Tag: النهضة
عن المنصف المرزوقي وحرّية الإعلام في عهده
يتباهى الدكتور المنصف المرزوقي بأنه لم يسجن طيلة فترة إقامته في قصر قرطاج رئيسا للجمهورية أي صحفي، وهو يعتقد أن هذا التسامح الرئاسي مع الصحافة هو أحد أهم الإنجازات التي يمكن التباهي بها. والمرزوقي يصدر في هذا الموقف عن خلفية حقوقية تقوم على الاعتقاد بأن السلطة السياسية لا تملك إزاء الصحافة الحرّة والمنفلتة إلاّ التهديد بالسجن، وهو تصور نمطي أحادي ضيق الأفق يتجاهل عمدا أن مجالات التضييق على الصحفيين أكثر من أن تحصى، بل قد يكون السجن أحيانا أقلها عبئا لا سيما إذا ما تعلق الأمر بثلب ومخالفة صريحة لمواثيق المهنة وأخلاقياتها.
للتدليل على ذلك وشرح الموضوع للدكتور المنصف المرزوقي إذا ما أتيح له الاطلاع على هذه الكلمات، أنقل هنا نص تدوينة سرعان ما حذفها صاحبها بعد نشرها لأسباب غير معروفة، وهي «رسالة مضمونة الوصول إلى عبد اللطيف المكي وتنبيه إلى بعض المخبرين بالتلفزة من هذا الطرف أو ذاك» وفق تعبير الكاتب، ولا ضير في إعادة نشرها مع تغطية بعض الأسماء احتراما لرغبة صاحبها في سحبها، يقول: «ذات مساء من سنة 2012 رتب لنا (م.ع) الاجتماع بالسيد لطفي زيتون المستشار السياسي لرئيس الحكومة حمادي الجبالي قصد مناقشة مشاكل التلفزة التونسية. كنا مجموعة من التلفزة يرافقنا محمد المدب من الإذاعة الوطنية، وقد وقع الاستعداد لهذا اللقاء عبر تقسيم الأدوار بيننا، ووقع الاتفاق على أن أبدأ أنا الحديث بإعطاء بسطة عن التلفزة الوطنية وعن مشاكلها وكيفية النهوض بها لتصبح مرفقا عموميا يستجيب لتطلعات المواطنين، وهكذا كنت أعتقد، غير أن الحقيقة كانت غير ذلك، واللقاء كان مرتبا لأمر آخر.
حوالي الساعة الخامسة مساء وقع استقبالنا بقاعة محاذية لمكتب رئيس الحكومة، وبعد عبارات الترحيب والمجاملة أخذت الكلمة، وبدأت الحديث كما اتفقنا، ولكن في الأثناء لمحت نظرة استهزاء من كلامي من لطفي زيتون، وعند سؤالي أجابني حرفيا بأنه ومن معه لا يعنيهم كلامي ولا تعنيهم مشاكل التلفزة بقدر ما تعنيهم «الأخبار» وكيف يمكن تطويعها لفائدتهم، أحسست حينها أنني في المكان الخطأ مع الأشخاص الخطأ!
مباشرة أخذ هو الكلمة وتساءل عمّن يمكنه أن يتقلّد منصب رئيس مدير عام الإذاعة التونسية عوضا عن السيد الحبيب بلعيد، أجابه في الحين (م.ع) بأنه أحضر معه «محمد المدّب» لتقلّد هذا المنصب وهو الوحيد الذي يمكنه أن يطبق ما يطلب منه، ثم تساءل عمّن يمكنه تقلّد منصب رئيس مدير عام التلفزة فأجابه المهندس (م.س) من التلفزة بأنه أهل لذلك.
خلت الأمر هزلا، لكن من الغد بلغني أن غاية الاجتماع كانت هذه، وبعد مدة علمت من أحد الحاضرين أنه وقعت الموافقة على تعيين محمد المدب على رأس الإذاعة التونسية، وهم مدعوون إلى التكتم على الخبر إلى حين صدور التعيين بالرائد الرسمي حتى لا تقع شوشرة، خاصة أن البلاد تعيش حالة احتقان شديدة على الإعلام العمومي».
