رغم أنني لست محللا سياسيا فان ما حدث هو نتيجة غطرسة السياسة الأمريكية“.

خالد الكريشي

خالد الكريشي

هذه الكلمات هي للكاتب العربي محمد شكري الذي ملأ الدنيا وشغل الكتاب والنقاد ورجال الرقابة وقد مرت سنة كاملة على مفارقة الحياة قالها أثناء لقاء جمعه بالكاتب محمود معروف والصحافي عبد الصمد بن شريف بفندق ” ريتز” بطنجة مساء 11 سبتمبر 2001 مع انهيار برجي التجارة العالمي وضرب مقر البنتاغون تكاد تكون هذه المرة الوحيدة التي أدلى فيها محمد شكري بدلوه في حدث سياسي معين وبمثل هذه الصراحة هل دفعه إلى ذلك عظمة الحدث أم أن المتحدث هو محمد شكري الإنسان وليس محمد شكري / الرواية قد يكون من الصعب التفرقة بينهما لان جل أعمال محمد شكري الروائية تدور حول محمد شكري الإنسان تذكره فتذكر سيرته الذاتية المروية في ثلاثة أجزاء : الخبز الحافي ( الدار البيضاء 1983) الشطار ( الدار البيضاء 1992) ثم وجوه ( بيروت 2000) تلك السيرة الذاتية التي صنع منها ملحمة منقوشة على صفحات الأدب العربي خصوصا والعالمي عموما وصنعت منه كاتبا عالميا بعد أن كان لا يطمح بغير لقب كاتب مغربي ببناءه صرح الكتابة لم يكن يعلم انه يضع اللبنة الاولى لتيار جديد في الأدب لم يعلم ولم يدع انه يؤسس للواقعية القذزة في الأدب العربي (1) رجل استثنائي في زمن الأحداث العادية الباهتة انطلق من عالم القاع إلى عالم القمة وغادر الهامش على المتن متكئا على إرادة قوية وعزيمة صلبة محدثا رجة في المشهد الأدبي العربي بالوثه المحرم والمقدس : الدين , الجنس والسياسة لم يكتب كتابات جنسية من اجل الإغراء الجنس لديه شهوة الموت المنبثة في أعماق الدم احتجاجا على الفساد الخارجي على حد تعبير حيدر حيدر في روايته” وليمة لأعشاب البحر ( نشيد الموت) انه جنس احتجاجي مقزز وبائس ومن تطويع جسده والجسد الأنثوي إلى تطويع اللغة رفض اسر المراة فاسترته اللغة الم تكن اللغة انثى الى ان وصل للذة النص التي بحث عنها رولان بارت طويلا وهو الذي يتهم الفلسفات والاتجاهات السياسية باهمال اللذة/ المتعة واعتبارها من سقط المتاع ” فالحقيقة الجسدية ضرورية للذة النص “.

كانت الكتابة لديه جسد مغر اخاذ يتقد القا يجد فيه كل عشاقه وعلى تعدد ثقافاتهم واختلاف مستواياتهم الثقافية ما يرغبون وكان يتصور نفسه احيانا حرفا كبيرا او قلما فلم يكن قلمه غير حجرة كبيرة القى بها في مستنقع مياهنا الراكدة خلخلت المفاهيم السائدة فبان المستور وكشفت واقعنا بدون روتوش وبدون تزويق وتنميق مسكون بهاجس نقل الواقع كما هو بلغة صريحة جدا وجمل مجردة من الزخرفة فبزغت روح التمرد لديه وتاججت حتى تلمس عالم السرد غادر الامية الخطية وأشرارها وفك طلاسم اللغة واسرارها في نهاية عقده الثاني وهو الصعلوك الجائع يقاسم القطط مزابلها والفقير المعدم رفيق البغايا والوطيين والسكار والمهمشين هو الليلي استاذ الكثير من العامة والغوغاء انه مزيود هيرقليطس – معلم  الكثيرين الذي لم يكن يعرف الليل والنهار ذلك انهما شيئ واحد او هو خفاش الوهابي – سنته النهار وفتواه الليل متى لامس محمد شكري الضوء في اخر النفق المظلم.

 

