كمال الجندوبي

يبدو أن السيد كمال الجندوبي رئيس هيئة الانتخابات المستقلة قد تسرّع عندما صرّح لوسائل الإعلام أن الاقتراع متاح لعموم التونسيين الحاملين لبطاقة تعريف وطنية حديثة يوم 23 أكتوبر 2011 وغير مقتصر على الذين استجابوا للحملة الإشهارية واسعة النطاق وتجشموا عناء التسجيل،  فقد مرّ التونسيون مباشرة إثر هذا التصريح وكما هو متوقع إلى الصفحة الثانية من مسلسل “الشــكّ القاتل” وطرحوا الأسئلة المفترضة منطقيا: طيب وما الفرق بين الناخبين المسجلين والناخبين غير المسجلين؟، ولِمَ – إذا ما كان الأمر سيان- ألحت الهيئةُ في التسجيل ومدّدت الآجال؟، بل وما فائدة هذه الحملة المكلفة مادامت غير ضرورية أصلا؟.

هكذا إذن صبّ ربّ الدار إبريق الزيت على نيران الشكّ ومنح “المراقبــين” فرصة أخرى لنقد توجهات الهيئة وسياستها وطريقتها في معالجة الأمور بل والمضيّ قدما في سحب البساط تدريجيا من تحت أقدام المنتسبين إليها والعاملين تحت لوائها في هذا الظرف الدقيق والحسّاس، فبدأت تظهر هنا وهناك تلميحات حول الأطراف الخارجية التي قطفت ثمار هذه الحملة الإشهارية وانتفعت بأموالها ومدى علاقتها بالهيئة وخصوصا رئيسها وما إذا كانت الهيئة قد استجابت في ذلك لمقتضيات الصرف من المال العام وأتاحت كعكة الحلوى لكل من يحق له شرعا وقانونا أن يغمس ولو على سبيل التذوق طرف إصبعه الصغير فيها، وفي غياب تفسيرات مقنعة حول علاقة التسجيل بالانتخاب سيظلّ التونسيُّ البسيط غير قادر على فهم الحكمة في الإصرار على تأخير موعد الاقتراع من 24 جويلية إلى 23 أكتوبر والتمطيط في حالة اللاشرعية بذريعة عدم تحقق الشروط اللوجيستية طالما أنّ كل حامل لبطاقة تعريف وطنية مرسّم آليا في القوائم الانتخابية !.

وهكذا تبدو هيئة الانتخابات المستقلة وهي تحاول القيام بمهامها على النحو الذي يقطع الطريق أمام الذين سيزايدون لاحقا على مدى نزاهة الصناديق تستسهلُ مسألةً على غاية من الأهمية تتعلق بالحالة النفسية العامة للمواطن التونسي في هذه المرحلة الحرجة، فهو يعاني على ما يبدو من “ذُهَان” ما بعد الثورات وهو ذهان طبيعي ومعروف تاريخيا ولكنه حرج في الحالة التونسية لأن المواطن أحسّ بعد فرار رئيسه السابق بأنه كان مخدوعا ومغتصبا وغبــيا وعاجزا طيلة عقدين من الزمن وأنه كان طرفا فاعلا في “دولة الفساد” التي يجري حاليا هدم بنيانها، إذ لم يذق طعم المواطنة الحقيقي يوما وإنما قام بدور الكومبارس في فيلم سينمائي من النوع التجاري الرديء انتهى عشية 14 جانفي 2011، وهذه الحالة النفسية الهشة هي الأرضية الملائمة لبعض الأطراف السياسية غير المعنية بكراسي المجلس الوطني التأسيسي لتأجيج خوف التونسيين من الساسة الجدد الذين هجموا عليهم بعد الثورة والتشكيك في مدى قدرتهم على الاضطلاع بأعباء الانتقال الديمقراطي، فالسيد كمال الجندوبي الذي يرأس هيئة الانتخابات المستقلّة كان منذ شهور قليلة فقط لقمة سائغة لذئاب بن علي وكانت صوره تتصدّر بعض الصحف بوصفه عميلا للمخابرات الأجنبية، ومن الصعب على المواطن “الزوالي” أن يستوعب هذا التحول في طبيعة الأشياء، كما يصعب على من تربى على هذه الفكرة واعتنقها أن يتخلى عنها هكذا دفعة واحدة –خصوصا وأنها ماتزال صالحة في هذا الظرف بالذات !! – فصرت تسمع في كل مكان تبرير البعض عدم الإقبال على التسجيل في الانتخاب بعدم معرفة الأطراف الفاعلة في الساحة أو عدم الثقة فيهم دون أن يميّز بين ثقته الخاصة في الأشخاص المتحوّلين وثقته المبدئية في الأصل الديمقراطي الثابت: الوعي الانتخابي والإيمان بشرعية الصناديق، وأصبح  استفحال أزمة الثقة في كلّ شيء هدفَ الثورة المضادّة الاستراتيجي حتى يحتفظ كل طرف داخل اللعبة بموقعه الذي كان فيه ولا يغادره إلى موقع جديد، فيظلّ المـــواطن كومبارسا ويظلّ الأوصياء التقليديون على مصيره صالحين لمواصلة القيام بنفس الدور ويظلّ رئيس الهيئة عميلا مفترضا لكل مخابرات الدنيا وتظلّ الانتخابات أمرا بلا طائل في هذا البلد الذي لم تصدق صناديقه يوما منذ نصف قرن أو يزيد.

لقد كان على الهيئة أن تتـــشبث بالتسجيل شرطا أساسا للاقتراع أيا كانت النسبة النهائية لأنها ستكون مؤشرا حاسما على مدى استعداد التونسيين للاضطلاع بالمواطنة ومنطلقا صلبا تبني عليه بلادنا مستقبلها السياسي، وسيكون قياس تطوّر الوعي الانتخابي من محطة إلى أخرى أحد معايير نجاح الانتقال الديمقراطي الذي لن يحصل بين عشية وضحاها وإنما بنسق تصاعدي.

إن نسبة الاستجابة لنداء الواجب الانتخابي في هذه المرحلة بالذات تدعو إلى مراجعة الفكرة الخلابة التي بنى عليها نظام السابع من نوفمبر مجده بطريقة “خدعوها بقولهم حسناء”، أوَ لم يقل ذات صباح خريفي غامض: ” إن شعبنا بلغ من الوعي والنضج ما يسمح لكل أبنائه وفئاته بالمشاركة البناءة في تصريف شؤونه “؟، فهل كان الأمر خديعة محبوكة بمكر ودهاء أم أن الأمر لم يعد ينطبق علينا بعد ثلاثة وعشرين عاما من الغباء؟ !