عند هذا الحد تنتهي التدوينة، وهي تصف بوضوح شديد الأجواء داخل غرفة عمليات تسيرها النهضة في ظل رئاسة المنصف المرزوقي الحقوقي المؤتمن على الحريات وعلى كرامة التونسيين جميعا. وكل ما في هذا النص حقيقي موثق بالوقائع الثابتة. وكما يستشف مما جاء فيه فإن دور «الطابور الخامس» قد لعبه (م.ع) وهو أحد العائدين إلى التلفزيون بعد الثورة بموجب العفو التشريعي العام، إذ أطرد في حادثة مشهودة أقدم فيها على قطع التيار الكهربائي يوم إعادة بث حلقة من برنامج «المنظار» مطلع التسعينات تناولت موضوع الاعتداءات الإرهابية على مقرّ لجنة التنسيق بباب سويقة! وهو هنا لا يمتلك أي صفة رسمية تتناسب والدور الخطير الذي يقوم به في الوساطة بين لطفي زيتون والمستعدين لبيع أعناقهم من أبناء الإذاعة والتلفزيون، ما يجعله أقرب ما يكون إلى المشرف على تنظيم سري أو جهاز مواز، لا سيما في تلك الفترة التي نُصبت فيها خيام روابط حماية الثورة أمام مبنى التلفزة للتنكيل بكل العاملين فيها وإهانتهم والانتقام منهم ولو رمزيا.
أما في ما يتعلق بالإذاعة، فالحادثة أصبحت معروفة، والحبيب بلعيد لم يسمع بنبإ إقالته فعلا إلا من سائقه الشخصي الذي أطلعه على نسخة من الرائد الرسمي (نعم هكذا كانت تدار الدولة!)، وقد عرفت النهضة حقّا كيف تفرض اسم مرشحها الذي ما كان ليقبل به أحد، فهو مجرّد موظف تقني في الإذاعة، مُنح في فترة إدارة «منصور مهني» إبان الفصل بين الإذاعة والتلفزيون فرصته في الإشراف على القطاع الهندسي، وأخفق لمحدودية أفقه وتواضع إمكاناته، لكنه استغلّ هذا الانفلات الذي حدث عقب الثورة ليعود في ثوب «المضطهد السياسي» في أكبر عملية تحيّل شهدتها المرحلة. والمقالات التي كتبتُها على أعمدة الصحافة في هذا الموضوع كثيرة أشهرها مقال بعنوان «الإذاعة التونسية من عثمان الكعّاك إلى محمد المدّب» إذ منحت الترويكا مع الأسف هذا الشخص صلاحيات واسعة النطاق لا تتناسب ومؤهلاته ولا تليق بدولة يزعم حكامها أنها دولة القانون والمؤسسات، ولعل أبرز إنجاز يمكن له أن يتباهى به اليوم هو توقيعه على قرار فصلي من الإذاعة التونسية إثر التحاقي للعمل بالخارج، وحرماني من حقي في الإلحاق بوكالة التعاون الفني، وربما لا يعرف السيد المنصف المرزوقي رئيس الجمهورية آنذاك أن كل الزملاء الذين حرموا من التعاون الفني صدر قرار طردهم من الرئيس زين العابدين بن علي شخصيا، لا لشيء إلا لاعتقاده أن العمل في قناة الجزيرة يساوي «خيانة الوطن» وأن كل ما فعلته الإدارة بعد ذلك هو إخراج مسرحي قانوني كتنظيم مجلس تأديب صوري ينتهي إلى إصدار قرار الفصل النهائي، لكن صاحبنا لم يكن في حاجة حتى إلى مثل ذلك في عهد الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان حيث يمكن له أن يفعل ذلك بجرة قلم بسيطة!
ولكم أضحكني الدكتور المنصف المرزوقي وهو يخاطب «إلياس الغربي» في أول حلقة من برنامج «ميدي شو» يقدمها في موزاييك بوصفه «من الجيل الجديد الذي يعول عليه في دعم الانتقال الديمقراطي»، فلست أدري إن كان يعلم أو لا يعلم أن كل الذين يهيمنون على المشهد الإعلامي اليوم صنعتهم الإذاعة والتلفزة الوطنية، وهم من اكتشافات المرفق العمومي في منتصف التسعينات عندما تأسست قناة 21 ومن بعدها إذاعة الشباب لتجديد المشهد الاتصالي بأوامر رئاسية وتوجيه سياسي. سنذكر هنا بمرارة ذلك الوصف المهين الذي استخدمته «أم زياد» في وصف المشهد حين قالت: «خسارة أن أول صفحات الحرية سيكتبها العبيد» ليعلم المرزوقي أن الاستعباد أشد وطأة من السجن، فبعدما حرّرت الثورة أبناء الإعلام العمومي لم يكن أحد ليقبل لاحقا بأن يتعامل معهم بوصفهم أحرارا، وتكشف القصة التي عرضناها المخطط الذي تم تنفيذه لغلق أبواب الأقفاص مجدّدا وتغيير السجّانين.