الكاتب المغربي محمد شكري

الكاتب المغربي محمد شكري

في الضفة الشرقية من الوطن العربي لم تمر سنتين على بزوغ تباشير الثورة الناصرية بمصر حتى دب الخلاف بين اعضاء مجلس قيادة الثورة 1954 وبالتحديد بين اللواء محمد نجيب ومن لف لفه من بقايا النظام الفاروقي البائد وكل الرجعيين والانتهازيين والاقطاعيين من جهة وبين جمال عبد الناصر وخلفه عامة الشعب المحرومين والمعدومين وكل المسحوقين وقبل ان يحسم الامر لفائدة الشعب كان على الضفة الاخرى من الوطن العربي محمد شكرلاي يدخن الكيف مساءا باحدى مقاهي طنجة صحبة عبد الملك وكريدا والمساري والعجوز عفيونة تشعب الحديث بينهم وانقسموا بين مؤيد لمحمد نجيب ومناصر لجمال عبد الناصر كان محمد شكري راغبا في مشاركتهم النقاش ورفضوا ذلك ونهروه ولانه أمي ” رواية الخبز الحافي دار الساقي ص 216) من هنا تاججت روح التحدي داخله ىفاشتعلت جذوة الابداع داخله وقرر ان يكون متعلما ثم بعد ذلك كاتبا عالميا منحازا للمهمشين وكاشفا عن معاناتهم وفي مقابل ذلك كان هذه الحادثة حفرت في نفسه جرحا غائرا وشكلت بداية الركيزة الرئيسية في موقفه المحايد/ السلبي من السياسة بمفهومها العام كتفعيل للاخلاق في الواقع عبر تتبع جل أعماله اللاحقة فكان محمد شكري الواوي والقاص يقف دائما في رواياته ازاء الاحداث السياسية موقفا محايدا سلبيا وباهتا وفي بعض الاعمال الاخرى يغيب الحدث السياسي ويعدمه تماما ( مجنون الورد , بيروت 1979) ( الخيمة الدار البيضاء 1985) ( السوق الداخلي , الدار البيضاء 1985).

وفي الاغلب حافظ محمد شكري على موقفه المحايد وموقفه السلبي هذا خطا مستقيما حتى روايته الاخيرة الصادرة سنة 2000 يظهر هذا جليا بداية في كتابته ( بول بولز وعزلة طنجة منشورات الجمل ص 42) من عادة المرابط ان يعلق بحماس مبالغ فيه على اي حدث سياسي سمعه من الاذاعة والتلفزة محليا او دوليا او من احد المقاهي .

ومن عادتي اني لم اكن اناقش معه اي موضوع بعمق ..ثم وهو يسال كل من جاك كرواك وبول بولز ع رايهما في حرب الخليج الثانية بدون ان يبدي هو رايه شخصيا انه المتقبل السلبي وليس الباث الايجابي يرد الاول بسخرية وهو يلاعب قطة ” ان ملاعبة هذه القطيطة الان افضل في رايي من كل الكلام عن هذه الحرب القذرة اما الثاني فلا يتوانى عن ادانتها ( بول بولز وعزلة طنجة ص 92) وفي منزل حنان الشيخ يحتشد النقاش بين اميل حبيبي والياس الخوري حول الصراع العربي الصهيوني واحداث ايلول الاسود غير مكترثين بوجود محمد شكري بينهما, فلم تكن لي مؤهلتهما لاشتراكهما في وضوعهما الشائك..( رواية وجوه دار الساقي بيروت 2000 ص 136) يقول محمد شكري ذلك صراحة معترفا ان احجامه عن مشاركتهما النقاش السياسي يعود الى صعوبة الموضوع وضعف مؤهلاته في هذا الميدان فهو يتاقف في كتاباته في المواضيع السياسية.

يبدي تجاهها تبرما محتجا على التسيس تسيس كل شيئ في الحياة ىيقول ” وقد أصبحت الانتماءات السياسية هي التي تقدر ان كان هذا الكاتب او الشاعر جيدا او سيئا خاصة في العالم الثالث فما دار خير الناس مسيسا فلا بد ان يكون ايضا ادبهم وفنهم مسيسين ( غواية الشحرور الابيض منشورات الجمل 1998 ص 46) ولائما الكتاب والشعراء العرب الرافعين ويعتقدون ان مجرد تجنيدهم للدفاع عن استمرار هذه الثورة العربية فكثير من الكتاب والشعراء يعتقدون ان مجرد تجنيدهم للدفاع عن الاستمرار هذه الثورة العربية سيمنحهم خلود الابطال والشهداء نحن لا ننكر نداءات بعضهم التي تدين الخونة وتمجد بطولة المحررين ” ثم يضيف بأكثر صراحة نادرة ” ان بعضهم يخاف من ان يتهم اذا نجحت الثورة لذلك يساهم معظم الموهوبين بنصيبهم في هذه التعبئة الأدبية السياسية ان انخراطهم يشبه التصويت في الانتخابات انهم يراهنون وهم ايضا مدعوون الى هذا الواجب …” ( رغواية الشحرور الابيض ص 74-73) طالبا منهم توجيه سهامهم الى انظمة حكمهم اس البلاء يبدو هنا موجها اتهامه ضد الادباء والشعراء المسيسين/ الانتهازيين وبالتحديد ضد رافعي شعار الواقعية لسياسية وليس ضد السياسة بمفهومها العام عبر هذه الكلمات يضع محمد شكري اصبعه على موطن الداء في ثقافتنا العربية عموما وثقافتنا السياسية خصوصا فالانسان العربي لا ينقصه التسييس ولكن ينقصه حسب محمد جابر الانصاري المراس السياسي الملائم والخبرة السياسية العملية فكل شيئ مسيس في وطننا العربي الا السياسة من حيث هي فن وعلم وأصول واداء وكائن طبيعي معترف به(2) ومع ذلك تظل المسكوت عنها فيضيف للمسكوت عنه سكوتا والمقصية دائما كأنه يخشى من تسرب سوس الانتهازية الى اعماله فينخرها نخر عظام الميت ىوفي ذهنه قول شيخ النهضة محمد عبدة ” أعوذ بالله من السياسة ومن لفظ السياسة ومن ساس يسوس وسائس ومسوس ” يساله جهاد فاضل ذات حوار: هل هناك ايديولوجية معينة تصدر عنها في ما تمتبه فيجيبه بانه لا يرتبط بالمذاهب السياسية او الايديولوجية انه يكتب عن الانسان وهذه الكتابة هي المحددة للمنظومة الفكرية التي قد يصنفها الباحث يسارية أو تقدمية أو يمينية فهو يكتب عن طبقة معينة من المجتمع الذي يعيش فيه ( جهاد فاضل أسئلة الرواية الدار العربية للكتاب ص 205) وهذا ليس بالبدعة في تيار الواقعية القذرة في الادب والتي يعد محمد شكري من اعلامه وجهابذته على المستوى العربي ويصعب خلع البعد الايديولوجي على اغلب كتابات الواقعية القذرة الايديولوجيا كحلم بالمعنى البسيط وليست كاداة للتغيير السياسي فحسب .

