عندما دعاني الصديق  جمال الزرن إلى المشاركة في مراسم العرض الأول لشريط “زرزيس” لم أمانع البتة في الانضمام إلى قافلة الإعلاميـين والضيوف الذين ستأخذهم طائرة الخطوط الداخلية من مطار تونس قرطاج الدولي إلى مطار جربة ومن ثمة عبر الحافلة السياحية إلى مدينة جرجيس حيث سيستقبل المخرج ضيوفا اختار كثيرا منهم بعناية فائقة لتنفيذ هذه الفكرة بالنجاح الذي تستحق.

الفكرةُ، أن يُعرض فيلم “زرزيس” وسط الناس الذين صنعوه ببساطتهم وعفويتهم ونقاء الأفق الذي ينظرون إليه وأن يشارك في هذه الاحتفالية السينمائية الخارجة عن السياق المعتاد رجال عايشوا سينما محمد الزرن وأحبوها منذ “الفاصلة” و “كسّار الحصى” في بدايات تجربته حال عودته من فرنسا إلى تونس نهايةَ الثمانينات وصولا إلى أفلامه الجديدة التي حقق بها نجاحات فنية وجماهيرية وحصد بها تتويجات لا يستهان بأهميتها في سياق تطور تجربة سينمائي من الجنوب وتقدم خطوته بثبات، وهي أفلام أسقطت الضوء على المدينة وعرّت جراحها، فرسمت أوجاعَ مُتسوِّليها وسكّانَ أحيائها الخلفية الفقيرة المؤلمة حيث يكمن جمال نادر لن تتفطن إليه إلا عينُ رسّام مُـلهَم (السيدة)، أو تغنت بحلم مجنون في شوارع عاصمة صنعت تاريخها الجمالي والعاطفي أكشاك بيع الورد في “شارع الشوارع” قبل أن تقضي عليها يد التغيـــير القاسية وتطرد من سمائها العصافير (الأمير).

في هذه الرحلة الحالمة التي اكتنفها ربيع الجنوب التونسي الساحر شاهدنا “زرزيس” لأول مرة في جرجيس، ثم تجولنا في شوارعها مرفـــوقــين بالناس البسطاء الذين صنعوا الفيلم، زرنا بدءا  حانوت سيمون العطار اليهودي فعاينّا إقبال العامّة من أهالي المدينة عليه وتحادثنا مع ابنته، سيمون توفي في الفترة الفاصلة بين التصوير وسنة العرض فلم يتسن له التمتّع بالهالة التي واكبت حضوره في هذا العمل فقد اعتبر البعضُ حانوتَـه “صُـرّة العالم” في جرجـيس مؤكدين أن طيبته (السينمائية) المفرطة و إيجابيته الاجتماعية والنفسية تفتح أبواب الريبة على مصراعيها، بل ويذهب البعض حدّ القول: إن التركيز لم يكن  على جرجيس كمدينة حافلة بالموروث الثقافي والاجتماعي وغيره بقدر ما هو إبراز لفكرة أن اليهود يمثلون جزءا من حياة المدينة بل هم الجزء المضيء الذي يتوفر على قدر عال من الحكمة والطيبة والرحمة والتقدير للمحيط الاجتماعي والديني…

خلال هذه الجولة الصباحية ضحك الجميع طويلا لمشاكسات الهادي الزرن المُعلّم الحكيم الذي اختزل في ذاته البسيطة المتواضعة أحلام جيل كامل ضيعتها السياسة والإيديولوجيا، وكان مدار الحديث في كل ما يتعلق بالشريط ذلك التجانس الملغز بين سينما الرواية وسينما المؤلف، بين السيرة الذاتية بما هي قراءة وثائقية تستبطن تجربة مفردة والرواية بما هي إبداع متخيل يتحلل من كل ضوابط الواقع وإن كان يقيم حوارا أليفا معه، وكان السؤال عمّا إذا كان في حضور سيمون المركزي ما يشير إلى اهتمام المخرج بفكرة التطبيع السياسي والثقافي حاضرا باستمرار رغم تبرّم محمد الزرن، وقد كان في كل الحوارات الصحفية والهامشية يردّد (يائسا أحيانا أمام النوايا المبيتة لدى البعض) أنه قد كتب جرجيس كما رآها هو وأنه ليس مطالبا بالتوثيق بقدر ما كان ملتزما بإنجاز عمل سينمائي في المطلق بما يتطلبه ذلك من اشتغال على الحلم والذاكرة والحنين مع التقيّد برسم الواقع المادّي وعدم التعدّي عليه تحت أية حجة، فسيمون اليهودي ببساطة تامّة ودون إسقاطات سياسوية هو جزء من الذاكرة المحلية الجماعية لأهل جرجيس الذين يعيش بينهم حتى الساعة يهود لم يغادروا تونس لأنهم تونسيون قبل كل شيء…

