زمن كادوريم تمثّل صور الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي في حفل قران ابنته سيرين و «كادوريم» أحد أشهر مغنيي الرّاب مادة مثالية لاختبار بعض المفاهيم الأساسية التي بنى عليها «رولان بارط» تأملاته حول الفوتوغرافيا في كتابه «الغرفة المضيئة». وأبرز هذه المفاهيم «الستوديوم» الذي يدلّ على الاهتمام العام بالصورة الممزوج بالانفعال، والذي يحدث عند النظر إليها واستيعاب مكوناتها بوصفها مشهدا لحدث ما، لكن هذا المجال الواسع يحدّد إيقاعه «البونكتوم» الذي يمثل «ما ينطلق من المشهد مثل السّهم ليخترق النّاظر إلى الصورة». ولا ينطبق ذلك على كل الصّور، لذا يجوز التفريق بين صورة هامدة ملساء لا تثير الا المتعة الجمالية وأخرى حيّة تنفذ إلى ذات المشاهد.
كادوريم ، عقد قرانه على كريمة الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي
لقد اقتصرت وكالات الأنباء العالمية والمواقع الإخبارية في التعامل مع هذه الصور على «الستوديوم»، فقدّمتها للحديث عن أوّل ظهور للرئيس التونسي الأسبق منذ الإطاحة به في 2011، وأبرز صورة توثّق هذا الحدث يظهر فيها «بن علي» أمام خلفية بيضاء متوسّطا صهره الجديد وابنته الواقفين على يساره، بينما تقف إلى يمينه زوجتُه ليلى، ويبدو المشهد عاديا في سياق إنساني مجرّد، إذ يمثّل احتفالا أسريا لا يختلف في شيء عن أي احتفال مماثل، ولا يتوفّر على أيّ مكوّن آخر غير ملامح الوجوه وأشكال الملابس وألوانها. لكنه في السّياق العام يقدّم إجابات مقتضبة لأسئلة يطرحها الناس بكثير من الفضول حول حياة الرئيس الأسبق في المنفى، وكيف انتهى به الأمر بعد الخروج من السلطة، وتشكّل هذه الأسئلة دائما مادة إعلامية مثيرة لاهتمام الجمهور يختلط فيها الواقع بالخيال كثيرا. لكن لهذه الصّورة في سياقها الخاص عمق يختزن كل الانفعال الذي اعتبره «بارط» مصدر الحيوية أو النتوء الذي يفقد الصورة ملاستها، وعلى أقلّ تقدير يمكن تعريفه بما يجعل الناظر إليها يخرج عن حياده، حيث يكفّ المشهد عن كونه مجرّد حدث عائلي ليكوّن بؤرة تتكثّف فيها الدلالات. والاهتداء إلى هذا العمق تحدّده الدوافع الشخصية التي تجعل المتفرج يقف أمام هذه الصورة ويتأمّلها، فنظرتنا إلى مختلف مكوناتها تختلف باختلاف ما نبحث عنه فيها وما يمكن أن يستثير فضولنا. هكذا سيتركز اهتمام كل من كان يريد أن يعرف كيف أصبح الرئيس الأسبق بعد ثماني سنوات من عزله على أثر السنين في مظهره الخارجي، وكيف يحافظ رغم تقدمه في السن على سواد شعره الاصطناعي. وسيتركز اهتمام آخرين على الرسالة الأخلاقية التي تتضمنها الصورة، إذ تؤكد على أن العائلة الحاكمة سابقا ماتزال تحافظ رغم كل شيء على قيم الشرف والفضيلة وأن كل ما قيل عن علاقة ابنتها بمغني الرّاب هو محض تقوّل وافتراء. إن الستوديوم بهذا المعنى هو المتاح من الصورة لأكبر عدد ممكن من مشاهديها، الواضح فيها والمشترك في ما تثيره من انفعالات، وفي هذا الحقل تتجلى خصوصا رغبات المصوّر ودوافعه والأفكار التي يريد أن يقولها بشكل مباشر، فيما يعتبر البونكتوم شأنا ذاتيا محضا تحدّده ثقافة المشاهد وشخصيته والأفكار المسبقة التي يحملها عن موضوع الصورة. إنه اكتشاف شخصي لا يتفق بالضرورة مع وجهة نظر المصور ولا يمثلها. في ضوء اختبارات «بارط» الفوتوغرافية هذه لن يقتصر الأمر على مشاهدة التغيرات الفيزيولوجية البادية في ملامح الوجوه وأشكال الأجساد داخل صورة حفل القران للظفر بإجابة مقتضبة حول سؤال: كيف صار «بن علي» بعد ثماني سنوات من عزله؟ بل يتعدّى ذلك إلى الدلالة الرمزية التي يمثلها المشهد كاملا. والأمران يتطلبان استحضار صورة غائبة، فملاحظة التغيرات الشكلية تقوم على المقارنة مع صور الرئيس المعروفة وهو في عنفوان سلطته، كما إن الدلالة الرمزية التي نبحث عنها تستدعي صورة أخرى تماثلها التقطت في زواج «سيرين» الأول بصخر الماطري وهي توثق اللحظة التي التقى فيها النفوذ السياسي بالعراقة الاجتماعية. أما الصورة الراهنة فتوثق لقاء بين سلطة ذاوية يمثلها الرئيس المخلوع وسلطة صاعدة يمثلها مغني الرّاب، لكنها تقوم على اختلال التوازن شكليا وعدديا، فعائلة العروس يمثلها ثلاثة أشخاص بينما العائلة الأخرى يختزلها شخص واحد، والحال أن عقد القران هو في الثقافة العامة احتفال عائلي يخضع لشروط المجتمع ومواضعاته التي تتطلب التكافؤ في علاقات المصاهرة. كما إن ظهور العريس بمظهره العادي المألوف في وسائل الإعلام والمختلف عن الشكل الذي يظهر به العرسان عادة في المواضعات الاجتماعية يكسر إيقاع الصورة ويمنحها ذاتيتها المتفردة. أما البونكتوم الأبرز في هذه الصورة فهو قطعا حركات الأيادي، فكل يد تمسك الأخرى، وكأنما كل شخص يبحث عن سند ما ولا يستطيع الاكتفاء بذاته، بما يخلق حالة تضامن متبادلة، تضامن ليلى مع زوجها، وتضامن الطليقة مع زوجها الجديد، تضامن الأسرة مع ابنتها التي طالتها الشائعات، وتضامنها مع مغني الراب المثير للجدل، وتضامن العريس مع أسرة خُلع عنها المجد. وتعكس حركات الأيدي ثراء الصورة دلاليا، فهي أيضا قد تكون دليلا على ارتباك الجميع أمام هشاشة التوازن والحضور المتزامن لتناقضات شتى وانهيار المواضعات التقليدية. في الصورة مكوّنان متنافران ظاهريا: مُغني الرّاب والرئيس المخلوع، فالأول يستمدّ سلطته من التمرد على المؤسسة الرسمية التي ظلّ الثاني يمثلها طيلة ثلاثة وعشرين عاما. لكن الظرفية الثقافية الراهنة بمكوناتها الاجتماعية والسياسية تذوّب هذا التنافر. لقد اشتهر هذا المغني بمظهر يجعله أشبه ما يكون بزعماء الجريمة المنظمة وأباطرة المخدرات في أمريكا اللاتينية، وهوما يجعله يلتقي مجازيا مع «بن علي» الذي ترفض كل أدوات الجمهورية الثانية وعلى رأسها جهاز العدالة الانتقالية النظر إليه خارج الصورة النمطية لرئيس عصابة لم يفعل شيئا غير النهب واستباحة المحظورات. من هذا المنظور لا تناقض في الصورة البتة. كما إن «كادوريم» مدين في صعوده إلى وسائل الإعلام الخاصة التي تبذل جهدا خرافيا لتكريس ثقافته وتنصيبه نجما من نجوم المجتمع ورمزا في عيون اليافعين، وهذه القنوات التي جعلت من زواج كادوريم بسرين بن علي قضية رأي عام تمثل الامتداد الطبيعي لأسوأ ما في جمهورية بن علي: انهيار القيم واختلال الموازين الاجتماعية وتفشي ثقافة الفساد واضمحلال الحدود الفاصلة بين النبل والسفالة.