ليت الدكتور المرزوقي سجن من أخطأ في حقّه وكان منصفا بحقّ!
وراء كل كذبة حقيقة
وتدخّلت العناية الإلهية في آخر لحظة لتنقذ التونسيين من الهبوط درجة أخرى في الحضيض، كان كل شيء على ما يرام هنا في القاع، إسفاف نسبي، وأحداث تسير ببطء وملل، حتى تكلّمت النّائبة في البرلمان بشرى بلحاج حميدة وقالت: إن طبيبة مُحجّبة في مستشفى الأطفال بباب سعدون رفضت فحص العضو الذكري لطفل في الثالثة عشرة من العمر.
يا الله يا كريم، يا رحمن يا رحيم، خبر قُدّ على قياسنا، وها نحن ذا نتوكّل عليك لنشحذ سكاكين الفتنة ونعدّ لها ما استطعنا من العدّة، لنبحثْ أولا عن تسمية لائقة لوصف هذا القضيب العجيب الذي سيثير العجاجْ من باب سعدون إلى قرطاجْ، فعبارة “العضو الذكري” جافة ورخوة أكثر مما يلزم ولا تنتصب بشكل جيّد في ذاكرة السياسيين، سنستخدم عبارة “البشّولة” فهي أكثر بلاغة من “الزنّانة”، ولو شئنا لفرّكنا الرمّانة، فكتاب “الروض العاطر” يزخر بأسماء الأيور وصفاتها، لكن ليس هذا مقامها، فمربط البغل في هذه الحكاية هي عبارة “مُحجّبة”، التي ستعيدنا إلى المربّع الأول، “تغيير النمط”، وهلمّ جرّا من الفقاقيع التي ستقضي على هذا الملل.
فجأة تراجعت النائبة وأسقطت كل الحسابات في الماء، اعتذرت عن تسرّعها في نشر خبر تبيّن لها أنه كاذب، ولسحب البساط من تحت أقدام من سيلومونها أكّدت أيضا أنه كان ينبغي عليها التّثبت قبل نشر الخبر، ولسان حالها يقول: من اعترف بذنبه فلا إثم عليه، هكذا بكل بساطة تبخّرت حكاية الطبيبة المُحجّبة والبشّولة كأن لم تكن، والحال أنها حكاية متقنة الصنع يمكن أن تنطلي على الجميع، وكان يمكن أن تتصدّر أخبار البلاد في كبريات وكالات الأنباء لتعكس الصراع التراجيدي المزمن بين “الحداثيين والحداثيات” بوصفهم حرّاس “النمط”، والمحجّبين والمُحجّبات بوصفهم أعداءه.
لن نأسف كثيرا لضياع هذه الفرصة، فالقادم بلا شكّ سيكون أجمل، والأيام دائما حبلى بما يصعب تخيله، عليك دائما أن تتوقع عند شراء علبة مفرقعات (الفوشيك) وجود واحدة أو أكثر لا تفرقع بشكل جيّد انما تطلق دخانا أبيض وهي تتمرّغ على الأرض، أطفال الثالثة عشرة يُسمّون هذه المفرقعات التي تسلّلت إليها الرطوبة فمنعتها من الفرقعة، “فسّاية” إذ أن صوتها يشبه صوت “الفسوة” وهي الظرطة المكتومة كما تعلمون.
القادم أجمل فمنصّات التواصل الاجتماعي وبلاتوهات الحوار السّياسي تحفل بالأكاذيب من كل نوع. الكذب أكثر السّلع رواجا، وله فوائد شتى، فوراء كل كذبة حقيقةٌ، لكنّ أكثر الناس لا يدركونْ، خذ مثلا حكاية الطبيبة المًحجبة والبشّولة، لك أن تُسميها “ضرطة” فلتت على حين غفلة، لكنها دليل قوي على أن كثيرا ممن يحترفون السّياسة اليوم في بلادنا لا يفعلون شيئا غير الضراط، كثير من السياسيين ونشطاء المجتمع المدني كان ينبغي أن يعتزلوا النشاط السياسي والحقوقي مباشرة مع رحيل بن علي إلى السعودية، فمواصفات دولة الاستبداد التي جعلتهم نجوما في عالم السياسة والمعارضة وحقوق الانسان تغيرت، وحرام ألاّ يُجازى هذا الشعب الذي ضحّى بالغالي والنفيس من أجل الديمقراطية الاّ بكثير من الفُساء.
