حمدي قنديل

حمدي قنديل

بقامته الفارعة وهدوئه الأخاذ، ومن وراء دخان سجائره المتواضعة ونظرته الخضراء الحادّة يحدثك حمدي قنديل، يأسرك هذا الرجل القادم من أعماق تجربته إلى المستقبل الواعد مشدودا بخيط الأمل والتفاؤل. حكايته بسيطة متواضعة بلا نتوءات أو تضاريس، حكاية طفل اكتشف العالم من بين سطور الجريدة التي كان يحملها والده إلى البيت كل مساء، ثم فكر في تغييره عندما اجتـذبته أضواء الاشتراكية وأحلامها الثورية وهو يتأمل باندهاش وذهول جاره الذي كان يلوح ويختفي ذهابا وإيابا إلى المعتقـل.

“فتنني جارنا لطفي فطين بفكرة العدالة الاجتماعية التي تنهض عليها الإيديولوجيا اليسارية ولكن أبي نبهني برفق إلى أن العدالة الاجتماعية موجودة في الإسلام، واستدرجني إلى الانخراط في جمعية الشبان المسلمين فوجدت في الدين منبعا من المنابع التي يمكن أن أستقي منها مبادئ أحدّد في ضوئها اتجاهي”، يصمت حمدي قنديل قليلا وهو يرشق نظرته في الحقول الخضراء الممتدة حتى قدمي بوقرنين والسحب التي تهاجم ذلك المساء الصيفي الرطب، يلقي سيجارته أرضا ويركب السيارة التي تقله من المنستير إلى تونس وهو يقول: أظن أنني حافظت طيلة حياتي الماضية وحتى الآن على خيط يربط بين اليسار والدين ولا أعتقد أنْ  ثمة تناقض بينهما.

في القاهرة، في الربع ساعة الأخير قبل ثورة الضباط الأحرار تطور وعيه السياسي في المنتديات الثقافية وبتأثير لا ينكره لكتابات أحمد بهاء الدين عليه، تلك التي تتحدث عن الامبريالية وتفضح أساليبها المُـضمرة في مختلف أشكال الدعم الاقتصادي لدول العالم الثالث، وهو يتذكر إلى الآن رغم مضي أكثر من نصف قرن كتابه “النقطة الرابعة تعني الحرب”.

“عندما تتخرّج تعال واشتغل معنا”، هكذا عبّر مصطفى أمين عن إعجابه بأسلوب حمدي قنديل الشاب الهادئ القادم من كفر عليم بمحافظة المنوفية والذي كان يشرف على مجلة كلية الطب ويطبعها بمطابع دار أخبار اليوم بما أتاح له الالتـقاء بمؤسسها والحصول على هذه الجملة المفتاح التي جعلته يغير مسار القطار فيتخلى عن الطب لفائدة الصحافة ويختار أن يقضي بقية حياته في بلاط صاحبة الجلالة.

يصمت حمدي قنديل قليلا ويشرد وراء إعجابه بتونس وصدى التفاف الشباب حول قلمه الرصاص، ثلاثة أيام قضاها مأخوذا بالحماس الثوري الذي ألهب قاعة المحاضرات مرارا، مستسلما لمشاعر الودّ التي غمره بها التونسيون منذ لحظة وصوله إلى المطار، في كل الحوارات التي أدلى بها خلال ملتقى الخطاب الإعلامي والخطاب السياسي تحدث حمدي قنديل عن نقاط التشابه بين تونس ومصر في أعقاب الثورتين اللتين أطاحتا بنظامين من أكثر أنظمة العصر الحديث شمولية واستهتارا بمبادئ حقوق الانسان.

