محمود درويش

محمود درويش

فاجأنا المتنبي برحيله ثانيةً، ترجّل فارسُ الشعر العربي عن صهوة حصانه الذي كان مصنوعا من الريح ليتوارى في البياض.

 في مشهد تراجيدي قاسٍ على الضّمير العربي عاد الشاعرُ ملفوفا في العلم الفلسطيني ليُوارَى الترابَ هناك غير بعيدٍ عن القدس في المقاطعةِ حيث ينام ياسر عرفات والشهداءُ الذين ينتظرون قيامةَ العودة.

عاشقٌ من فلسطين يقف الآن مع المنتظرين في المعابر الـهُلامية الكائنة في التقاطع ما بين ذاكرتين: ذاكرةِ الأرض وذاكرةِ الشعر، محمود درويش العلامةُ والرمز سنديانةٌ خضراءُ في صحراء الوجدان العربي القاتمة حيث تعوي الرياحُ وتتبدّد النبوءات.

جرّب الموت مرتين، فارتفع من فوق سريره في خفة الكائن التي لا تُحتمل، ورأى في غرفة العمليات جسدَه المشدودَ إلى سقف الرغبة الأولى لكنه عاد هذه المرّة إلى الموت كمن يفي بوعد سابق، كأنَّ موته لم يكن فرضيةً قائمةً أو احتمالا ممكنا فنحن لم نستعدّ كما ينبغي للفطام ولتجربة اليُـتْم اللغوي، لم نتهيّأ للغياب والفراغ والحنين، فقد كان محمود درويش حتى اللحظة الأخيرة المرادف اللغوي لفلسطين والورقة الأكثر أهمية في معادلة التوازن الاستراتيجي بين الخسارات الكثيرة والربح القليل.

على امتداد ستين عاما من الهجرة والحب والحرب والبحر والذكريات كانت كل زيتونة من أرض كنعان القديمة تمدّ جذورها في كتاب الشعر العربي فتُلقي ظلالها الحزينة في قلب كل منفيّ، وكان الشاعر يصطاد اللحظة من سياقها العابر ليراكم في منفاه الروحي صُوَرا من فلسطين.

محمود درويش، العصيّ على الغياب، علّمنا أن الشعر ممكنٌ في زمن المستحيل وأن بَـهاء البلاغة قد صار ضرورة لتقوى جدرانُ البيت المهدّم على الانتظار، ولذا فنحن ندرك اليوم أن موته كان حاضرا بقوّة فيه وأن حضوره البهيّ الشجيّ في قلب كل مواطن عربي إنما قد كان على مدى أعوامنا الماضية حبل المشيمة اللغوي الذي يشدّنا إلى الجمال.

الحب الأسطوري الذي صنعته فلسطين من حولنا كان يعبّر عنه محمود درويش بالشفافة ذاتها تلك التي تمنح اللغة قدرتها على مخاتلة الزمن، لكنّ محمود درويش كانَ أكثر سخاء منّا وقد منحنا شعرا ووردا وفراشات وتفاصيل صغيرة تكفي لجعلنا نصغي برهافة أكثر إلى دفق الحياة وإيقاعها.

.

—————————-
النص النثري من كتاب نظرية الموز (دار البدوي للنشر تونس2016) وهو في الأصل مقدمة العدد الخاص من برنامج سفر على سفر الذي قدّمته في وفاة الشاعر سنة 2008