رسالة سجناء النهضة إلى أحمد نجيب الشابي
إلى السيد نجيب الشابي رئيس الحزب الديمقراطي التقدمي
تحية نضالية مباركة
نحن مجموعة من المساجين الإسلامين الذين يقبعون مرابطين وصامدين ماسكين على الجمر في السجون والمعتقلات التونسية منذ 1990 يطيب لنا بمناسبة إحياء ذكرى اليوم العالمي لحقوق الإنسان في 2002.12.10 أن نصافحكم بهذه الرسالة لا لنذكركم بما تعرضنا له “كأسرى” نظام قهري وما تعرضت له عائلاتنا ولا تزال من اضطهاد وتنكيل وانتهاك للحقوق وتعد على الحرمات ومحاولات غسيل الدماغ وما لاقته حركتنا ومناضلونا من محاكمات وتعذيب وقتل وإعدامات ومنافي تهجير وطرد من الشغل ومصادرة لموارد الرزق وإفتكاك جوازات السفر وحصار ومراقبة وملاحقات ومضايقات وطرد من الدراسة والتعليم وتشتيت لشمل العائلات بالسعي الى إجبار زوجات المساجين على تطليق أزواجهن والعمل على القضاء على الحركة وتدمير بنيتها وهياكلها التنظيمية وإلغاء وجودها وغلق ملفها وتحريض الحكومات الغربية على إلغاء حق اللجوء السياسي وتسليم الناشطين لإعدامهم او حبسهم في الزنازين والإصرار على تشويه صورة الحركة الإسلامية وتقديمها في شكل مجموعة متطرفة متسترة بالدين وإرهابية.
ولا نرغب أيضا في هذه المراسلة الخاطفة أن نفصل القول في شتى المظالم التي مسنا ضرها ولا إحصاء الإنتهاكات الصارخة لحرياتنا الفردية والجماعية وحقوقنا كحركة سياسية ولكن نود فقط في هذه المناسبة العالمية النضالية أن نلفت نظركم بصفتكم رئيس حركة طلائعية لا نكتم إعجابنا بشجاعتها وصدقها في تبني قضية الحريات والديمقراطية والعدالة الإجتماعية وبصفتكم أيضا كأستاذ محام الى بعض الأوضاع التي يعيشها المساجين السياسيون في بلادنا والسجناء عموما في الأحباس التونسية مما يخالف ما وضعته الأمم المتحدة من قواعد نموذجية دنيا في معاملة السجناء ويشكل خرقا واضحا لترتيبات العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ومجموعة مبادئ الأمم المتحدة المتعلقة بجميع الأشخاص الذين يتعرضون لأي شكل من أشكال الحجز والسجن ومما يناقض أيضا وينتهك فصولا بينة للقانون الداخلي للسجون التونسية في نسخته القديمة أو المعدلة ونذكر من هذه التجاوزات والوضعيات الشاذة ما يلي على سبيل الإشارة لا الحصر.
إن جل المساجين في الأحباس التونسية لا يتمتعون بفراش مستقل بل يتقاسم السجين الفراش مع سجين آخر وهي وضعية مخلة بالآداب والذوق السليم ومخلة بشروط الصحة وراحة السجين أثناء النوم أو اليقظة.
كثير من السجناء لا يجدون نصف حشية ينامون فوقها بل ينامون على “الاسفلت” أو بلغة السجن في “الكدس” رأسا وذنبا “tête et queue” متكدسين” بعضهم على بعض” و “بعضهم في بعض” كعلب السردين ويمتد الكدس الى تحت الأسرة والى عتبة بيوت الراحة في ظروف قذرة وسخة مفترشين أغطية نتنة وهي وضعية لو أطلع عليها التونسيون لما صدقوا أن هذا يوجد في بلدنا تونس2002 بل لم يوجد في تونس ابدا حتى زمن البايات عندما كان السجناء يحبسون في كراكة حلق الوادي.
