أنقل لكم هنا بدقة ما نشره مجلس نواب الشعب في موقعه الرسمي عن الحوار البرلماني الذي دار يوم الثلاثاء 16 جويلية مع السيدة فريال الورغي السبعي وزيرة الاقتصاد والتخطيط، في النقطة الأخيرة التي أثارها النواب حول (دفع المشاريع المعطلة). فقد بررت الوزيرة (التعطيل) بأنه راجع إلى (تبويب هذه المشاريع قبل تحضير الأراضي والمقرّات وهو ما يستوجب تغيير صبغة الأراضي، الأمر الذي يستوجب وقتا طويلا، ويزيد في كلفة المشروع ويتطلّب ضرورة البحث عن مصادر تمويل مجدّدا. وأقرّت بأنّ الوزارة تعمل جاهدة لدفع المشاريع المعطّلة وتسريع إنجازها من خلال البحث عن مصادر التمويل باعتبارها رافدا مهما للتنمية وللنهوض الاقتصادي).
وإذا تأملنا جيدا هذا الرد وجدناه ردا علميا تقنيا هادئا رصينا يتقبله العقل بسهولة لأنه مفهوم وواضح، ويحدد موطن الداء (الذي يعرفه الجميع)، فمن الطبيعي مثلا أن تستغرق عملية انتزاع الأراضي التي سيمرّ منها مشروع الطريق السيارة أو الخط الحديدي سنوات طويلة. فالمشكلة إذن سياسية بالأساس، إذ يتعجل المسؤول التسويق للمشروع باعتباره إنجازا منذ اكتمال الدراسات النظرية على الورق وإتمام النموذج المصغر! ويسارع لإعداد اللوحة الرخامية التي سيوضع عليها اسمه. ومن النوادر المشهودة في هذا السياق تدشين مشروع (المرفأ المالي لمدينة تونس) من قبل كل رؤساء الحكومات الذين تداولوا على القصبة منذ 2011!! والمشروع يراوح مكانه في حيز الخيال والطموح، وباب مستشفى الملك عبد العزيز بالقيروان الواقف في الخلاء.
لكن تفسير الوزيرة يختلف جذريا عن السردية الرئاسية، ففي اجتماع مع رئيس الحكومة بتاريخ 8 نوفمبر 2023، خصص للنظر في (المشاريع المعطلة وضرورة تجاوز كل العقبات التي أدت إلى هذه الوضعية) يؤكد الرئيس أن (الاجراءات التي يتم التعامل بها أحيانا الهدفُ منها ليس احترام القانون ولكن الاستجابة لجماعات الضغط لأن هذه المشاريع تمس بمصالحها وتجد للأسف من يشاركها في هذا التعطيل وفي هذا التأجيل الى التأجيل وصارت لها شبكات اجرامية تعمل على أن تحل محل الدولة في عديد المرافق العمومية كالنقل والصحة والتعليم وغيرها).
يتضمن خطاب الوزيرة الحل البديهي الممكن، إذ ينبغي أن تقلب منهجية العمل رأسا على عقب، فلا يُـتحدث عن مشروع مدينة صحية أو مستشفى أو طريق سيارة إلا متى اكتملت مرحلة تهيئة الأرض كليا ووجد التمويل. ولا ينطلق التسويق السياسي لأي منجز إلا لحظة انطلاق الأشغال ولم لا عند اكتمالها وبدء استغلالها لمصلحة المواطنين. ساعتئذ لن تجد أي حكومة نفسها معلقة بين الوعود الفضفاضة وإكراهات الواقع، لكن الحل يكمن عند الرئيس في (ضرورة تطهير كل أجهزة الدولة والإسراع في عمليات التدقيق في الانتدابات لأنه فضلا عن ارتباط عدد من الأشخاص بهذه اللوبيات وفضلا عن أنها إهدار للمال العام فإنها تمثل امتدادا لشبكات إجرامية غايتها التنكيل بالمواطنين وافتعال الأزمة تلو الأزمة كل يوم تقريبا).
هكذا يجد التونسيون أنفسهم مرة أخرى أمام سلطة تنفيذية ذات رأسين يفكران بشكل مختلف، والاختلاف بينهما هذه المرة جذري عميق. فموقف الوزيرة ينطلق من ثقة في الإدارة ونقد لمنهجية عملها، بينما يقوم الخطاب الرئاسي على حكم مسبق راسخ بأن الإدارة مخترقة من جماعات الضغط!! فإذا تعطل مشروع إنشاء مستشفى بسبب (صعوبة انتزاع الأرض وتحويل صبغتها العقارية) فإن العقل الرئاسي يعتقد أن أصحاب المصحات الخاصة المحيطة بهذا المشروع يحرضون الموظفين داخل هذه الإدارة أو تلك ليظل هذا المشروع معطلا!!
يذكرنا خطاب السيدة فريال الورغي السبعي وزيرة الاقتصاد والتخطيط (الخالي من الشعبوية) بخطاب سلفها في المنصب ذاته سمير سعيد الذي خالف موقف الرئيس علنا في موضوع رفع الدعم فأقيل من منصبه، وكلاهما قادم إلى الحكومة من الجامعة وغير مستعد فيما يبدو للتنازل عن العقل الأكاديمي لتبني مقولات (فايسبوكية).
ولئن كان من دواعي الابتهاج أن تظل وزارة الاقتصاد والتخطيط محّصنة ضد المقولات الشعبوية المتهافتة فإنه من المؤسف أن ينحصر تفكير الرئيس وهو يمتلك صلاحيات لم يمتلكها رئيس أو ملك من قبله في المؤامرات والدسائس والخطط الإجرامية التي يتوقعها من الجميع، فالحكومة في ظل هذا النظام الرئاسي لا حول لها ولا قوة إن لم تكن منسجمة تمام الانسجام مع الرئيس، ولذلك يظل عملها بلا معنى لأنها في الوقت الذي يشتغل فيه بعض وزرائها بعمق وجدية وكفاءة تصطدم كل أعمالها بتعنت الرئيس الذي يستعد لقضاء عهدة جديدة لمحاربة المزيد من طواحين الهواء.