“شوف هاك البلاد الهايلة اللي المهاجرين يحبوا يستوطنوا فيها…”
كان يمكن ألا تعتبر هذه الجملة مخالفة أصلا لو نُظِر إليها في سياقها من النقاش العام يومها، فقد قالتها سنية الدهماني لمعارضة الرأي القائل بأن المهاجرين يريدون الاستقرار في تونس، وهي فكرة سخيفة وغير منطقية تقوم على (تغطية عين الشمس بالغربال)، فالمهاجرون (والعالم كله يعرف) قادمون من أعماق الصحراء بغاية العبور إلى أوروبا ولا شيء يمكن أن يغريهم بالاستقرار في بلاد يحلم شبابها بمغادرتها وينفقون في سبيل ذلك الغالي والنفيس..
كان يمكن أن تعتبر هذه الجملة زلّة لسان تدخل في باب الأخطاء المهنية، فالحديث أمام الكاميرا يفترض بعض التحفظ لفرملة الاندفاع والتلقائية، وهذا يحدث يوميا ويعالج في مؤسسات الإعلام بطرق شتى… أما وقد اعتبرت مخالفة خطيرة فقد كان يمكن أن تتحرك لها الهايكا (من تلقاء نفسها) كما كانت تفعل دائما، لكنها (وأسفاه على ما أصابها) في حالة موت سريري، ولا يعرف أحد عنها شيئا، وإكرام الميت دفنه.
سنية الدهماني

سنية الدهماني

حسنا، ما دمنا في بلد (فاضي شغل) ويعتقد الساهرون عليه أن هذه الجملة جريمة تستحق تدخل النيابة العمومية وتتجند لها مختلف أجهزة القضاء، ألم يكن ممكنا تسليط عقوبة سجنية مؤجلة التنفيذ… أم إن هذا التخفيف لا يمكن اعتماده في قضايا الرأي؟ لقد قلنا مرارا إن العدالة ينبغي أن تأخذ مجراها وإن القانون ينبغي أن يكون فوق الجميع، لكن لماذا يسلب الأفراد حريتهم في كل القضايا مهما كانت تفاهتُها؟

وأنت تشاهد القسوة وروح التشفي التي يعامل بها (سجناء الكلمة) ستنتبه حتما إلى أن وراء الأكمة ما وراءها… وأن الأمر لا يتعلق بعبارة (شوف هاك البلاد الهايلة)، فالقراءة الشعبوية لصيرورة الثورة التونسية بوصفها (انفجارا غير مسبوق) تعتبر حرية التعبير جزءا من المشكل السياسي، ويتوافق هذه الرأي مع انطباع شعبي بأن الإعلاميين الذين كانوا يتصدرون المنابر الإذاعية والتلفزيونية هم المستفيدون الوحيدون من الثورة، وأنهم قطفوا ثمارا لم يزرعوها، وأنهم بالضرورة متواطئون مع البورجوازية التي سرقت الثورة وغيرت مجراها.

وفي هذا السياق لا يمكن أن تكون معاملة السجينة بقسوة بالغة والتفنن في إهانتها تجاوزا فرديا معزولا بقدر ما يترجم عنوان المرحلة: التنكيل بالنخب، في إطار العقيدة الشعبوية السائدة (الشعب صالح والنخبة فاسدة)، أنظروا إلى اللامبالاة التي يستقبل بها (العامة) أخبار السياسيين والإعلاميين السجناء والتجاوزات التي ترتكب في حقهم، أنظروا إلى البرود الذي يتقبل به هؤلاء أخبار الانتهاكات التي تطال حقوق الانسان الأساسية وتهدد بتقويض فكرة العدالة من أساسها، انظروا إلى هذه الشماتة المرضية التي يستقبل بها كثير من (الرعية) أخبار القبض على فلان أو علان، تنتابهم نوبة فرح هستيري لمجرد سجن هذا او ذاك، أنظروا إليهم كيف يتملصون بسرعة من واجب الوقوف ضد الظلم بعبارة باردة عقيمة مفرغة من أي مدلول: (اللي عمل يخلص)…

وبعد…

الإعلاميون القابعون في السجون لا يتعاطف معهم في وسائل التواصل الاجتماعي إلا أصدقاؤهم وزملاؤهم وأقرباؤهم، ولا أحد يتساءل لماذا كل هذه القسوة والتشفي، لماذا كل هذا العنف الذي تمارسه السلطة إزاء أفراد عزل، هذه اللامبالاة الشعبية والعامة التي يمتاز بها (الشعب الصالح) هي الترجمة الدقيقة لعبارة (اخطى راسي واضرب) التي على بساطتها هي كل ما يحتاجه الاستبداد كي يحوّل شعبا كاملا إلى قطيع من الخرفان