الإعتداء على كرامة السجين بالإهانة والتعنيف والضرب وإستعمال “الفلقة” والتعليق في السلاسل على القضبان. وهو سلوك يومي في جل السحون التونسية وخاصة الهوارب بولاية القيروان حيث تمارس الإنتهاكات بإشراف مدير السجن ومساهمته وبعلم إدارة السجون وتحت سمع وبصر وزارة العدل وحقوق الإنسان.
الانعدام الكلى لبرامج الإصلاح التربوي والأخلاقي وغياب التوجيه الديني والروحي وإنعدام فضاءات التثقيف والمطالعة والعبادة والرياضة اضافة الى شكلية ما يقدم للمساجين احيانا من حصص رفع امية او برامج تاهيل مهني وادماج اجتماعي الامر الذي حول السجون الى مراكز لتعليم الانحراف وارتكاب الفواحش واحتراف “الاجرام”.
منع السجناء وخاصة السياسيين منهم منعا باتا من تلقي الكتب والمراجع والدوريات العلمية والفكرية والدراسية وحرمانهم من التسجيل في المعاهد والجامعات ومواصلة التعليم والدراسة وممارسة الحصار الأعلامي بمنعهم من الإطلاع على الصحف وسائل الإعلام المسموعة والمرئية بهدف الحد من طموحاتهم العلمية وتدمير ملكاتهم العقلية وعزلهم عن الواقع المحلي والدولي.
تردي نوعية الأكلة المقدمة للسجين وعدم توفرها على الحد الأدنى من القيمة الغذائية ومواصلة تقديم الصبة
تتوالد الفئران وتتكاثر الحشرات والطفيليات في اكثر السجون التونسية وتتقاسم هذه الكائنات طعام السجناء وتسكن فرشهم وملابسهم واجسادهم.
الإكتظاظ المفرط للسجون وتدهور شروط حفظ الصحة.
السيد الفاضل: اننا برغم ما اصابنا من ضر في السجون وما لحق عائلاتنا من اذى ومالاقته حركتنا ومناضلوها في البلاد وفي المنافي من قمع وتصفية وتشويه واقصاء وبرغم كل الويلات فاننا نؤكد لكم بقاءنا صامدين بإذن الله ثابتين على مبادئنا متعلقين بالقيم الالهية والمثل الإنسانية العليا متيقنين أن المنعرج الديمقراطي والانتقال بشعبنا وبلدنا الى زمن الحريات والديمقراطية والتعددية الحقيقية والحياة السياسية النظيفة والراشدة لابد ان يتحقق في يوم غير بعيد بفضل صمودكم وثباتكم ووفاء كل المناضلين الاحرار والشرفاء لمنطلقاتهم ومبادئهم السامية والكفاحية ووفائنا جميعا لآمال شعبنا وطموحاته في مجتمع حر ومتحضر وديمقراطي واشواق امتنا في ريادة حضارية وكونية جديدة.
نحيطكم علما اننا عازمون باذن الله على الدخول في اضراب جوع ابتداء من يوم 9 ديسمبر 2002 بمناسبة ذكرى اليوم العالمي لحقوق الانسان. اما مطالبنا الاساسية فهي كما يلي:
* سن قانون العفو التشريعي العام
* رفع كل المظالم المسلطة علينا كمساجين وكحركة سياسية والإعتراف القانوني بحركتنا الإسلامية كجزء لا يتجزء من المنتظم السياسي الوطني والقانوني.
* مساندتنا ودعمنا لكل المطالب الديمقراطية التي تنادي بها القوى السياسية التقدمية والديمقراطية في بلدنا سواء كانوا احزابا او جمعيات معترفا بها او غير معترف بها او كانوا شخصيات مناضلة.
* وضع حد للانتهاكات المادية والمعنوية لكرامة السجين.
* حقنا المشروع في تلقي الكتب والمراجع والدوريات العلمية والفكرية وحقنا في مواصلة الدراسة والتعليم والارتقاء المعرفي.
* تجميعنا في غرف مستقلة وتحسين ظروف اقامتنا (تقريب، زيارة بدون حاجز …).
