شارع قرطاج

شارع قرطاج

في حركة تبدو متسرعة للغاية أقدمت جهة ما داخل جهاز السلطة العمومية المؤقتة على تبني قرار يقضي بفتح فضاء الشركة التونسية للتوزيع الكائن بين شارع قرطاج ونهج اليونان لفائدة التجار المتجولين الذين زحفوا على العاصمة التونسية خلال حالة الانفلات الأمني وتوقف أجهزة الرقابة بعد الثورة، وهو قرار تعامل مع مسألة الانتصاب التجاري العشوائي باعتبارها أمرا لا مفر منه ولا قدرة للدولة على التصدي له بحزم وقوة لفائدة أولويات أخرى غير التشغيل ومن أبرزها أمن المدينة وجمالها وحماية مصالح الناس من التجارة الموازية والبضائع الصينية المهربة ولم لا احترام الذاكرة الثقافية الخصبة التي ماتزال ماثلة بحرارة في محيط هذا المقر والأنهج المتاخمة له شمالا وجنوبا.

يشق شارع قرطاج وسط العاصمة التونسية متفرعا عن شريانها الرئيس “شارع الشوارع” المسمى باسم الزعيم التاريخي لحركة النضال الوطني الحبيب بورقيبة، يبدأ من هناك لينتهي خارج المدينة من ناحية الجنوب حيث تجمعت حول هضبة سيدي بلحسن بيوت الوافدين الجدد على مصانع المدينة مع نهاية الكابوس الاشتراكي وبداية تشكل أحلام الوظيفة في مخيلة شباب تلك المرحلة، لقد أخذت ملامحُ العاصمة تتبدل شيئا فشيئا مع قدوم هؤلاء النازحين ومغادرة البلْدية إلى الضواحي وضمور الجاليات الأوروبية وهجرة اليهود، وسرعان ما أصبحت التجمعات القصديرية التي تطوّق جنوب المدينة وتحرس مشارفها عبئا على المشروع الحداثي برمته وانـتبه المثقفون منذ وقت مبكر إلى التناقض الحاد بين قيم المدينة وسلوك سكانها الجدد من الوافدين ومن أبناء الطبقة البورجوازية الجديدة الصاعدة، يكفي في هذا الصدد إعادة قراءة مجموعة البشير خريف القصصية “مشموم الفلّ” للتأكّد من أن عائلة “الترّ والفرّ” التي يصطاف أفرادها رغم الداء والأعداء فيشقون العاصمة في اتجاه شواطئ الضاحية على متن كريطة لم تـكن خيالا فنيا محضا وإنما تشوفا لمآل بدا في وقته سرياليا ولكنه سيضحي واقعا اجتماعيا حقيقيا بعد عشرات السنين.

imagesكان شارع قرطاج خلال سبعينات القرن الماضي شاهدا على أهمية المسألة الثقافية في سياق التحول اجتماعي فقد تحقق الانتقال من النمط الاشتراكي إلى الاقتصاد الرأسمالي في ظلّ ثوابت الحكم البورقيبي الأساسية: تحرير المرأة وتنظيم الأسرة ونشر التعليم المجاني وتطوير المشروع الثقافي والإبداعي ليعبّر بحق عن طموح المجتمع وتطلعات الفرد، وكانت الشركة التونسية للتوزيع المؤسسة العمومية المكلفة بنشر الكتاب التونسي وترويجه في الداخل والخارج تقيم في هذا الشارع على مدار العام معرضها القار، بناية فخمة واسعة بواجهة بلورية تتوسط المسافة الفاصلة بين نهج يوفسلافيا شمالا وشارع فرحات حشاد جنوبا وتطل على حانة قرطاج الشهيرة أين يلتقي ممثلو الإذاعة والتلفزيون وفرقة مدينة تونس للمسرح مع الفنانين التشكيليين رواد رواق يحيى للفنون الكائن شمال الشارع حذو البالماريوم في اتجاه الشارع الرئيسي ينضاف إليهم الطلبةُ القادمون من المطعم الجامعي الكائن بنهج حسين بوزيان مرورا بنهج بن خلدون سرّةِ المشهد وبهجتِه في أوج الصراع الطلابي واحتدام المواجهة بين اليسار التونسي ودولة بورقيبة، وتصير هذه الحانة بالذات أيام الآحاد التي تقام فيها مباريات رياضية بين النجم الرياضي الساحلي ومنافسيه من فرق العاصمة محطةً أولى للوافدين من الساحل وملتقى لهم ينظمون فيه الصفوف لاختراق المدينة في اتجاه المنزه في مشهد مهيب يتحول بعد المباراة إلى كرّ وفرّ مما يدفع المحلات التجارية والمقاهي إلى غلق أبوابها على غير المعتاد خشية جبروت الكرة وطيش عشاقها.

