يبدو أن كشف لجنة التقصي في قضايا الرشوة والفساد في هذا التوقيت بالذات على قائمة بأسماء محامين عثرت عليها داخل قصر قرطاج أمر لا يخدم المسار الثوري كثيرا بل قد يقوضه تماما على رؤوس أصحابه بطريقة “عليّ وعلى أعدائي يا ربّ” وذلك لتظافر عوامل تعزز نظرية المؤامرة وتقوّي جانبها فتنتصر الريبة على الطمأنينة و يستفحل الشكّ، سيما وأن العملية بِرُمَّتها دخلت حلقة التشويق الهيتشكوكي الذي لم يخل من بعض الابتزاز.

أول هذه العوامل الخلاف المبدئي الذي اندلع منذ الأيام الأولى بين اللجنة وهياكل القضاء وهو خلاف لئن اكتسى طابعا قانونيا في الظاهر حول شرعية ما تقوم به ومدى استجابته لاستحقاقات الثورة وانتظارات الناس فإنه لم يَخْفَ ما في طياته من تجاذبات تهمّ أشخاصا من سلك العدالة يتحركون في الاتجاهين: داخل اللجنة وخارجها، وفي حين بدا للجميع أن هذه اللجنة احتكرت مفاتيح القصر الرئاسي لخاصة نفسها تفتح بها كلّما فـتُر الحديث عن مزاياها ملفا من الملفات المشوقة والمسلية ذات الارتدادات التسونامية العنيفة، يُلاحظ المتتبع بسهولة عقم هذه الاستعراضات وعدم اتصالها مباشرة بإنجازات قضائية تشفي الغليل، فمحاكمة الرئيس السابق وهو موجود في الأراضي السعودية يتمتع بوضع اللاجئ لم تعد تعني شيئا للتونسيين، أما الحاشية التي تقيم في ثكنة العوينة فلم توجه إليها حتى الساعة تُــهمٌ تتلاءم وما يتصوره الشعب الكريم من فساد واستغلال نفوذ أوحت اللجنة منذ مباشرتها أعمالها في الأيام الأولى بعد الثورة أنه من الحجم الثقيل والمخزي.

في هذا الظرف المشحون بالتوتر وانعدام أسباب الثقة بين قطاع عريض من رجال القانون والجهة المكلفة بالتـقصي في الفساد تظهر فجأة حكاية قائمة المحامين الموجودة في القصر الرئاسي لتكون أشبه بورقة ضغط، إذ تحدّثت الشائعات عن وجود أسماء بعض المتكلمين باسم الثورة نجومِ الفضاءات السياسية في القنوات التلفزية والناشطين في الصفوف الأمامية بعد 14 جانفي وقد يكون منهم من التحق بالحكومة حديثا، ولا تتردّد بعض الجهات في توظيف الصفحات الشهيرة على الشبكة الاجتماعية فايسبوك” لتصحيح نظرة الناس إلى هذا الاسم أو ذاك” فيما يبدو عملية منهجية لضرب بعض الرموز ووضعهم في إطار واقعي يستند ضمنيا إلى عبارة “من كان بيته من زجاج فلا يضرب الناس بحجر” استنادا إلى أن نظام بن علي قد لوّث الجميع وأن لا أحد يملك من الطهارة ما يخول له التحدث مطلقا باسم الثورة وأهدافها ناهيك عن جني أرباحها إلا من رحم ربك.

هكذا إذن وفي ظلّ مبادرة المحامين بالتشكيك في سلامة ما تقوم به اللجنة وتشبثها هي بقدسية ما كلفت به في سياق الثورة وبالنظر في ما أفضت إليه حتى الآن أعمالها، يبدو أن التلويح بوجود قائمة ضخمة من المحامين كان القصر الرئاسي يعول على خدماتهم إنما هو ردّ فعل قويّ في الاتجاه المعاكس، ومن السهل أن يتفطن المواطن البسيط إلى أن هذه التجاذبات لا تخدم مسار الإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي في شيء إذ تبدو أقرب إلى تصفية الحسابات المهنية الضيقة منها إلى تكريس العدالة الحقيقية خصوصا وأن ضجيجا إعلاميا قد رافق الكشف عن القائمة مقترحا حتى شطب المحامين الواردة أسماؤهم في القائمة قبل التساؤل عن طبيعة الخدمات التي أدّوها للنظام السابق ومدى مخالفتها لقوانين المهنة وميثاقها.