير جدا ويفوق طاقة استيعاب المتابع اليقظ فما بالك بالمواطن العادي! ، ولا يمكن في هذا السياق تقييم آليات العمل الصحفي الذي قد يكون أخفق في رصد الرأي العام وتقديمه جيدا دون النظر في جملة الموانع الأخلاقية والقانونية المتعلقة بضوابط الحملة الانتخابية، فرغم ما يبدو ظاهريا من أمارات التحرّر تحيط بالدور الإعلامي خطوط حمراء كثيرة، وقلّص الحياد هامش الحرية إذ لم يكن متاحا في رصد اتجاهات الرأي العام التيقظ للميول الانتخابية وإعلانها وإنما التوقف فقط عند الهواجس المشتركة وأهمها التحفيز على الإقبال الكثيف إنجاحا للعرس الديمقراطي.

ثمّ إن السمات المكونة لشخصية التونسي القاعدية والتي هي مجال خصب للبحث النفسي والاجتماعي صارت المتغيرات الحاسمة في قراءة ردود فعل الشعب التونسي وتقييم مواقفه وغالبا ما تكرس الهوة بينه وبين النخب، فقد يفاجأ من يعتقد أن التونسي يكره الطوابير بنظام لا مثيل له، ويفاجأ من يبكّر بالذهاب إلى مكاتب الانتخاب اعتقادا منه أن التونسي لا يتحرّك إلا في الربع ساعة الأخير (كما يحدث عادة عند دفع الفواتير) بالطوابير ممتدةً منذ ساعات الصباح الأولى، وهكذا دواليك…

إن الإجابة عن السؤال الثاني تستوجب إذن إقرار النخب بأنها في حاجة إلى معرفة أدق بخصوصيات التونسيّ والخروج من هذه التجربة بقراءة عميقة تلقي الضوء على ما يبدو غامضا في التفاعلات القاعدية، لقد دبّ اليأس في النفوس مما كان التونسيون يبدونه من استخفاف بالمسألة السياسية وانغماس في الحياة الرتيبة الباردة إلى أن تفجّرت الثورة فصارت تونس نموذجا ثوريا، وهو ما يترجم عمق الهوة بين النخبة والناس إذ لم يكن هذا محتاجا إلى ذاك، أما الآن وقد تغيّرت المعادلة ولم تكن أسابيع الحملة الانتخابية بكافية لردم هذه الهوة فإن العمل المستقبلي للنخب السياسية يتمثل حتما في إعادة اكتشاف الواقع لفهمه والعمل على تغييره، لقد تحلت إحدى المترشحات بالشجاعة العالية تعقيبا على هزيمتها في الانتخابات بالقول: إنها اكتشفت أن الفقر في تونس يفوق كل تصوراتها السابقة، ولم يكن متاحا لها التوصل إلى هذه الحقيقة من خارج الحملة الانتخابية لأنها كانت تمارس العمل السياسي وفق أنموذج نخبوي معزول عن السياق الاجتماعي.

لقد كانت ثورة 14 جانفي 2011 امتحانا حقيقيا لمدى فهم النخب للواقع التونسي ولشخصية المواطن الذي سيتحول تدريجيا إلى ناخب حرّ والآن يستوجب إقناعه بهذه القائمة أو تلك واستمالته لهذا الحزب أو ذاك فهمَه والتواصل معه وإدراك مختلف مكونات الواقع الذي ينمو فيه الآن وعيه الانتخابي، وهو ما يجعل من العمل السياسي الناجح تشريحا عميقا للتركيبة الذهنية من أجل تغييرها…

ولقد شرّح  بعض الناجحين المفاجئين التركيبة الذهنية لا لتغييرها وإنما لمسايرتها وهذا خيار سياسي آخر، فليس ضروريا محاولة تغيير العالم إذا كان الإبقاء عليه كما هو ورقة انتخابية رابحة  !