تمثّل صور الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي في حفل قران ابنته نسرين و «كادوريم» أحد أشهر مغنيي الرّاب مادة مثالية لاختبار بعض المفاهيم الأساسية التي بنى عليها «رولان بارط» تأملاته حول الفوتوغرافيا في كتابه «الغرفة المضيئة». وأبرز هذه المفاهيم «الستوديوم» الذي يدلّ على الاهتمام العام بالصورة الممزوج بالانفعال، والذي يحدث عند النظر إليها واستيعاب مكوناتها بوصفها مشهدا لحدث ما، لكن هذا المجال الواسع يحدّد إيقاعه «البونكتوم» الذي يمثل «ما ينطلق من المشهد مثل السّهم ليخترق النّاظر إلى الصورة». ولا ينطبق ذلك على كل الصّور، لذا يجوز التفريق بين صورة هامدة ملساء لا تثير الا المتعة الجمالية وأخرى حيّة تنفذ إلى ذات المشاهد.
لقد اقتصرت وكالات الأنباء العالمية والمواقع الإخبارية في التعامل مع هذه الصور على «الستوديوم»، فقدّمتها للحديث عن أوّل ظهور للرئيس التونسي الأسبق منذ الإطاحة به في 2011، وأبرز صورة توثّق هذا الحدث يظهر فيها «بن علي» أمام خلفية بيضاء متوسّطا صهره الجديد وابنته الواقفين على يساره، بينما تقف إلى يمينه زوجتُه ليلى، ويبدو المشهد عاديا في سياق إنساني مجرّد، إذ يمثّل احتفالا أسريا لا يختلف في شيء عن أي احتفال مماثل، ولا يتوفّر على أيّ مكوّن آخر غير ملامح الوجوه وأشكال الملابس وألوانها. لكنه في السّياق العام يقدّم إجابات مقتضبة لأسئلة يطرحها الناس بكثير من الفضول حول حياة الرئيس الأسبق في المنفى، وكيف انتهى به الأمر بعد الخروج من السلطة، وتشكّل هذه الأسئلة دائما مادة إعلامية مثيرة لاهتمام الجمهور يختلط فيها الواقع بالخيال كثيرا.
لكن لهذه الصّورة في سياقها الخاص عمق يختزن كل الانفعال الذي اعتبره «بارط» مصدر الحيوية أو النتوء الذي يفقد الصورة ملاستها، وعلى أقلّ تقدير يمكن تعريفه بما يجعل الناظر إليها يخرج عن حياده، حيث يكفّ المشهد عن كونه مجرّد حدث عائلي ليكوّن بؤرة تتكثّف فيها الدلالات. والاهتداء إلى هذا العمق تحدّده الدوافع الشخصية التي تجعل المتفرج يقف أمام هذه الصورة ويتأمّلها، فنظرتنا إلى مختلف مكوناتها تختلف باختلاف ما نبحث عنه فيها وما يمكن أن يستثير فضولنا. هكذا سيتركز اهتمام كل من كان يريد أن يعرف كيف أصبح الرئيس الأسبق بعد ثماني سنوات من عزله على أثر السنين في مظهره الخارجي، وكيف يحافظ رغم تقدمه في السن على سواد شعره الاصطناعي. وسيتركز اهتمام آخرين على الرسالة الأخلاقية التي تتضمنها الصورة، إذ تؤكد على أن العائلة الحاكمة سابقا ماتزال تحافظ رغم كل شيء على قيم الشرف والفضيلة وأن كل ما قيل عن علاقة ابنتها بمغني الرّاب هو محض تقوّل وافتراء.
إن الستوديوم بهذا المعنى هو المتاح من الصورة لأكبر عدد ممكن من مشاهديها، الواضح فيها والمشترك في ما تثيره من انفعالات، وفي هذا الحقل تتجلى خصوصا رغبات المصوّر ودوافعه والأفكار التي يريد أن يقولها بشكل مباشر، فيما يعتبر البونكتوم شأنا ذاتيا محضا تحدّده ثقافة المشاهد وشخصيته والأفكار المسبقة التي يحملها عن موضوع الصورة. إنه اكتشاف شخصي لا يتفق بالضرورة مع وجهة نظر المصور ولا يمثلها.
