بإعلانها تعذر احترام قرارات المحكمة الإدارية قدمت الهيئة العليا (المستقلة) للانتخابات برهانا آخر على دقة المثل العربي القديم الذي نتداوله جيلا بعد جيل دون أن نتوقف كثيرا عند عمق معناه ومدى تطابقه مع الكثير من وقائع عصرنا: لقد أكلتُ يوم أُكل الثّورُ الأبيضُ!
والحكاية التراثية تروي قصة ثلاثة ثيران بألوان مختلفة كانت تعيش في البرية دون أن يقدر الأسد على الفتك بها. فلم ينل غايته إلا بالحيلة: استدرج الثور الأسود وأوغر صدره على رفيقه الأبيض كي يساعده على النيل منه، وكان له ذلك، إلى أن جاع ثانية وانقضّ على الأسود ذاته الذي قال حينها: أكلتُ يوم أُكل الثور الأبيض..
فالكثير من معارضي الرئيس -خاصة من الذين يعتقدون حقا أنه أنهى يوم 25 جويلية 2021 (عشرية سوداء)- أصابهم الهلع اليوم من تأويلات الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تبريرها (القانوني) عدم الأخذ بقرارات المحكمة الإدارية! والحال أن ما يسمى (مسار 25 جويلية) قد بُـني بأكمله على تأويل متعسّف للقانون الدستوري، فالفصل 80 الذي اعتمده رئيس الجمهورية يومذاك للاستحواذ على كافة السلطات، لا يسمح له بحلّ البرلمان. وكل ما قيل عن (الخطر الداهم) يومها كان في إطار (الهروب إلى الأمام) من أجل إضفاء طابع قانوني على (انقلاب) سياسي.
إن تأويلات هيئة الانتخابات وتبريراتها القانونية من أجل فرض كلمتها على المحكمة الإدارية لا تختلف في شيء عن التأويل الرئاسي الذي كان (خطيئة أصلية) صفق لها الجميع. وإن كان بإمكانك أن تجد أعذارا شتى للمواطنين الذين فرحوا ليلة 25 جويلية لرؤية دبابة تغلق باب البرلمان. فإن ارتماء كثير من السياسيين والمثقفين في أحضان (المسار) وترحيبهم دون تحفظ بذلك المشهد مثل موافقة صريحة وغير مشروطة على الخروج من الحالة الدستورية.

وكما إن الثور الأسود قد وقّع بخيانته على شهادة وفاته، وفتح شهية الأسد على مصراعيها، وأخرج المارد من قمقمه، فإن الذين لم يروا يوم 25 جويلية 2021 مدى التعسّف الرئاسي الفردي في (ليّ عنق) الدستور عليهم منطقيا ألا ينزعجوا كثيرا من قرار هيئة الانتخابات هذا، لقد سجل التاريخ للنخب التونسية مواقف مشرّفة في الذود عن دولة القانون والمؤسسات، كما سيسجل بلا شك الدور الذي لعبه جزء كبير من الطيف السياسي في خلق الحالة التي نحن عليها الآن، ومن يزرع الشوك يجن الجراح!
وعلاوة على كونهم يأكلون مع الذئب ويشتكون مع الراعي، فإن حال الكثير من المناصرين ل25جويلية المنددين اليوم بما آل إليه. يشبه حال تلك المرأة الأرستقراطية في حكاية تنسب إلى جورج برنارد شو. إذ سألها: أتنامين معي مقابل ألف جنيه؟ فأجابت بنعم، وعندما أعاد نفس الطلب لكن بمائة جنيه فقط، استاءت، وقالت له: ألا تعرف من أكون؟ فقال لها: تلك مسألة عرفناها من قبل: أنت مومس!