على مشارف بلدة الصمار الجنوبية كنا نحن الثلاثةَ تخترق بنا السيارة صمت الخلاء وقيظ بواكير الصيف الأولى، كان سي البشير رجب يلقي بصوته الوقور الدافئ من حين لآخر كلمات تحرّك ذلك الهدوء الجاثم على صدر الظهيرة ثم سرعان ما نسرح بنظرنا معا في الفراغ الشاسع الممتدّ والطريق.

لقد قررنا يومها أن نغادر الفندق السياحي ونتوغل قليلا في الجنوب في اتجاه بني قردان، والحق أن سي البشير رجب فاجأني منذ يومنا الأول معا في تطاوين بل منذ بدايات الرحلة الإذاعية الشيقة برغبته العارمة في التهام المناظر والصور ومعرفة الأسماء والتفاصيل والإنصات بعمق وانتباه إلى الآخرين، رغبة لا حدّ لها في احتضان المكان والتجاوب بعمق مع فيض المشاعر والأحاسيس التي اكتنفتنا ولذا كان البقاء في غرفة الفندق شيئا مملا بالنسبة إليه حتى في هذه القيلولة الشاقة.

والبشير رجب الإذاعي الكبير الذي تسيلُ شعبيته لعابَ كلّ محترفي الإذاعة وتحرّك غيرتهم، ما يزال يحافظ على تواضعه الجمّ وتلقائيته الصادقة رغم شهرته الواسعة وحبّ الناس الجارف له، وليس عسيرا إدراكُ السرّ في هذا النجاح الأسطوري فقد كان واضحا أن البشير رجب ينتمي إلى جيل لا يضع مساحيق على صوته الإذاعي ولا يتجمل بمناسبة الذهاب إلى الأستوديو ولا يضع قناعا فاصلا بين روحه الاجتماعية وشخصيته الإذاعية وإنما صوتُه يوم الأحد بعض منه وقطعة من تجربته وخلاصة عمره الذي قضى أكثره في شارع الحرية.

بشير رجب وبابا بلقاسم

بشير رجب وبابا بلقاسم

بينما بدأت تلوح في الأفق ملامح البلدة العائمة في الفراغ الصحرواي مشبعةً بالتفاصيل الريفية القاسية ملفوفةً في وهج القيلولة، أخرج سي البشير هاتفه النقال من جيب سترته وأجرى اتصالا هاتفيا سريعا مع “بابا بلقاسم” أحد مستمعي برنامجه الأسبوعي “ميعاد الأحد” وأحد كبار المساهمين في تنشيط فقرته الشهيرة “مع آبائنا المسنين” ، وكان واضحا من خلال ما وصلنا من هذه المكالمة أن الصدفة وحدها جعلت بابا بلقاسم العائد للتو من صلاة الجمعة يلتقط المكالمة الهاتفية بعد أن ترك هاتفه النقال في البيت، وأن القدر كان يرتب له لقاء من نوع خاص…

كان يمكن لبابا بلقاسم أن يتأخر قليلا في الرد على هذه المكالمة التي خطر فجأة ببال سي البشير أن يُجريها قبل أن تُـسرع السيارة في تجاوز بلدة الصمار…

كان يمكن لهذه المكالمة أن تظلّ معلقة على خيط الانتظار…

لو حدث ذلك لما أخذنا قليلا من الراحة في بيت بابا بلقاسم ولما كان هذا المقال الصحفي الذي أكتبه الآن وأتذكر فيه تفاصيل لقاء غير مرتب بين الإذاعة والواقع، بين الصوت وصداه، بين سي البشير وبابا بلقاسم، هناك في الصمار في أعماق الجنوب التونسي و قاع هدوئه الرتيب…

– أستأذنكم في بضع دقائق نقضيها مع بابا بلقاسم، سنرتاح قليلا ثمّ نواصل طريقنا، لن نـتأخر…

لم نكن نملك إزاء فكرة سي البشير هذه غير الموافقة فقد كان سائـقُنا مستمتعا برحلته الجنوبية إلى أقصى الحدود أو لنقل كان مستمتعا برفقة البشير رجب منذ لحظة خروجهما من العاصمة وقد شعرت بهذا عندما التحقا بي في المنستير لمواصلة الرحلة معا إلى تطاوين حيث دعتنا الإذاعة إلى تنشيط دورة تكوينية في فن إدارة الحوار الإذاعي…

وما هي إلا أن توغلت بنا السيارة في بلدة الصمار التي كانت تغفو في كنف الظهيرة ،كانت البيوت المتواضعة البيضاء رابضة في هدوء رصين والشوارع الضيقة مستقيمة في انضباط صارم، وكان المارة القليلون الذين يَجُرّون الخطى عائدين من المسجد، يتحرّكون في هذه اللوحة الزيتية الساكنة ويذلّلون المسافة بين الحلم والواقع.

