كنت أتأهب لمغادرة المكتب في تلك الأمسية الصيفية الحارة من أماسي «عام الثورة» عندما رنّ جرس الهاتف. كان المدير على الطرف الآخر من الخط. ولأول مرة منذ توليه إدارة الإذاعة في ظروف انفلتت فيها كل الشياطين من عقالها، امتزج في صوته وهو يخاطبني الانكسارُ بالتملّق.
قال: أيعجبك ما فعله معي توفيق الخذيري؟
قلت مستفسرا: ماذا فعل؟
قال: لقد رفض الفكرة التي اقترحتها عليه!
وأنهى المكالمة بتودّد مصطنع قائلا: أرجو أن تحاول إقناعه.

توفيق الخذيري

توفيق الخذيري

اتصلت بمكتب الاستقبال وطلبت منهم إبلاغ توفيق بأني أريد لقاءه في مكتبي قبل مغادرة المحطة، وبقيت في انتظاره.
لقد شبّه أحدهم أجواء الثورة بما يحدث عندما تخرجُ زربية ثمينة من مخبئها لتنفض عنها ما تراكم من غبار. فقد كنا يومها جميعا مثل ذرات الهباء، كل ذرة تغادر مكانها لتطير في الهواء، وتتشقلب مرارا قبل أن تقع في مكان آخر. ووسط ذلك الغبار الكثيف الذي كان يتطاير ويخنق الأنفاس انهارت الحدود الفاصلة بين النبل والسفالة، بين الشهامة والوصولية، واختلطت المعادن الأصيلة النادرة بنظائرها المقلدة المزيفة. وأنا كنت شاهدا على ذلك المدير الذي كان متعاونا مع الإذاعة لسنوات طويلة وأخذ بعد الثورة يتشقلب بكل ما أوتي من انتهازية وصفاقة للوصول إلى هذه الوظيفة بدعم من أحد الوزراء الجدد. كما كنت شاهدا على توفيق الخذيري وهو يذود في كل الأوقات عن نفسه كما يدافع الأسد عن عرينه.
قبل ذلك بعشرين عاما، «وكان الزمان أقل جموحا»، كنت أتأهب لتقديم حلقة من برنامج «جاءوا إلى تونس» الذي يستضيف أدباء ومثقفين من الوطن العربي استقروا في بلادنا، وبينما كنت منشغلا بتجهيز الأشرطة والأغاني والاتصال بالضيوف أقبل الصادق بوعبان رئيس مصلحة الإنتاج ومعه شاب أسمر وسيم تبدو عليه علامات الخجل الفطري، وقال لي: هذا توفيق الخذيري، سيتابع اليوم برنامجك.
لم يكن عمري الإذاعي يتجاوز يومها السنوات الثلاث لكن حركة التغيير التي باشرتها الإذاعة كانت عاتية تشبه الريح العاصفة، تقتلع الجذور اليابسة لتترك المجال للزرع الجديد كي يتبرعم تحت ضوء شمس ساطعة. ولذلك كانت المسافات بين الوافدين الجدد للإذاعة متقاربة، وكانت الإدارة ترغب في أن يشقوا طريقهم بسرعة وبمفردهم، وأن ينحتوا لذواتهم كيانات مستقلة. وسرعان ما استطاع توفيق الخذيري، كما استطاع آخرون من دفعته ذاتها أن يكونوا لأنفسهم أسلوبا خاصا مميزا ويلفتوا منذ وقت مبكر انتباه جمهور عريض من المستمعين.
وعلى امتداد عقدين من الزمن أصبح خلالهما توفيق الخذيري أحد أبرز الأصوات الإذاعية في المجال الرياضي على نطاق وطني، فضلا عن كونه منشطا ماهرا يحسن التعامل مع الميكروفون في كل الظروف، استمرت صداقتنا ناصعة قوية ولم تتأثر كثيرا بوجودي في مواقع إدارية مختلفة أو بإشرافي المباشر في السنوات الأخيرة قبل الثورة على إعداد الشبكات الإذاعية وتوزيع البرامج على الموظفين. ولذلك تحدثنا يومها من منطلق الصداقة التي تجمعنا، ولم أكن أتبنى أفكار ذلك المدير الذي كان يرغب في أن يمحو ثلاثة وعشرين عاما من عمر الإذاعة في أيام قليلة. تلك الصداقة التي توثقت عراها مطلع التسعينات في لقاءات جميلة جمعتنا عشيات السبت بمقهى «نور الأندلس» في سوسة المكان المفضل لدى توفيق حيث يكتب مقالاته التي ينشرها في جريدة الشروق ويلتقي أصدقاءه من نجوم الرياضة خصوصا.
