عامر بوعزة مع المنصف المرزوقي والطاهر هميلة بمناسبة حلقة من المقهى السياسي يوم 19 جوان 2011

مع المنصف المرزوقي

سيكون الدكتور المنصف المرزوقي إذا ما امتنع عن الترشح في الانتخابات الرئاسية القادمة أول رئيس عربي يساهم في التداول السلمي على السلطة في بلاده أيا كان شكل النظام الذي سيقره الدستور الجديد.

لقد أظهر تشخيص حالة الاستبداد في تونس أن الزعيم الحبيب بورقيبة قد دق أول مسمار في نعشه السياسي عندما قرر أن يكون رئيسا مدى الحياة، ومن المفارقة أن حدث ذلك بعيد ظهور أولى بوادر عجزه عن التحكم في دواليب الدولة، فآل حكمه إلى نموذج سياسي يتعلق بالحداثة الغربية ويحاكيها ولكنه يستثني من شغفه بها نقطة قوتها: تعايش الأفكار السياسية المتضادة تحت سقف الدولة وفي كنف القانون، وكان العطب الذي أصاب الجمهورية الأولى في العمق ذلك التضاد الصارخ بين الدولة العصرية والنظام السياسي المتخلف، وهو ما كانت القاعدة الشعبية تغفره لبورقيبة تقديرا لفكرة الزعامة التاريخية.

ثم أخفق بن علي في التخلص من شهوة الاستبداد حين لم يلتزم بوعده أن لا رئاسة مدى الحياة ولم يتخلّ عن السلطة احتراما للدستور، ولأن حكمه لم يكن ثورة على نظام سابق وإنما انقلابا سلميا لم يخف نزوعه إلى الاستمرار فقد عاد بسرعة إلى النموذج القديم المستقرّ مكتفيا بتحسينات شكلية منها تطوير “المعارضة” و”الحياة النيابية” مقارنة بما كانت عليه في السابق وتقوية دعائم السلطة بتشديد القبضة الأمنية، أما المبرر في الحفاظ على التناقض بين الدولة العصرية والنظام المتخلف فقد تحول في عهده من فكرة مقاومة الاستعمار إلى فكرة مقاومة التطرف الديني، وعاد الرئيس ليستلهم شرعيته من صورة البطل المنقذ والأب الحنون بعد انقضاء الشرعية الدستورية واضمحلالها تحت أقدام الدكتاتور.

وقد كان تقليص التفاوت بين طبيعة الدولة وشكل النظام أحد أهم مطالب المعارضة الراديكالية في عهد بن علي، فقد ألحّ الدكتور المنصف المرزوقي منذ ترشحه للانتخابات الرئاسية لأول مرة في 1994 على أن تونس لم تعرف بعد الحالة الجمهورية لأنها لم تشهد تداولا حقيقيا على السلطة وظلّت تراوح مكانها في ما يسميه “الجملكية” ومن ثمة كانت تسمية حزبه الذي أسسه قبل عشر سنوات ودخل بفضله قصر قرطاج بعد انتخابات أكتوبر 2011 “المؤتمر من أجل الجمهورية”.

ولئن كانت الفترة الراهنة فترة انتقالية لا تسمح للرئيس بمباشرة تنفيذ مشروعه السياسي فإن وجود الدكتور المنصف المرزوقي في قصر قرطاج يعتبر في حد ذاته حدثا بالغ الرمزية يتوج الثورة ويضعها في مدار القطع مع الماضي وردّ الاعتبار للنخبة، إلاّ أنّ ترشحه لهذا المنصب ثانية سيرجئ إلى حين فكرة التداول وهي من قيم الجمهورية ومن أسس الديمقراطية كما علمنا المرزوقي ذاته ويتطلع إليها الناخبون بوصفها الدليل الأهم على زوال “الجملكية”.

رئيس الجمهورية إذن في مفترق حاسم، بين أن يحاول دخول القصر ثانية أو أن يدخل التاريخ، والمسألة لا تتعلق هنا بممارسة سياسة عادية كتلك التي تحدث في البلدان المتقدمة حيث يطمح أي رئيس منتخب إلى دورة ثانية طالما كانت القوانين تسمح بذلك، ولكن بممارسة تأسيسية مثلت العمود الفقري في تفكير السيد الرئيس، لقد ناضل طويلا من أجل الجمهورية وهو مدعو إلى أن يتوج نضاله بحركة شجاعة تتطلب القفز على الذرائع والمبررات والتغلب على شهوة الحكم والإيمان المطلق بنسبية الذات البشرية، ما لم يستطعه الرؤساء العرب في أكثر من نصف قرن، وهو في حال الامتناع سيتنازل طوعا عن أسبقيته المعنوية التي تضعف حظوظ منافسيه ويفند قولهم بأن كل ما يقوم به في هذه الفترة الانتقالية جزء لا محالة من حملة انتخابية مبكرة، أما إذا اختار حزبه مرشحا آخر لهذه الانتخابات على أن يحتفظ الدكتور بحقه في العودة إلى قرطاج في أي دورة مقبلة (لو حصلت) فسيكون الأمر في منتهى الأهمية الديمقراطية متطابقا مع ما يترقبه الجميع من ثورات الربيع العربي التي انطلقت من تونس.

 إن ترشح رئيس الجمهورية الحالي لفترة رئاسية قادمة سيكون في بعض وجوهه مظهرا من مظاهر التشبث بالسلطة يحرمه من أن يصطف إلى جانب صديقه نيلسون مانديلا الذي أخرج فكرة التداول من حيّز التنظير إلى أرض الواقع بشجاعة نادرة، ولذا فإن التخلي عن ذلك لو حصل سيكون لصالح الرئيس ولصالح الجمهورية في آن معا.