زواج سيرين بن علي بصخر الماطري
في ضوء اختبارات «بارط» الفوتوغرافية هذه لن يقتصر الأمر على مشاهدة التغيرات الفيزيولوجية البادية في ملامح الوجوه وأشكال الأجساد داخل صورة حفل القران للظفر بإجابة مقتضبة حول سؤال: كيف صار «بن علي» بعد ثماني سنوات من عزله؟ بل يتعدّى ذلك إلى الدلالة الرمزية التي يمثلها المشهد كاملا. والأمران يتطلبان استحضار صورة غائبة، فملاحظة التغيرات الشكلية تقوم على المقارنة مع صور الرئيس المعروفة وهو في عنفوان سلطته، كما إن الدلالة الرمزية التي نبحث عنها تستدعي صورة أخرى تماثلها التقطت في زواج «نسرين» الأول بصخر الماطري وهي توثق اللحظة التي التقى فيها النفوذ السياسي بالعراقة الاجتماعية. أما الصورة الراهنة فتوثق لقاء بين سلطة ذاوية يمثلها الرئيس المخلوع وسلطة صاعدة يمثلها مغني الرّاب، لكنها تقوم على اختلال التوازن شكليا وعدديا، فعائلة العروس يمثلها ثلاثة أشخاص بينما العائلة الأخرى يختزلها شخص واحد، والحال أن عقد القران هو في الثقافة العامة احتفال عائلي يخضع لشروط المجتمع ومواضعاته التي تتطلب التكافؤ في علاقات المصاهرة. كما إن ظهور العريس بمظهره العادي المألوف في وسائل الإعلام والمختلف عن الشكل الذي يظهر به العرسان عادة في المواضعات الاجتماعية يكسر إيقاع الصورة ويمنحها ذاتيتها المتفردة.
أما البونكتوم الأبرز في هذه الصورة فهو قطعا حركات الأيادي، فكل يد تمسك الأخرى، وكأنما كل شخص يبحث عن سند ما ولا يستطيع الاكتفاء بذاته، بما يخلق حالة تضامن متبادلة، تضامن ليلى مع زوجها، وتضامن الطليقة مع زوجها الجديد، تضامن الأسرة مع ابنتها التي طالتها الشائعات، وتضامنها مع مغني الراب المثير للجدل، وتضامن العريس مع أسرة خُلع عنها المجد. وتعكس حركات الأيدي ثراء الصورة دلاليا، فهي أيضا قد تكون دليلا على ارتباك الجميع أمام هشاشة التوازن والحضور المتزامن لتناقضات شتى وانهيار المواضعات التقليدية.
في الصورة مكوّنان متنافران ظاهريا: مُغني الرّاب والرئيس المخلوع، فالأول يستمدّ سلطته من التمرد على المؤسسة الرسمية التي ظلّ الثاني يمثلها طيلة ثلاثة وعشرين عاما. لكن الظرفية الثقافية الراهنة بمكوناتها الاجتماعية والسياسية تذوّب هذا التنافر. لقد اشتهر هذا المغني بمظهر يجعله أشبه ما يكون بزعماء الجريمة المنظمة وأباطرة المخدرات في أمريكا اللاتينية، وهوما يجعله يلتقي مجازيا مع «بن علي» الذي ترفض كل أدوات الجمهورية الثانية وعلى رأسها جهاز العدالة الانتقالية النظر إليه خارج الصورة النمطية لرئيس عصابة لم يفعل شيئا غير النهب واستباحة المحظورات. من هذا المنظور لا تناقض في الصورة البتة. كما إن «كادوريم» مدين في صعوده إلى وسائل الإعلام الخاصة التي تبذل جهدا خرافيا لتكريس ثقافته وتنصيبه نجما من نجوم المجتمع ورمزا في عيون اليافعين، وهذه القنوات التي جعلت من زواج كادوريم بنسرين بن علي قضية رأي عام تمثل الامتداد الطبيعي لأسوأ ما في جمهورية بن علي: انهيار القيم واختلال الموازين الاجتماعية وتفشي ثقافة الفساد واضمحلال الحدود الفاصلة بين النبل والسفالة.