وأخيرا نحي صمود حزبكم ومصداقية اهدافه وبرامجه ونبارك جهودكم ونبل مناضليكم وروحكم النضالية ونؤكد على ان تشكيل جبهة ديمقراطية واسعة ومكافحة ذات برنامج واضح واهداف طموحة واولويات واقعية … جبهة تؤمن بان تحطيم قلاع الاستبداد وتكسير اغلال الانظمة القهرية وانهاء حقبة عبادة الوثن والارتقاء الى زمن الحريات ومصاف الشعوب المتحضرة والمجتمعات الراشدة والحرة لا يتم دون تضحيات ودون تقديم ضريبة الحرية.
وفقكم الله وسدد خطابكم وبارك مسعاكم وحقق آمال شعبنا على أيديكم.
—————————–
أرشيف الحزب الديموقراطي التقدمي
مولوتــــوف
مطلع تسعينات القرن الماضي كنت أدرّس العربية لتلاميذ الباكالوريا في إحدى قرى السّاحل، وكان من تقاليد المنهج الدراسي أن نُحدّد بدءا وإجمالا مراحل تطوّر الحركة العقلية عند العرب قبل شرح النصوص الأدبية وتحليلها مستأنسين بما جاء في كتب أحمد أمين لأنها تفي بالحاجة.
لكنني فوجئت يوما بأحد التلاميذ يقول: “لقد عرّفتَ الجاهلية بأنها مرحلة ما قبل ظهور الإسلام وهذا غير صحيح، فالجاهلية هي كلُّ حكمٍ لا يعمل بما أنزل الله”. فأجبته بأنّ ما يقوله يخرج عن نطاق الدرس لأنه ضرب من التوصيف الإيديولوجي بينما نحن بصدد مقاربة تاريخية بغاية وضع النصوص في سياقها، وأنه بصرف النّظر عن التّاريخ والإيديولوجيا لا يمكن أخلاقيا تقديم الرأي المخالف بنفي الغير ونسبته إلى الجهل، وطلبت منه أن يغادر الدّرس إذا كان يعتقد حقّا أنّ ما أقوله غير صحيح، فما كان منه الاّ أن غادر القاعة، ولا أذكر أنني رأيته بعدها كثيرا إلى أن وقعت حادثة المولوتوف، فلاذ بالفرار إلى وجهة غير معلومة واختفى عن الأنظار إلى الأبد.
كانت تلك أول مواجهة مع جيل آخر من المنتسبين إلى الحركة الإسلامية، جيل التلاميذ، فطيلة أعوام الجامعة كانت القوى متكافئة نسبيا في ساحات الكلية وأروقتها، وكان العنف الثوري قاسما مشتركا بين كل الفصائل، سواء أرفعت صور تشي غيفارا أم ردّدت أناشيد الإخوان، فقد وحّدتهم المواجهةُ الحاسمة مع السّلطة وآلة القمع الجهنمية، وكان للإسلاميين دور مهم طيلة سنة 1987 في تحريك الشارع والخروج بالمظاهرات من بين أسوار الكليات من أجل كسر الحصار المفروض على الحرم الجامعي ونقل مظاهر الاحتجاج إلى العاصمة ومحيطها الشعبي، وقد كانوا هم الأقدر على ذلك بفضل امتدادهم التنظيمي في المجتمع وتغلغلهم في أبعد خلاياه خلافا لبقية التنظيمات.
مضت على تلك الأيام سنوات قليلة تغيّر فيها الوضع من حال إلى حال، شهدت البلاد انفراجا نسبيا بعد رحيل بورقيبة إلى منفاه، فخرج قادة الاتجاه الإسلامي من السّجون ليوقّعوا على ميثاق وطني يتعهّد فيه الجميع بإدارة الاختلاف بعيدا عن منطق العنف والإقصاء، وغيّر الاتّجاه الإسلامي اسمه استعدادا للمشاركة في الحياة السياسية بعد أن أعلن زعيمه التاريخي راشد الغنوشي ثقته في الله أولا وفي بن علي ثانيا، ثم سرعان ما أطلّ غول العنف من جديد بعد أن تعطّلت الزيجة السّعيدة بين الرجلين، وعادت زجاجات المولوتوف الحارقة إلى الشارع تستهدف مقرّات الحكومة والتّجمع إلى أن وقعت حادثة باب سويقة الشهيرة. عاشت البلاد آنذاك حالة من الانفلات الأمني تحوّلت معها شُعبُ التّجمع إلى لجان يقظة تؤمن دوريات ليلية ونهارية في الأحياء والشوارع وترفع تقاريرها إلى من يهمّه الأمر، وكانت تلك هي اللبنة الأولى في صرح الدولة البوليسية التي ستحكم عشرين عاما بقبضة من حديد.
