نزيهة رجيبة (أم زياد)

لن نتردّد ونحن نحتفل يوم 13 أوت بعيد المرأة في توجيه الأنظار تحية واحتراما للسيدة نزيهة رجيبة أصيلة القلعة الصغرى المعروفة بكنية “أم زياد” تتويجا لما بذلته طيلة ثلاثة وعشرين عاما من المقاومة المستمرّة.

لقد أصبح عيد المرأة جديرا بالاحتفال بعد أن فرّت “السيدة الفاضلة” رفقة زوجها “الأب الحنون” يوم 14 جانفي ولحقت بهما رئيسة جمعية الأمهات منذ أيام فقط ليزول شبح السابع من نوفمبر تدريجيا عن هذه المناسبة الوطنية الهامة، فلطالما اعتقد الزعيم الحبيب بورقيبة أن مجلة الأحوال الشخصية هي أهم إنجاز قام به في حياته حتى لتكاد تغطي على حدث الاستقلال ذاته، وهو محق في ذلك قطعا إذ ما فتئ التاريخ يؤكّد أن تحرير البلاد من ربقة الاستعمار كان ثمرة جهاد وكفاح استمرا أكثر من خمسين عاما سقطت فيها أرواح الأبرياء في جنوب البلاد وشمالها، أمّا تحرير المرأة من نيّر عبودية المجتمع التقليدي الغارق في الأمية والعادات البالية في ذلك الوقت المبكر فقد كان للعامل الذاتي فيه أثر حاسم.

دقّت أم زياد أول نواقيس الخطر عندما تصدّت بشجاعة نادرة لسلوك انتهازي مقيت جعل الطبقة المثقفة والنخبة التي أفرزها العهد البورقيبي تُبارك استيلاء الجنرال زين العابدين بن علي على مقاليد الحكم صبيحة السابع من نوفمبر، لقد توفرت لها الجرأة كي تنظر إلى الرجل من الزاوية التي تحاشى الجميع النظر منها، فوزراؤه ومستشاروه وأتباعه الخلّص والطامعون في بركاته والمتشعبطون من مختلف الدرجات والرّتب كانوا يعرفون أكثر من غيرهم ضحالة مستواه التعليمي بما لا يليق بدولة راهنت منذ استقلالها على التعليم ولكنهم لم يمانعوا في تصديق حكاية طرده من المدرسة بسبب نشاطه الدستوري! ، وهم يعرفون أن يديه ملطختان بدماء العمال الذين سقطوا على الأرصفة الحزينة يوم الخميس الأسود (1978) والبسطاء الذين انتفضوا دفاعا عن حقهم في الخبز والحياة الكريمة ذات شتاء ثمانيني حافل بالمفاجآت (1984) ولم يمانعوا في نفي هذه الذكريات المؤلمة وتأجيل الاعتراف بها إلى حين حتى لا تلطّخ نقاوةَ الجنرال الملاك مبعوثِ العناية الإلهية إلى الأرض يوم 7 نوفمبر 1987 صباحا لإنقاذ الشعب التونسي الذي كانت تحاك من حوله الدسائس في قصر الرجل العجوز بينما كان هو يغطّ في نوم عميق. هؤلاء الذين عَنَـتْهُم أم زياد في مقالها “نشاز” هم الذين صنعوا من بن علي أكذوبة صدّقها الجميع تقريبا تحت وهج الانبهار بفصاحة بيان التحوّل وجاذبية أضواء الثورة الهادئة، ولم يكن توجيه الأنظار إلى الحقيقة عملا سهلا بينما كان المشهد السياسي التونسي يتشكل شيئا فشيئا على نحو جديد بدا قادرا على خلب الألباب قبل أن يكشر الرئيس الجديد عن الأنياب ويبدأ رحلة النكوص على الأعقاب، لقد استطاعت آنذاك أن تقف أمام عنفوان الأسد، فلم تخفْ سطوةَ زئيره ولا شراسةَ أنيابه ولا حدّةَ نظراته النارية، ولم ترهبِ الذئابَ التي ظلّت تحيط به إلى آخر رمق من عهده السعيد قبل أن يفرّ ويتركها في حالة يرثى لها من الخوف والفزع والانهيار، وعلى مدى ثلاثة وعشرين عاما ظلّت أم زياد تدفع بالتقسيط المملّ ثمن المشروع الباهظ، مشروع الرفض والعصيان والتمرّد، الثمن الذي تقاسمته مع رجال ونساء من معترك الحياة السياسية قاوموا نظام بن علي بشراسة فكرية تضاهي شراسته البوليسية، ونغصوا عليه فرحة الحياة التي كان يُـغرِق في إنائها العسلي جموع التونسيين والتونسيات، فكانوا معا عرضة لشتى صنوف التعذيب والملاحقة والتجريح والامتهان من قبل البوليس السياسي وبيادق النظام.

مشروع الرفض هذا الذي خطّت بيانَـه الرّمزي الأول السيدة أم زياد ولم تَحِـدْ عنه قيد أنملة هو حجر الأساس في ثورة الشعب التونسي عام 2011 بعدما تردّت البلاد في قعر هاوية بلا قرار وقصمت قشة البوعزيزي ظهر البعير فصار الذي صار، وهو رفض مبنيّ على حجج واقعية قوية كان إنكارها خيانة للحقيقة والتاريخ ومقامرة بالمستقبل ومراهنة مجنونة على المستحيل، وما هي إلا أن بدأ “النظام الجديد” يتخلّص تدريجيا من وعوده الخُـلّبية ويتنصل ممّا قطعه على نفسه من التزامات في ظلّ مباركة غير مشروطة من ذات النخبة التي تعللت بالبيان عند تحمّسها للرجل، فأثبتت الوقائع صدق ما كتبت أم زياد وبُعدَ نظرها عندما صار الشعب التونسي بأسره رهينة في أيدي حَاكِميْ قرطاج وأصبحت تونس سجنا كبيرا ومكانا صالحا فقط للأكل والشرب والنوم.

نحيّي أم زياد في عيد المرأة الأول هذا، ومن خلالها نحيّـي كلَّ النساء الصامدات في الحقول والمصانع والجبال والبيوت، وإننا إذ نحترم تعففها عن قضم نصيب من تفاحة الثورة وترفعها عن الانغماس في تحقيق أهدافها كما يفعل من هم أقلّ منها شأنا في النضال والإصرار والثبات على المبدأ، نـتمنى أن يكون لها دور ولو صغير في الحياة السياسية التونسية الراهنة حتى تضفي عليها نفحةً من “الرجولية” نفتقدها كثيرا هذه الأيام !.