بحركة رشيقة وابتسامة روتينية، التقطت المضيفة جواز السفر من يدي وشرعت في إجراءات التسجيل. كانت الحركة فاترة بمطار المنستير الدولي في تلك الساعة المبكرة من يوم الثلاثاء 27 جوان 2023، ومن محاسن ذلك الفتور سرعة القيام بالإجراءات وقصر فترة الانتظار في الطوابير.
وكما يحدث في كل الرحلات المتجهة إلى أوروبا، تطلب مضيّفة التسجيل وجوبا التأكد بشكل روتيني من صلاحية تأشيرة (شنغن) أو وثيقة الإقامة، قبل أن تعيد إلى المسافر جواز سفره وتسلمه بطاقة الركوب. لكنها وهي تراجع تأشيرتي انطفأت من على وجهها تلك الابتسامة التي استقبلتني بها، وقطبت جبينها وسألت مستوضحة: متى ستعود من باريس؟ قلت: رحلة العودة ستكون يوم 1 جويلية على الساعة التاسعة والنصف مساء. فنهضت من مكانها واتجهت نحو رئيسة الفريق التي كانت تراقب بانتباه شديد كل ما يحدث في شبابيك التسجيل، وسلمتها جواز السفر بعد أن تحدثت إليها بصوت خفيض كما يفعل أي موظف يريد أن يثبت لرئيسه فطنته وحرصه على مصالح الشركة.
francais_image2_248051_1699396592تسلمت الرئيسة جواز السفر، تأملته، وحركت رأسها موافقة الموظفة المخلصة، وطلبت منها العودة إلى مكانها لاستئناف تسجيل المسافرين على أن تتولى هي بنفسها الاهتمام بحالتي. وبعد أن أجرت مكالمة هاتفية لم أتبين منها سوى بعض الهمهمات غير المفهومة، أقبلت نحوي لتعلمني بأن العودة في نفس اليوم الذي تنتهي فيه صلاحية التأشيرة أمر محفوف بالمخاطر، فلو حدث أن تأخرت الرحلة (الفيزا تتحرق) هكذا قالت مؤكدة أن محدثها على الهاتف -وهو أعلى منها رتبة- يشاطرها هذا التخوف. قلت ما المطلوب؟ قالت غيّر ساعة العودة.

رغم الارتباك الذي أصابني لحظتها، والعرق البارد الذي بدأ يتصبّب من جبيني، استطعت أن أتبيّن بعض الحقائق بوضوح تام: فالعمر القانوني للتأشيرة ينتهي في تمام منتصف ليلة 1 جويلية 2023 بتوقيت باريس، وينبغي أن أغادر الفضاء الأوروبي قبل ذلك الوقت حتى لا أعتبر في نظر القانون الأوروربي (حارقا). لكن رغم أن رحلة العودة في الساعة التاسعة والنصف ستمكنني عمليا من اجتياز الحدود قبل نهاية عمر التأشيرة بخمس ساعات على الأقل فإن المضيفة ورئيستها ومن على الهاتف لا يثقون في قدرة شركة الطيران التي يشتغلون بها ويمثلونها على الإيفاء بتعهداتها إزاء المسافرين. واحتياطيا هم يريدون تجنيب شركتهم أي متاعب يمكن أن تقع في صورة حدوث تأخير.
وفي كنف ذلك الارتباك لم أتبين بالوضوح الكافي عدم قانونية الإجراء الذي اتخذه فريق المضيفين لحظتها، فتذكرة السفر بمثابة العقد الذي يربط المسافر بالشركة، ومواعيد الرحلات المعلنة أساس ذلك التعاقد، ولا يمكن التخطيط لأي شيء بناء على احتمال حدوث تأخير!!، لا سيما أنه من الصعب في ذلك الظرف الدقيق وتحت الضغط النفسي والعصبي القيام بأي تعديل على برنامج الرحلة وكل تغيير ممكن سيكون مكلفا!
وبينما كنت عالقا في حيرتي انتشلني مضيف آخر كان يراقب المشهد عن بعد، وقد فهم (كما فهمت أنا) أن التعطيل الذي حصل لا يعدو أن يكون محاولة من المضيفة الأولى للظهور بمظهر الموظف النشيط المجتهد أمام رئيستها، وقد سجلت هذا الهدف ببراعة شديدة (في مرماي أنا) قبل أن تعود إلى طابور المسافرين وتستعيد ابتسامتها البلاستيكة المفتعلة وتنسى تماما أنها زجّت بمسافر (غلبان) في نفق الحيرة والخوف. كيف لا؟ أفليس من الحماقة أن أثق أنا في مواعيد الشركة أكثر من موظفيها أنفسهم؟؟!!! لكن المضيّف الذي اخترق مسرح الأحداث في تلك اللحظة نظر إليّ بعيني الواثق من نفسه والمستهزئ مما يحدث في ذات الوقت وقال: اسمع، أنا لم أقل لك شيئا، احجز مكانا في رحلة أخرى دون دفع أي مليم، أظهر لهم الحجز الجديد وسيسمحون لك بالعبور، إثر ذلك افعل ما بدا لك.
وكان ذلك كذلك، انزويت بعيدا عنهم ، وباستخدام الهاتف الجوال حجزت مقعدا وهميا في رحلة أخرى يوم 30 جوان، وما إن أعلمت المضيفة بذلك حتى سمحت لي بالعبور، وانطلقت الرحلة المختصرة بشكل مكثف إلى الفضاء الأوروبي، وكانت العودة في نفس الموعد المبرمج منذ البداية أي يوم 1 جويلية على الساعة التاسعة والنصف، ووصلت إلى مطار المنستير قبل منتصف الليل، وقبل نهاية عمر التأشيرة. ورغم كل المتاعب التي رافقت رحلة الذهاب لن أنسى أبدا ابتسامة شرطي الحدود الفرنسي الذي قدمت له جواز السفر ليختمه في مطار باريس عند الوصول، فقد اكتفى بالقول عندما انتبه إلى قصر المدة المتبقية في عمر التأشيرة: تفضل، حظا طيبا!