يصعب علينا اليوم أن نُصدّق أن كل ذلك محض افتراء وأن كل ذلك العنف كان مفبركا لتشويه الإسلاميين فليس من سمع كمن رأى. كنا يومها في قاعة الأساتذة، في الاستراحة الصباحية الأولى التي تتوزع دقائقها بين دخان السجائر وأنفاس القهوة السوداء وبياض الطبشور والثرثرة، عندما هجم تلميذان من أكثر تلاميذنا انضباطا على القاعة بزجاجات حارقة كانا يخفيانها في مكان ما في السّاحة استعدادا للّحظة الصّفر. انفجاراتٌ قويّةٌ وسقوطُ جدارٍ فذعرٌ واختناقٌ وإغماءٌ وتدافعٌ إلى النافذة الوحيدة المفتوحة على كلّ الاحتمالات للإفلات من الجحيم، لم نكن مهيئين لهذه التجربة، فهذا لا يحدث الا للآخرين، ولم نكن ندرك في تلك اللحظات المرتبكة التي واجهنا فيها الرّعب بكل تفاصيله أن بعض تلاميذنا قد استهدفونا بعمل إرهابي. كلّ ما عرفناه لاحقا أن الخليّة النّائمة التي قامت بالعملية ألقي القبض على بعض عناصرها فيما تمكن آخرون من مغادرة البلاد، بل وقيل إن قائدها ذاك الذي خرج من درس العربية احتجاجا على التعريف الاصطلاحي لكلمة “الجاهلية” أصبح أميرا للجماعة في دولة أوروبية، ولم نكن نميّز الحقيقة من البهتان فيما يصلنا من أخبار “سنوات الجمر”، لكنّ الثّابت في كلّ هذا أن شبّانا في عمُر غضّ يانع قد غُسِلت أدمغتُهم جيّدا وأصبحوا آلاتٍ يُتحكم فيها عن بُعد للقيام بأكثر الأعمال شراسةً رغم الهدوء والانضباط والتربية والأخلاق والوجه الضّحوك.
لقد تذكّرت كل هذا وأنا أستمع إلى القيادي النهضوي “سمير ديلو” يرغي ويزبد في إذاعة موزاييك ردّا على نائبة النداء “هالة عمران” التي طلبتْ منه ألا يكون خصما وحكما في الآن ذاته وأن يتريّث حتى تبُتَّ هيئةُ الحقيقة والكرامة فيما إذا كان “محرز بودقّة” المتّهمُ بتنفيذ انفجارات سوسة والمنستير صائفة 87 بريئا، فأجابها موازيا بين الضّحية والجلاّد في قوله: هل يتعيّن أيضا نزعُ صفة الشّهيد عن “شكري بلعيد” إلى أن تحكم المحكمة في قضيته (هكذا!)، ديلو أصرّ على استخدام لفظ “المرحوم الشهيد” في حديثه عمّن يعتبره التونسيون إرهابيا –إلى أن يأتي ما يخالف ذلك – مستخدما استراتيجية “هذا غير صحيح”، لاعتبار العملية منسوبة زورا إلى الاتجاه الإسلامي رغم أن ضلوعه في هذا الأمر محسوم.
واضح إذن أن حركة النهضة رغم إعلانها التحوّل التاريخي إلى حزب سياسي مدني غير قادرة على التخلّص من جلبابها الإخواني، ويستعصي عليها مواجهة الماضي بشجاعة الرّجال من أجل الحاضر والمستقبل، فهي تستغلّ حالة الغيبوبة الجماعية والتصحّر المعرفي السّائدة للإمعان في قلب الحقائق وتسويق نظرتها هي إلى التّاريخ، أحرى بالنهضة في هذه المناسبة أن تعتذر لضحاياها من داخل منظومتها الفكرية أولا، أولئك الشبان الذين زجّت بهم في أتون “الجهاد” فرفعوا السّلاح في وجه المجتمع وهم جزء منه، أولئك الذين بَرمجت أمخاخَهم للعصيان فصاروا وقودا في معركة كان من السّهل اجتنابُها، أولئك الذين ابتلعتهم غياهب السّجون والبطالة والفقر دفاعا عن فكرة “تطبيق الشريعة” التي رأت الحركة اليوم وهي تتشعبط في جدار السلطة أنها لم تعد مناسبة للوضع الجديد، بكلّ بساطة كان أحرى بالنهضة أن تعتذر من “محرز بودقّة” بدل أن تزجّ باسمه في معركة أخرى لا طائل من ورائها وتمعنَ في الهروب إلى الأمام.
