ميكيافيلي

ميكيافيلي

عندما تحدّث الدكتور المنصف المرزوقي في برنامج تلفزي عن خصوصيات الحالة التونسية معتبرا في المطلق أن السياسة أخلاق أولاّ، علّق بعض الأصدقاء على ذلك بشيء من الامتعاض العابر والإحساس المتسرّع بخيبة الظن، فالسياسة لم تستقم في أذهاننا منذ كنا صغارا نحبو في بيت الدولة الحديثة وديمقراطيتها التي لم تغادر طيلة نصف قرن حيّز النـوايا والوعود، إلا بما هي ضدّ الأخلاق المتعارف عليها في الكتب والدساتير والأعراف والقوانين، والسياسي الذي عاشرناه في القرية والبادية والمدينة لا يستحي من الانقضاض على أوّل فرصة تأخذه من يديه إلى مصعد السلطة، وأن يضع قدميه على أكتافك كي ترتفع هامته وتطلّ على موكب الرئيس ، السياسي النموذجي الذي تربّــى جيلنا في حضرته يستطيع أن يغيّر فكرته كما يبدّل قمصانه أو سراويله أو إطار نظاراته الطبية كلّما عنّ له أنّ الواقع يستدعي تغيـيرا ما، فلم يستطع أن يُـغـيّر بأفكاره الواقع على قسوته وحدّة وطأته.

بدت فكرة الدكتور المرزوقي غريبة بل قل طوباوية مثالية لا تتناسب والحالة التونسية التي يعتقد الكثيرون أنها تتطلب حلولا عاجلة، فالشعب التونسي يجتاز مرحلة صعبة على الصعيد النفسي الجماعي بسبب الانتقال السريع والمفاجئ من هيمنة الدكتاتورية وضماناتها العتيدة إلى مشروع ديمقراطي مفتوح على كل الاحتمالات، وبتراخي قبضة الشارع وانفكاك ضغطه تحت وطأة الأمر الواقع، أصبح لزاما علينا أن نغالب إحساسا بالخيبة يعتمل في داخلنا عندما نتحدّث عن الثورة عَــلَـــنًا، فبينما يرتفع وجيب قلوبنا خوفا من تداعيات الفوضى والعنف واللاشرعية والانتهازية السياسية والتحزّب المفرط والانهيار الاقتصادي الممكن، نغالب كلّ ذلك ببعض التفاؤل المصطنع ونقول لمن يهمه السؤال عن أحوالنا: “إنا بخير والحمد لله”، مُــردفين ذلك بابتسامة بلاستيكية بيضاء تترجم بياض الياسمين الذي يُسمُّـون به الثورة التونسية إلى اللغات الأجنبية رغم أن دماء الشهداء لم تكن في يوم من الأيام بيضاء بل قانية كدم الأفق النازف والخوف المجروح والكبرياء الجميل، ولست أشكّ في أن بعضا ممن يتغنون بالثورة وأمجادها قد يضطرّون إلى لـوم البوعزيزي سرًّا على تهوُّره، أو على الأقل يندبون حظا تعيسا جعلهم لا يتوقعون أمرا عظيما كهذا.

هذا الاضطراب النفسي الذي أصاب قاعدة الهرم التونسي ربما كان بسبب هروب الرئيس وانهيار أعمدة حكمه في دقائق بعد أن استقرّ في أذهان الناس أن الرئيس لا يهرب وأن هذا الحكم بالذات قويّ منيع عتيد ضدّ كل مظاهر العصيان التي قد تطرأ عليه، وربما كان من مظاهر التداعي للشفاء كالاكتئاب العنيف الذي يصيب المرأة بعد أن تضع حملها، ولكنه وأيا كانت أسبابه يستدعي تدخلا طبيا عاجلا، وبينما يتطلّع المريض شأن أي مريض يعاني من الألم ويتعجّل الشفاء إلى حــــبّة صغيرة تعيد إليه بمفعولها السحري عافيته وأناقته واستعداده للحياة يتقدّم الدكتور المنصف المرزوقي ليجلس عند رأس الأريكة ويقترح معالجة الحالة بأسلوب الطب النفسي القائم على الإصغاء والتداعي والحوار، لتأصيل الأشياء داخل مداراتها الأصلية، فإذا جاز لنا أن نُــشبِّـه الحالة التونسية بعملية جراحية سريعة وعاجلة لاستئصال ورم خبيث تمّت بنجاح باهر بعدما فوّض أشهر النطاسيـــــين أمرهم للربّ، فإن هذا المريض لا يمكن أن يغادر مشفاه إلاّ بعد أن يخلّصه العلاج النفسي من معايشته اللصيقة لهاجس الموت ويشحنه برغبة جديدة لمعاودة الحياة، وإذا توخينا الدقة أكثر في التشبيه وفي وصف الحالة بلاغيا يبدو التونسي اليوم كمن تعافى من تعاطي أفيون السعادة السياسية الأبدية والإحساس المزمن بالبهاء الديمقراطي والإعجاز الاقتصادي، ذلك الأفيون الذي جعله طيلة عشرات السنين يرى الأشياء وفق مزاج الرئيس الخاص وحملة مباخره وبما ارتضته له أبواق الدعاية السياسية لا بما كان ينبغي أن تفضي إليه كل نظرة موضوعية مجرّدة، وهو مريض يطلب بعد شفائه علاجا نفسيا يبعد عنه شبح الأفيون الساحر الذي سيظل يراوده عن نفسه فترة من الزمن.

قد تكون مسألة الأخلاق مصيرية في بلدٍ يُـــراد له أن يتشكّل من جديد بعد أن قوّضت ثوابتَه التاريخيةَ المزعومة ودعاماته اللُّـغوية ثورة لم يتزعمها بشكل مباشر أحد ولكنها نتاج تراكمات نضالية لا يحق إنكارها، فالثورة ليست تعني استبدال رأس النظام المخلوع بآخر يحل محله ويرمم فجوات البنيان التي عرّتها فيوض المدّ الثوري الهادرة، وإنما بناء وتأسيس على أنقاض مرحلة وعمل تحريضي في العمق لإنشاء كيان اجتماعي جديد تُستأصل منه إكراهات مفروضة على أجيال من المواطنين تلخص الانتماء في الولاء للمنقذ والمواطنة في العرفان بالجميل.

ولكن وصفة الدكتور قد تخيب ظن البعض ممن يدفعهم الإحساس بالألم إلى الحبّة السحرية الصغيرة سبيلا للخلاص لأنها بالمعنى البراغماتي الذي تعــوّدناه في ظل الشروط السياسية السابقة أفضل من المشرط وأريكة العيادة النفسية، وتبدو للعَملِــيـــين مهمةُ جلب الاستثمارات الاقتصادية ورؤوس الأموال الأجنبية واستعادة بريق الثقافة الاحتفالية مهامَّ نضاليةً واقعيةً يفرضها واجب الانتماء إلى الزمن قبل واجب الإحساس بأوجاع الوطن، فالبناء على قاعدة تأصيل السياسة في واجبها الأخلاقي مطمح قد يضطرّ كثيرون إلى إبداء التعاطف معه وإعلان تبنيه ولكن على ألا يكون من أولويات المرحلة، وهكذا يحتدم الصراع الأبدي بين التشبث المحموم بتلابيب واقعٍ مأزوم والركض اللاهث وراء فكرة أو حلم.