كانت مشكلة الإدارة دائما وأبدا مع توفيق الخذيري شدة محافظته على عاداته وعزوفه عن المغامرة والتجريب، فكما كان يواظب على الجلوس في مكان واحد لا يغيره، لم يكن يرغب كثيرا في تغيير برامجه أو تبديل مواعيدها، ويتخير وقتا محددا لإعدادها ولا يطيل البقاء كثيرا في الإذاعة، لكنه رغم ذلك استطاع أن يدرأ عن نفسه خطر الوقوع في الرتابة والملل، وكان حماسه يتجدد من يوم لآخر وهو يخاطب المستمعين كما لو كان يفعل ذلك لأول مرة. ولذلك لم تكن الإدارة تتعامل معه باعتباره موظفا ينبغي تشغيله كما هو الشأن مع كثير من عديمي الموهبة الذين انتدبوا قبل الثورة وبعدها، بل بوصفه رجل المهمات الصعبة، وأي شيء أصعب من نيل ثقة الجمهور في زمن اختلط فيه الحابل بالنابل؟
دعكم من كل ما يقال عن الحرية والاستبداد. اتركوا جانبا كل ما يحاول البعض أن يصف به اليوم وقتنا ذاك زيفا وبهتانا، فقد كان رغم كل شيء وقتا جميلا للمشاعر العفوية الصادقة. ضاعت في زحمة الأعوام تفاصيل كثيرة ولم يبق إلا القليل المبهج: فرحة عبد العزيز فتح الله بالعثور على تسجيل نادر لأم كلثوم، أو دمعة البخاري بن صالح وهو يقرأ قصيدة عن الليل والمطر، تهدج صوت رضا عزيز يتلو نصا كتبه وهو يقود السيارة قادما من الساحلين إلى مقهى الموناراس، نكتة ألقاها الشيخ منور المدني في بهو الإذاعة، أو بيتان من الشعر رواهما الحبيب الزناد وهو في انتظار موعد الأخبار. ومع كل هذا يمكنك أن تضيف انفعالات توفيق الخذيري عندما تعترضه مشكلة ما وهي تشبه لدى من يعرف الرجل عن قرب انفعالات طفل انتزعوا منه لعبته المفضلة وسيكتشف بعد وقت قصير لعبة غيرها وينساها.
أقنعت توفيق الخذيري بقبول ما اقترحه عليه مدير الصدفة ذاك، وغادرنا المكتب معا، نتحدث عن مواضيع أخرى لا صلة لها بالعمل. كان الزميل كمال الغمراسي المدير الإداري والمالي في جلسة مع المدير عندما أعلمته بأن توفيق قد قبل العرض. وخلافا لما توقعته امتقع وجهه، وصمت دقيقة، ثم قال بصوت يشبه الفحيح: هذا لا يجوز، كيف يقبل منك ويرفض مني أنا؟ أين هيبة المدير؟ وغرقنا جميعا في صمت جنائزي لزج ثقيل كنت أجرّ بصعوبة خطاي التي علقت به لألوذ بالفرار قبل أن تمتد يداي إلى رقبته وتخنقه. هاتفت توفيق معتذرا وقلت له: انس ما دار بيننا منذ قليل.
كانت تلك تقريبا آخر لقاءاتي مع توفيق الخذيري في مكتبي، فبعد استضافتي أحمد المناعي في «المقهى السياسي» وحديثه لأول مرة في الإذاعة عن علاقته بالاتجاه الإسلامي وتفاصيل النشاط السري الذي ينسب إليه في أواخر الثمانينات، اكتشفت أن المدير قد أوقف البرنامج. وباستفساره عن السبب قال لي بكل صلف: «لم أجد لك مكانا في شبكة البرامج…»، ومن حسن حظي أنني تجاوزت الإهانة التي تنطوي عليها تلك العبارة بسرعة لأفهمها بطريقة مختلفة. فقد كان يقصد في الواقع «مكانك ليس هنا»، وكان محقا في ذلك، وكم كانت سعادتي عظيمة وأنا جالس في مقعدي الوثير بصالون بيتي في الدوحة وأنا أشاهد في نشرة الثامنة للأنباء على القناة الوطنية من تبقى من أبناء الإذاعة المخلصين يطالبون الحكومة بتغيير المدير وكان توفيق الخذيري بينهم كالأسد الذي يدافع عن عرينه.
رحمه الله…