رواية شارع قرطاج

رواية شارع قرطاج

لقد كان إغلاق مقر الشركة التونسية للتوزيع في نهاية الثمانينات إيذانا بتصفيتها وتخلص الدولة من عبء الكتاب وأهله علامةً رمزية فارقة على تحول من نوع خاص في تعامل الدولة مع المواطن، لقد تواصل إيمانها “بالمادة الشخمة” ولكن لا على الطريقة البورقيبية التي تؤمن بالثقافة والإبداع وإنما على طريقة “اعمل لرزقك كل آلة لا تقعدنَّ بأي حالة”، الطريقة الميكيافيلية التي تتيح “تخديم المخ” وتبدع في انتهاج سياسة الهروب إلى الأمام، هذه السياسة تتجلى بوضوح في عدم مواجهة المشاكل والاكتفاء بأيسر الحلول: قبولها وتبنيها وتقنينها إذا لزم الأمر، وهكذا كانت مواجهة نظام بن علي لأزماته وعلى رأسها أزمة التشغيل التي كانت تجد متنفسا في الانتصاب العشوائي والتهريب وتعميم ثقافة الرشوة وكان النظام السياسي يؤطر كل ذلك تنفيسا وقتيا للاحتقان حتى اندلعت شرارة موته من عربة بائع متجول في وسط البلاد.

ومع انهيار النظام الديكتاتوري وعودة الروح إلى النخب التي ظلت مهمشة وخارج سياق الفعل طيلة ما يقارب العقدين يعتبر اتخاذ قرار كهذا: تمكين الباعة المتجولين من الاستقرار في قلب العاصمة داخل هذا الفضاء الرمزي للثقافة والإبداع، ضربا من ضروب المزايدة على أهمية اللحظة التاريخية واستهتارا بقيمتها الثورية، ففي الوقت الذي تتطلع فيه النخب إلى تصحيح أسلوب معالجة الأزمات وإعادة الروح إلى المدينة بوصفها عاصمة للثقافة والفن والجمال تبادرنا السلطة المؤقتة بقرار إنشاء سوق شعبي يتسع لأكثر من ألف تاجر سيكون مشابها لسوق سيدي بومنديل داخل مقر يفترض مبدئيا أن يظل مكرسا لفائدة الثقافة بأي شكل من الأشكال، وعلاوة على أن مقرا ظلّ مغلقا لأكثر من عشرين عاما لا يمكن التصرف فيه بهذه السهولة وفي ظل حالة سياسية مؤقتة لا تمتلك الشرعية اللازمة لاتخاذ قرارات مصيرية فإن الإقدام على خطوة كهذه سيجعلنا نتخوف مستقبلا من إمكانية تغيير أنشطة دار الثقافة بن خلدون أو عرض المسرح البلدي للبيع ولم لا تحويل متحف باردو إلى منتجع سياحي أو خمّارة.

إن المسألة الثقافية التي هي أساس المشروع الحداثي في مرحلة بناء الدولة هي أيضا جوهر الحالة الثورية رغم ما يعتريها راهنا من ضعف واختلال في الأداء والتعبير عن الوجود والمشاركة في صياغة المصير، ولئن كانت الثورة قد انطلقت شرارتها الأولى من عربة بائع متجول فإن مخيلة السلطة العمومية المؤقتة قادرة ولا شك على ابتكار أشكال أخرى تكرم بها هذه الفئة من المجتمع غير تمكينها من أصل تجاري في قلب العاصمة هو ملك للذاكرة قبل أن يكون حقا لأي طرف.