ثمة ما شدني الى محمد شكري وعوالمه كان ذلك اثر خروجي من السجن بداية التسعينات من القرن الماضي بعد احداث حرب الخليج الثانية وأنا المثقل بالهم الايديولوجي وبالهم الشخصي كنت أحمل بداخلي السجن اينما حللت ابى ان يعتقني لا زمني ملازمة الظل حتى المعاهد الخاصة رفضت في البدئ قبولي لمواصلة الدراسة امام الضياع في اللاشيئ الذي عشته اهتديت اليه عن طريق صديق مثقل بدوره بالهم السياسي وان كان الشق الاخر مني ايديولوجيا مدني بروايته الاولى ” الخبز الحافي” مازحا: ستجد فيها ما يسرك فالرجل قريب منك وفي ذهنه ان السبب الرئيسي الذي دفع محمد شكري للتعلم في سن العشرين هو الحوار حول الثورة الناصرية الذي حرم منه لانه أني وجاهل ثم اطلعت بعد ذلك على اغلب كتاباته وما كتب عنه باحثا عن ما يوحي بالالتزام السياسي فيها متسلحا بواقعة الاقصاء التي تعرض لها في المقهى الطنجاوي فلو مكنوه من المشاركة في الحوار حول الخلاف بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر لانجاز لهذا الاخير الذي فجر الثورة من اجل الفقراء والمحرومين والمعدومين وهؤلاء ه اهتمام محمد شكري الاول دافع عنهم بطريقته الخاصة هكذا كنت امني النفس بالالتقاء بكاتب سياسي من الدرجة الاولى ملتزما بالقضايا القومية الا انه لم يلامس في كتاباته السياسية الا لم يلامس في كتاباته السياسية الا لما في ملامسته القليلة لها بدا اما سلبيا محايدا ازاء الاحداث لسياسية او هجوميا ضد السياسيين وراء الواقعية السياسية بالنسبة اليه ليست السياسة الا لعبة قذرة والقمع هو جهل الحكام والوطن هو اينما وجدت عزة حياتك لذلك تحاشاها كضلع من اضلاع الثالوث المحرم/ المقدس : ليس خوفا فكتاباته كانت ممنوعة وما زالت في بعض الاقطار العربية والضجة التي ادثها طبع روايته الخبز الحافي بمصر لم تهدا بعد بسبب تناولها المفرط والجريئ لموضوع الجنس اما الدين فلم يقترب منه وان كان لا ينكر وجوديته واعجابه بسارتر ومقابل الحضور الطاغي للجنس وحدها تظل السياسة لديه ضربا من ضروب اللماظة والبلادة فاه من اللماظة السياسية هكذا تحدث محمد شكري ذات نص ( رواية محمد الشطار دار الباقي بيروت ص 177).

هوامش

1* اول من صاغ هذا الاصطلاع هو بيل بوفورد الرئيس السابق لمجلة ” جرانتا” في عددها الشهير الصادر سنة 1983 تحت العنوان العام: ” الواقعية القذرة: كتابات جديدة من امريكا” فقيول ق …انها واقعية قذرة غريبة تدور حول لجانب المتعلق بالبطن من الحياة المعاصرة ولكنها واقعية مؤسلبة للغاية وذات طابع شديد الخصوصية تتدفق اليها المعرفة على نحو شديد الدأب من المفارقة المثيرة للقلق والمراوغة أحيانا” انظر كذلك تقديم كامل يوسف حسين لروايتي ريتشارد فورد: حياة وحشية وعاشق النساء دار الاداب بيروت ص 5.

2* د . محمد جابر الانصاري العرب والسياسة : اين الخلل جذر العطل العميق , الطبعة الثانية, دار الساقي , بيروت2000 ص 40.