لم يصدق بابا بلقاسم عينيه عندما توقفت السيارة أمام بيته ورأى ضيفه يترجل منها ويتجه إليه ليعانقه، اختلطت المشاعر بالمشاعر عندما تعانق الرجلان وانهال بابا بلقاسم لثما وتقبيلا على صديقه الذي يزوره عبر ذبذبات الأثير كل يوم أحد والذي يضبط إيقاع حياته الرتيبة على موعد إطلالته الأسبوعية تلك…

أخذنا بابا بلقاسم إلى بيته، قال: هاذاكة الحانوت، وهاذي داري بينهما بضعة أمتار، هذا صاحبي يطلّ عليّ مرة كل نصف شهر، يجيب السلعة من المهدية يبات ليلة ثم يرجع، أولادي كبرو، عرسو ومشاو على رواحهم…

كان بابا بلقاسم كما يصرّ على تسميته سي البشير رجب رجلا في حوالي الثمانين من العمر تقريبا، يحتفظ بصلابة ورثها من قساوة الحياة التي عاشها، حدَّثـنا في لحظات عن عمره الشاسع الطويل، طفق يسرد بحماس بعضا من طفولته وكيف بدأ حياته راعيا في الحقول مُختصرا ما يناهز القرن في كلمات قليلة طافحة بالرضى عن النفس والقناعة التونسية الأصيلة: ربيت أولادي وكبرتهم الحمد الله….

ثم سرعان ما ينتبه مجدّدا إلى سي البشير فيـتوقف قليلا ليتأمله ثم ينطلق بصوت متهدّج في تذكر الألغاز التي كان يقترحها على المستمعين في البرنامج ويحدّثنا عن الظروف التي ابتكرها فيها، كان يتمتّع بحافظة عجيبة وصفاء ذهن نادر ولم يكن من السهل علينا أن نغادر هذا الصدفة الجميلة دون أن نصيب شيئا من ضيافة بابا بلقاسم، لقد ألحّ في ذلك ولا فائدة في معاندته، وبينما كان يتحدّث بغزارة وسخاء عن ذكرياته مع برنامج ميعاد الأحد كان أفراد أسرته يتحرّكون في كل الاتجاهات لتنظيم غداء مرتجل للزائر المفاجئ ورفاقه…

بعد الغداء والقهوة اللذيذة وحكايات بابا بلقاسم عن برنامجه الإذاعي الذي ينتظره صبيحة كل يوم أحد والذي خصص لأجله خطي هاتف قار أحدهما في البيت والآخر في الحانوت إضافة إلى الهاتف النقال الذي لولاه لما كان هذا اللقاء، بعد استراحة قصيرة في بيت جنوبي مضياف اهتـز سكونه بمناسبة نزول الإذاعة ضيفة عليه، بعد عبارات الوداع المرتجلة كانت الطريق في انتظارنا لتخترق بنا مجدّدا فراغ الفيافي وامتداد المدى حتى الحدود الشرقية للبلاد التونسية.

عامر بوعزة والبشير رجب

عامر بوعزة والبشير رجب

وفي الساعات الأخيرة من إقامتنا بتطاوين حرصت جمعية الخير لرعاية المسنين على أن تستضيف البشير رجب في النادي النهاري الذي يلتمّ فيه شمل الآباء والأمهات لممارسة أنشطة شتى، وحول مائدة عامرة بالحلويات والمشروبات تحدّث مستمعو ميعاد الأحد إلى منشطهم المحبوب ولخّصوا في كلمات قليلة فيض الحياة العارم المعتمل في نفوسهم معربين عن رغبتهم في المشاركة في هذا البرنامج ولو بأحجية أو طرفة أو زجل شعبي آملين في أن يجد نشاط النادي صدى في البرنامج وهو ما وعدهم به سي البشير بعد أن تهاطلت عليه أرقام الهاتف من كل الجهات.

في طريق العودة الطويلة إلى العاصمة وبينما كانت زياتين صفاقس تغطي خضرة المدى متلامعة تحت ضوء الأفق الطلق،تذكرت سعادة بابا بلقاسم وروحه الجميلة وانتظار رواد نادي الخير لضيفهم ما يناهز الساعتين دون ملل أو شعور بالصدأ وأحسست أنّ هذا المقال قد أصبح في مرتبة الضرورة فمن خلاله يمكن أن نقلب النظر مجددا في هذه العلاقة العجيبة التي تجمع الإذاعيين بعشاق الراديو في زمن يتوهم فيه البعض أن لم يعد للراديو زمن يسبح فيه وتلك حكاية أخرى.