الدكتور عياض بن عاشور

الدكتور عياض بن عاشور

استطاع الدكتور عياض بن عاشور خلال جلسات مضيقة وسرية جمعته بالأحزاب الممثلة في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة تحقيق تقدم ملموس في وقت وجيز لفائدة عملية الانتقال الديمقراطي تتعلق بمجمل الترتيبات الخاصة بمرحلة ما بعد انتخاب المجلس الوطني التأسيسي و تجيب عن تساؤلات الشارع التونسي حول تنظيم السلط العمومية وتنزع مخاوفه  في هذا الشأن بوصفها ثمرة وفاق سياسي بين مختلف العائلات المتحكمة في المشهد.

قبل الاطلاع على فحوى هذا الخبر وتفاصيله الدقيقة حريّ بالمتابع أن يستخلص منه بعض الأمور، أولها إن الأوركسترا السياسية التي أدارها الدكتور عياض بن عاشور – رجل القانون قبل أن يكون رجل السياسة- أنجزت خلال هذه المرحلة الانتقالية الصعبة المهم والأهم لفائدة الانتقال الديمقراطي والإصلاح السياسي وهما هدفان من أهداف ثورة لم تكن في لحظاتها الأولى تحمل أجندا محددة بقدر ما كانت تمردا على واقع سياسي منعدم الأفق. يشمل المهمّ كل ما تمخضت عنه جلسات الهيئة من قرارات وما انبثق عنها من هيئات و يمثل توافق “الفرقاء” على تصوّر أساسيات إدارة البلاد خلال المرحلة القادمة -إذا ما ثبت- الإنجاز الأهمّ.

إن التوصل إلى صياغة توافقية حول كيفية الحكم وطريقة تصرف المجلس الذي سينبثق عن أول انتخابات حرة وتعددية في صلاحياته وسلطاته الأصلية العليا والمطلقة لهو دليل إضافي على شدة وعي النخبة السياسية بخصوصيات الحالة التونسية والتزامها بإنجاح الثورة الشعبية بعد أن صارت محلّ تجاذبات وصراعات ألقت بظلال الشكّ على كل شيء في ظرف دقيق كهذا..، فهذا التوافق يأتي في وقت احتدم فيه الجدل حول فكرة الاستفتاء على صلاحيات المجلس ومدّة عمله بتعلة التحوّط من استحواذ هذه الهيئة الشرعية على السلطة  !!ولم يكن يخفى حجم الإرباك الذي أدخله هذا المقترح على الحياة العامة مع اقتراب الموعد الحاسم الذي سينهي الحالة المؤقتة القائمة على شرعية التوافق لتدخل البلاد إثر ذلك مرحلة تأسيسية لا تشبه في شيء أي مرحلة سابقة من مراحل تاريخها الطويل. لم يكن خافيا كذلك أن الدعوة إلى مصادرة سلطات المجلس بآلية ديمقراطية هي الاستفتاء الشعبي استندت أساسا إلى توقعات وسيناريوهات تدخل الاضطراب وتضاعف الهواجس في نفوس الناخبين…

يحتج أبرز الدعاة إلى الاستفتاء بما وقف عليه من اختلافات بين الساسة صلب الهيئة انجرّ عنها تمطيط مبالغ فيه في البتّ في بعض المسائل والحسم فيها، وبلغت هذه التباينات أوجها مع الانسحابات المتكررة التي حصلت، وهو يبني بذلك حجته على مصادرة خاطئة تشبه المجلس التأسيسي بالهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة وتخلق لدى المتابعين صورة ذهنية مزيفة لهذا الهيكل الذي سيحكم البلاد خلال مرحلة إنشاء الدستور الجديد، فالهيئة المذكورة وقع تعيين أعضائها من قبل السلطة المؤقتة وليس ثمة ما يجسّد فعلا تمثيليتها الشعبية وقد كان ذلك نقطة ضعفها الكبرى بينما سيكون المجلس منتخبا من الشعب انتخابا حرا تعدديا مباشرا غير خاضع للتزييف بحكم توفر ضمانات لوجيستية عديدة، ثمّ إن الدعوة إلى الاستفتاء على صلاحيات المجلس بنيت أساسا على التخويف من إمكان الاستحواذ على السلطة بينما يكمن الخطر الحقيقي في تواصل حالة اللاشرعية والانفلات السياسي.

إن توصل الدكتور عياض بن عاشور إلى تحقيق توافق حول ترتيبات المرحلة القادمة قد يساهم في محو الصورة السلبية التي استقرت في أذهان الناس عن هيئة تحقيق أهداف الثورة قبل انحلالها التلقائي ويبدّد مخاوفهم من النخبة قبل اعتلائها سدّة الحكم، فاختزال الهيئة في قلبها السياسي المؤثر ونعني به الأحزاب الكبرى دون سواها من المكونات أفضى إلى تحقيق توافق ثمين من شأنه أن يعيد الثقة إلى النفوس وينزع الريبة منها، وإن التوصل إلى نجاح سياسي بعيدا عن الإعلام يؤكّد مرة أخرى أن نشاط الأحزاب داخل الهيئة أي تحت رقابة الصحافة والمستقلين وممثلي المجتمع المدني كان يتحرك في فضاء لا يسمح بالمناورة بل كانت كثير من المواقف العنترية أحيانا جزءا من الإشهار السياسي المُقـنَّع.

ولئن كان التوصل إلى نتائج عملية ملموسة في وقت وجيز بعيدا عن ضغط الإعلام يبرّر جدوى الأبواب المغلقة أحيانا فإنه قد يساهم كذلك في إعادة قراءة الواقع السياسي الجديد على أساس الفاعلية والجدوى، فالتشكيك في الهيئة المؤقتة والتخويف من سلطات المجلس المطلقة والتمادي في تخيل عودة الدكتاتورية والتشكيك في المناضلين بتقديمهم في صورة المتكالب على السلطة الساعي إلى الحكم بكل الأثمان تشويش تقف وراءه أطراف عديدة تبني مواقفها على نصف الكأس الفارغة ولا تريد أن ترى في كل الأحوال نصفها الملآن. وواضح من خلال ما عاشته الساحة من تجاذبات خلال الأيام الأخيرة أن الخطر الحقيقي الذي يتهدّد الانتقال الديمقراطي قد يكون صادرا عن الأطراف التي لا ترى لنفسها موقعا واضحا داخل المشهد السياسي لاحقا لا من الأطراف التي تبدو مواقعُها واضحة للعيان، فالأحزاب وإن تجاوز عددها المائة بالكاد يتجاوز عدد المؤثر منها عدد  أصابع اليدين، أما حكومة الظلّ التي يتحدث عنها الناس كثيرا في السرّ والعلن -إذا كانت موجودة حقا- فإن نجاح الانتخابات وتسلم المجلس التأسيسي السلطة يعني نهايتها الحتمية وانقطاع صلة رموزها الكبار بالحكم بعد أن ظلوا فاعلين من وراء الستار عقودا طويلة، ذلك أهم ما يمكن استخلاصه مما التوافق الجديد الذي صاغته الأحزاب السياسية الممثلة في الهيئة برعاية الدكتور عياض بن عاشور أيا كانت البنود المتوافق عليها.