ورغم ما زرعه هذا العمل في رأسي من أفكار وما خلفه في نفسي من مشاعر لم أستطع أن أتجاوز مذّاك حالة الانبهار الأولى وتخطي مشاعر الإعجاب البريء والمجرّد من الأحكام ومحاسبة النوايا ولم أتوفّق إلى الكتابة عنه في الإبان خلافا للمعتاد، بل اكتفيت بإبداء الكثير من التحمّس لمعارضة فكرة أن يكون “زرزيس” شريطا وثائقيا مُـبديا اعتقادا جازما أن السينما في هذا العمل لم تعترف بالحدود والفواصل والأجناس لأنها مثل كل الرؤى الشعرية لا تخضع لسلطة القيد إنما تنشد الحرية في معناها المطلق، أما الآن فيمكنني التأكيد بكثير من الوثوق أن محمد الزرن قد شخّص في فيلم “زرزيس” الحالة التونسية قبيل قيام الثورة بدقائق، إن القول بأن الثورة الشعبية قد فاجأت المثقف التونسي وأربكته لأنه كان خارج سياق الرفض مستسلما للنظام السياسي الموبوء قول متسرع ومتجن ويبرّر إقصاء المثقفين والمبدعين بتعلة أنهم كانوا غير معنيــين بالثورة ، كما أن اختصار الفيلم في قياس نسبة حضور الرجل اليهودي في مجريات أحداثه والسعي في إيجاد تأويلات تتصل بسلوك المخرج في الحياة العامة يرجعنا عودا على بدء إلى خطّ الانطلاق عندما عيب على النوري بوزيد أن يجعل من شخصية اليهودي العجوز في “ريح السدّ” مجالا للحرية والطمأنينة في عالم يكتنفه الاضطهاد والاغتصاب ويطغى عليه العنف.

إن ثراء شخصيات الشريط – وهي في النموذج السينمائي الذي يتخفى وراء النزعة التوثيقية شخوص من الواقع لا من المتخيل الروائي – يعكس عمق الثقافة المحلية في مجتمع جرجيس حيث يخصب التعايش بين الثقافات والأديان الروح الجماعية ويطوّر نظرتها للحياة، ولكن هذه النماذج المحبطة في الراهن الاجتماعي تحيل على تلك المفارقة الرهيبة التي وقع في براثنها المجتمع التونسي بأسره في نهايات حكم بن علي: أن تكون فقيرا محبطا يائسا وأنت على ذلك القدر من الثراء المادي والروحي، أن تكون سجينا وأنت قادر على الحرية، وأن تكون على حافّة الموت وأنت على أرض كل ما فيها يستحق الحياة.

“زرزيس” شريط سينمائي محوره الأساس: الحرية، حرية الانسان خارج كل إكراهات الجغرافيا وتابوهات السلطة، فمدينة جرجيس يبدأ منها العالم على حدّ مقاربة ماركيز للعالمية وقراره الفذّ بأنها تبدأ من القرية، وشخصيات الفيلم كلها (سيمون والحنّانة الزنجية والرسّام المحبط وسائق التاكسي والمعلّم المتقاعد وبائع التحف) تتحرّك في مجالين يجسّدان فكرة التذبذب بين مكابدة القهر والسعي في الانعتاق هذه: الفضاء المغلق داخل البيوت البسيطة المتواضعة والفضاء الرحب في الشارع والسوق وعلى شاطئ البحر، كل الشخصيات التي جسّدت رؤية المؤلف العالمَ من منظار قريته تعاني القهر الثقافي والسياسي والاجتماعي وتطمح إلى التحرّر من ضيق الأفق، وتبدو فكرة الرحيل والهروب من بؤس الواقع إلى جنة الغرب خللا استراتيجيا في تواصل كل فرد مع واقعه هذا بدليل انتباه الغرب إلى ثرائه وما ينطوي عليه من إمكانيات خصبة للحياة، هكذا تبدو الشخصيات الأجنبية التي اختارت جرجيس لا منبهرة بمناخ استشراقي جذاب بل منجذبة إلى تجربة بكر. وكانت المراوحة بين الصمت والكلام في بناء العلاقات الانسانية داخل الفيلم مرآة عاكسة لهذا التوتر الدائم والمستمرّ بين عشق جارف للمكان وإحساس عارم بأنه قيد صارم أو ملاذ أخير حيث يدلّ كل شيء على أنه صالح للنهاية أكثر من أن يكون منطلقا جيّدا لبناء الحياة أو التفكير في تغيير العالم.

أوَ لم تكن تونس منذ أشهر قليلة فقط وقبل أن يعنّ للبوعزيزي أن يقدّم جسده النحيل قربانا صورة مكبّرة من “زرزيس” ؟