“لقد كنت ناصريا وما أزال، ولكنني كنت مشاغبا أيضا وبدأت تجربة الشغب في عهد عبد الناصر على خلاف ما يعتقد كثيرون، لم أمسّ أساسيات النظام وإنما انتقدت مؤسساته لأنني كنت أرى أن تصحيح الأخطاء في صالح التجربة الناصرية لا ضدّها، ولم ألق متاعب شبيهة بالمتاعب التي لقيتها من بعد”، هكذا يتحدّث حمدي قنديل عن قصة ثباته على المبدأ، وقدرته على التمييز بين الانتماء إلى فكرة أو قضية والوقوف في وجه أخطائها، وكذا يسترجع ذكرياته مع متاعب المهنة الأولى، فبعد خمس حلقات فقط من برنامجه التلفزيوني “أقوال الصحف” طُلِب منه الركون إلى الراحة لأنه وضع خبرا متعلقا بالرئيس في نهاية البرنامج لا في بدايته، لكنه لم يستسلم بسهولة لهذا العقاب الإداري واتجه إلى رئاسة الجمهورية. يضيف محدّّثي معلقا بنبرة مميّزة: طبعا كان يمكن في ذلك الوقت أن يتجه شاب مثلي في بداية حياته المهنية إلى رئاسة الجمهورية ويتحدّث إلى كبار المسؤولين..، لقد قلت لمدير مكتب معلومات جمال عبد الناصر الذي استقبلني: هل عند الرئيس مانع في أن يوضع الخبر المتعلق به في نهاية البرنامج لا في بدايته؟ وظللت لعشر دقائق تقريبا أنتظر الجواب، ولمّا رأيت الرجل عائدا وهو مرفوق بأبناء الرئيس الذين جاؤوا بدافع الفضول لمشاهدتي بوصفي وجها من وجوه الشاشة اطمأن قلبي كثيرا، ونقل لي محدّثي عبارة لن أنساها ما حييت: “الريّس يقلّك خذ الجرائد وروح ع الأستوديو من غير ما تكلم حدّ” . وطبعا كان الرئيس جمال عبد الناصر قد أعطى الأوامر بإلغاء العقوبة وإعادتي إلى العمل فورا.

كل الذين اقتربوا من حمدي قنديل خلال إقامته القصيرة بيننا منتصف شهر جوان الماضي  لم يكونوا منقادين إلى ممارسة الفضول الغريزي الذي يدفع الأشخاص العاديين إلى الاقتراب من الأشخاص المعروفين والحملقة في وجوههم كثيرا والتأكد من  أنهم هم فعلا وليسوا سواهم، وإنما كانوا أمام وضع مختلف كثيرا يستدعي تغيير الصورة النمطية المألوفة. فالرجل الذي قدم الناس بغزارة لرؤيته ليس إلا صحفيا يمتلك فقط برنامجا ساخرا يربك السّاسة وهذا ما يلغي ذلك التصوّر الجنائزي الذي أقامه البعض لتفكـير الشباب العربي قبل عصر الثورات باعتقادهم في عدمية تفكيره وانسياقه السلبي وراء هوامش الثقافة الغربية وعزوفه عن متون النضال الفكري الحقيقي في ساحة المعرفة الانسانية، تلك كانت من أبرز دوافع حمدي قنديل للتعبير عن التفاؤل والأمل في مستقبل الوطن العربي الذي بدأ ينهض وينزع عن عينيه غشاوة الاستسلام وتلك كانت الأفكار الأخيرة التي تبادلناها والسيارة تقف بنا أمام الفندق الذي سينزل به في العاصمة سويعات قبل الرحيل مجددا إلى الإمارات العربية المتحدة.

ليس من السهل على أحدنا أن ينتقل من شاشة المعارضة إلى شاشة الموالاة ولكننا الآن منتصرون! ، انتصرنا بقوة الإرادة على الظلم فصرت أرى أحلام قلم الرصاص تتحرّك في الميدان وتهبّ على الأرض مثل ريح غضوب، وها إنني أتذرّع الآن بأعذار شتى لمداراة هذه الحيرة التي أعيش في كنفها منذ سقوط النظام باحثا عن ملامح الصورة التي سأبدو عليها عند عودتي إلى الأضواء وإطلالتي على جمهور النظارة، كيف سأبدو؟ ما الذي سأقول غير التأييد والحثّ على البناء ؟ يبتسم بأناقة فائقة وحنو جميل: أعرف أن هذه الموضوعات المؤيدة ثقيلة الظل على السامع العربي الذي تعوّد على الشغب والمبارزة ولكن ما الحيلة ؟