الاتجاه الظلامي في أفكار يمينة الزغلامي
تحولت قضية مضيفة الخطوط التونسية والحجاب إلى قضية رأي عام بعد أن تصدّت النائبة عن حركة النهضة بمجلس نواب الشعب يمينة الزغلامي للدفاع عن المضيفة ضد قوانين المؤسسة التي تشغلها. ويمكن إجمال آراء النائبة المحترمة في ثلاث نقاط: أولها ضرورة أن تتناسب الأنظمة الداخلية للمؤسسات مع ما جاء في الدستور، ثانيا تنزيل القضية في إطار حرصها والمجلس على الحقوق والحريات، وثالثا التزامها بأن يتبنى نواب المجلس قضية أي مواطن يلجأ إليه أيا كان انتماؤه السياسي وتنطوي هذه النقاط الثلاث على مغالطات استماتت النائبة في تغطيتها بالانفعال والصراخ والإيحاء بأن السعي حثيث إلى إعادة المنشور 108 الذي استخدم سابقا لمنع الزي الطائفي.
المغالطة الأولى تكمن في سحب مبدأ حرية الملبس الواردة في الدستور على الأنظمة الداخلية للمؤسسات، إذ تمثل هذه الأنظمة عقودا بين المؤسسة وموظفيها، والعقد شريعة المتعاقدين بما يجعل السياق مختلفا كليا عن أي تدخل سياسي أو إيديولوجي باسم السلطة، وما ينزع عن الأمر أي مظهر تعسفي هو البُعد الوظيفي للملبس، فالمظهر هنا هو أداة عمل مضيفة الطيران الأولى ولكل شركة طيران صورة خاصة تحرص عليها. وتتعلق المغالطة الثانية باعتبار النائبة أن القضية قضية حقوق وحريات وأن تدخلها للدفاع عن المضيفة إنما هو بسبب الخوف من التراجع عن المكاسب التي تحققت بفضل الدستور، إذ ليس يعرف لهذه النائبة ومن هم في صفها بمجلس نواب الشعب والمجلس التأسيسي مواقف تذكر في سياق الدفاع عن الحريات، بل إن كل فصول الدستور التي تدخل ضمن هذا الباب ما كانت لتنجو من مماحكات النهضة ودعواتها إلى فرض استثناءات بداعي تناسب حقوق الانسان الكونية مع الشريعة الإسلامية، كما لا يعرف للإخوان المسلمين في أي بلد يستفحلون به نضالٌ من أجل الديمقراطية والحرية إلا أن يكون مطيتهم في التمكين، من ثمة فإن الحرية التي يدافع عنها هؤلاء هي حريتهم هم في السيطرة على المجتمع وفرض الوصاية عليه. أما المغالطة الثالثة فتكمن في التزام النائبة بتبني قضية أي مواطن مهما كان انتماؤه السياسي فهي تستولي هنا بكل وضوح على جميع السلطات وتشلُّ أيدي الإدارة والقضاء وسائر المنظمات الموكول لها الدفاعُ عن حقوق العمال، وليس ذلك من مشمولات المجلس المختص في التشريع أساسا، أما الاستقواء بالمجلس ونوابه من قبل الموظف في قضية إدارية بحت فيدخل ضمن توجيه الرأي العام وإغراقه في قضايا وهمية يؤججها الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي بينما لم تمرّ بمراحل التظلّم الأولى بعد عبر الإدارة والنقابة والقضاء، وما مرورها بهذا الشكل المفاجئ من قمرة القيادة في الطائرة إلى أحضان يمين الزغلامي في المجلس الا مبعث للريبة ولا شك!.
يبقى السؤال في النهاية، هل يتعلق الأمر بموقف فردي من النائبة يُفسّرُ بغلبة الطبع على التطبع، أم هو شغل سياسي متقن من جناح صارم داخل النهضة في وقت انشغل فيه الجميع بمواقف شيخ الحركة وتنازلاته الرشيقة حتى إذا ما تعلق الأمر بسؤال صحفي ماكر عن حقوق المثليين في بلد مسلم!