سعادته السيد الوزير

عيون المعاصرة 2011

عندما يتزامن الأثر و ثورة حدثت في نطاقه الجغرافي تَعِدُ بإحداث تغييرات عميقة في مختلف البُنى قد نسترجع الحاجة إلى المناهج السياقية في النقد الأدبي كالمنهج التاريخي والنفسي والاجتماعي، تلك المناهج التي خفت بريقها لفائدة مناهج نصانية تفضل الانشغال بالنصّ ذاته معزولا عمّا يقع خارجه، من هذا المنظور يبدو أن رواية حسين الوادي “سعادته…السيد الوزير” الصادرة مؤخرا ضمن سلسلة عيون المعاصرة عن دار الجنوب للنشر قد تأخرت قليلا عن موعدها، فلو قرأها الناس سنة واحدة فقط قبل الآن لتغيّر الأمر كثيرا…!.

قدّم الكاتب في هذه الرواية “بورتريه” لوزير في نظام فاسد، جيء بهذا الوزير من عالم التربية والتعليم (حيث كاد المعلم أن يكون رسولا…) لا لكفاءة يتحلّى بها أو لتخصّص نادر يمتاز به وإنما ليؤدّي دورا ما كان لغيره أن يؤدّيه لو كان أكثر فطنة وانتباها، أصبح هذا المعلّم وزيرا ليدفع لاحقا ثمن كل الأخطاء التي ارتكبتها المنظومة بتوقيعه الشخصي وبمبادرة منه هو إذ كان يعتقد بسذاجةِ من لا يفقه في أصول السياسة المافيوزية الشيء الكثير أنه في سبيله إلى إصلاح الأوضاع الاقتصادية بإعفاء الدولة من أعباء إدارة وسائل الإنتاج الخاسرة (رزق الباي ليك) بينما كان من وجهة نظر أخرى يفرّط في الملك العمومي بسهولة متناهية لفائدة بعض الجهات المتنفّذة في جهاز السلطة مثيرا أطماع كلّ القروش التي تستدرجها دائما رائحة الدم.

وتقدّم الرواية نفسها بوصفها ملفا يتضمن اعترافات السيد الوزير أمام حاكم التحقيق ومحاولته تبرئةَ ساحته من ذنوب سيكتشفها القارئ تباعا ولكنه منذ الوهلة الأولى يتوقّع حدوث أشياء غريبة تنتمي إلى الكوميديا السوداء أكثر من تعبيرها عن واقع حقيقي كائن، انطلاقا من  المفارقة السريالية التي ينفتح بها النص: أن تنتج عن قرابة الراوي الدموية بابن خالته قرابة وظيفية بين وزير أول يشرف على تنفيذ مخططات “سيادته..” في الحكم ووزير مبتدئ لا يفقه شيئا، وتتطوّر الأحداث في الرواية من خلال وصف سيرذاتي مفصل لما حتّمه على الوزير ضعفُه أمام غوايةِ السلطة وتماديه في الوزارة على ما فيها من إكراهات تجعله فاعلا من درجة ثانية إذا ما قورن بمن هم نافذون ولكن من خارج جهاز السلطة التنفيذية ومؤثرون أكثر، يبدو ذلك بوضوح في صورة الوزير الكاريكاتورية وهو يمارس رياضة الجري في موكب لأحد الوجهاء مكتظٍّ بالمتزلفين والوصوليـين أو يتقرّب في ملعب القولف من وجيه آخر.

وراء صورة الوزير تقدّم الروايةُ صورة نظام سياسي تتداخل فيه المصلحة العامة والربح الشخصي ويصبح هذا النظام في ظلّ الديمومة التي تمنحه إياها الدكتاتورية وانعدام فرص التداول السلمي على السلطة ماكينة هائلة من الجائز تعريفها -الآن وهنا- بأنها “منظومة للفساد والاستبداد” ليس الوزيرُ فيها إلا قطعةَ غيار يمكن استبدالها بسرعة ومن خلال خبر وجيز في إحدى النشرات اليومية…

يتزاوج في النص إذن (كما في الواقع) عالما الصلاح والفساد انعكاسا لثنائية الفضيلة والرذيلة التي تتنازع الانسان منذ بدء الخليقة، يتقدّم العالم الأول بوصفه الجزء الظاهر من جبل الجليد: ما يسوّقه أهل الصحافة والإعلام عن السّاسة من أنهم خيّرون يعملون للصالح العام ويبذلون قصارى الجهد في خدمة شعب من الفقراء والمساكين المحتاجين، بينما يتوارى الجزء الخفي وراء تلك الصورة المثالية ويمارس حضوره البشع في كل ما تقوم به هذه المنظومة التي هي “الدولة” في المخيال الشعبي، أي “الحاكم” كما يفهمه “المواطن”.

بأسلوب ساخر صنع حسين الوادي في هذه الرواية عالما يشبهنا كثيرا، ولكن الفانتازيا الروائية بما فيها من تلاعب بالمصائر والأدوار والحيوات، لم تتفـوّق على ما كشفته الثورة الشعبية في تونس من فظاعات النظام السابق في الفساد والرشوة والتفريط في الثروات الوطنية، لقد استوحى الكاتب بخيال الروائي الحاذق من واقع دولة بن علي واقعا رمزيا يعبّر عنه ملتقطا أصداء من الحياة العامّة طيلة عقدين من عمر هذه الدولة بدءا من صورة “سيادته…” الذي يكتفي كل مسؤول يريد أن يبرّر انعدام قدرته على الفعل بالإشارة إليها بطرف الإصبع كما لو كانت تحرس الضمائر وتصغي إلى ما يجول في الدواخل، وصولا إلى المستشارين والوزراء والوصوليين والمدراء ورؤساء الدواوين والكاتبات الحسناوات والوجهاء الحاكمين في الظلّ.

وأنت تقرأ هذه الرواية قد تطابق في خيالك بين شخصياتها ووزراء تعرفهم في دولة بن علي المنهارة على رؤوس أصحابها بعد 14 جانفي2011، ولكنك تأسف كثيرا لأن هذه الرواية صدرت بعد الثورة لا قبلها بما أتاح لشكري المبخوت أن يعنون تقديمه لها بعبارة:”ديقاج يا عصابة السّراق، ديقاج يا خماج” دون أن يخشى شيئا. ولو صدرت هذه الرواية زمن القهر والاستبداد لكانت شهادة مدوية على يقظة ضمير المثقف والمبدع تستفزّ إرادة الشعب المقهور وتحرّكه في اتّجاه الثورة، أمّا أن تصدر بعد سقوط دولة الفساد (أو هكذا قيل لنا) فإن قيمتها التاريخية ستتضاءل كثيرا أمام اندفاع الناس العُـزَّل في أعماق البلاد بينما كان كثير من المثقفين متردّدين في تصديق ما حصل عشية هروب الرئيس السابق وتركه البلاد سفينة تتـقاذفها رياح شتى…