مقالات رأي
شاهد ما شافش حاجة
لا حديث في أوساط التونسيين في الفايسبوك هذه الأيام إلاّ خبر حذف الأزهر بلادنا من قائمة الدول الإسلامية، وذلك بعد أن تداولت صفحات وجرائد كثيرة مقالا يتيما صدر في بعض المواقع المصرية يتحدث عن امتعاض برلمانيين مصريين من قوانين تعتزم بلادنا سنّها يرونها مخالِفة للشريعة الإسلامية ويرون أن مؤسسة الأزهر ينبغي أن تكون المرجع الوحيد للفتوى في العالم الإسلامي.
هذه الزوبعة التي يخوض غمارها بكفاءة واقتدار فايسبوكيون أشاوس، تُذكّر بمقطع شهير من مسرحية عادل إمام “شاهد ما شافش حاجة” عندما يقول إن إدارة البريد ستحجز عدّة الهاتف إذا لم يبادر بخلاص معاليم الفاتورة، ثم فجأة يتذكّر أنه لا يملك هاتفا، فالأزهر إذن سيحذف تونس من قائمة لا وجود لها أصلا، وحتى إذا وجدت قائمة مثلها لدى جهة ما فإنها بلا قيمة إذا لم تكن لها حجية في نطاق العلاقات الدولية.
لم ينتبه أحد إذن في خضم هذه الحميّة “الوطنية” إلى أنه ليس ثمة شيء في العالم اسمه “قائمة الدول الإسلامية”، وأن مثل هذه القائمة لا توجد الا في الموسوعات والمعاجم لأغراض تربوية وتتضمن أسماء البلدان ذات الغالبية المسلمة والتي يجوز نعتها تبعا لذلك بدول إسلامية. وهناك أيضا منظمة التّعاون الإسلامي التي تأسّست سنة 1969 إثر حريق المسجد الأقصى ولها عضوية دائمة في الأمم المتحدة. لكن التّهافت على الأخبار المزيّفة في الفايسبوك يعطّل ملكة التمييز وآلة النقد لدى الجميع، لا سيّما بعد أن تسري الإشاعة سريان النار في الهشيم، وتتطور لتتّخذ أشكالا أخرى من التّفاعلات تنسي العموم منشأ الأكذوبة الأصلي وسخفها، فالتونسيون تجندوا في قضية الحال بمختلف أطيافهم الذهنية والثقافية للدّفاع عما يعتبرونه “اعتداء أزهريا” على دولة ذات سيادة، وانبروا كلّ من موقعه في الدفاع الالكتروني الذي يبدأ من التذكير بأنّ الجيش الذي أسّس القاهرة قد حطّ رحاله في مصر قادما من المهديّة ويصل حتى المعايرة والمفاضلة بين ما آلت إليه ثورة 14 يناير في تونس وما آلت إليه شقيقتها ثورة 25 يناير في مصر.
ثلاث حقائق لا غير في زوبعة الكذب هذه.
الحقيقة الأولى أن المواقع والصفحات التونسية التي بادرت إلى ترويج المقال المستورد عن امتعاض البرلمانيين المصريين ودعوتهم إلى أحقية الأزهر في احتكار الفتاوي هي صفحات ومواقع قريبة جدا من حركة النهضة ومتحدثة باسمها وهي تمثل الحاضنة الإعلامية للرأي العام الإسلامي القاعدي في تونس.
الحقيقة الثانية، أن هذه الحملة تبدو تبعا لذلك أقرب إلى خطة استنفار مدروسة منها إلى ردة فعل عفوية فهي تستحضر زوبعة أزهرية أخرى ثارت بمناسبة دعوة رئيس الجمهورية في عيد المرأة إلى النظر في قوانين الميراث والاتجاه بها نحو المساواة التامة بين الجنسين، وتفعل ذلك في وقت أوشكت فيه لجنة الحريات الفردية والمساواة التي شكلها رئيس الجمهورية على الفراغ من أعمالها وهي لجنة تضم في صفوفها أشخاصا يعتبرهم الإسلاميون استئصاليين.
الحقيقة الثالثة وهي بمثابة الخلاصة تتمثل في عدم قدرة القاعدة الإسلامية في تونس على التخلّص في مستوى الفعل من التبعيّة الإخوانية إلى مصر رغم تنصّل قياداتها في مستوى التنظير والخطاب الإعلامي من هذه التبعيّة وزعمها أنها قد تطوّرت في اتّجاه أن تكون حزبا مدنيّا يساهم في إدارة شؤون الحكم في ظل توافق واسع النطاق. فالاستقواء بمؤسسة الأزهر بإقحامها في جدل تونسي محض ليس الاّ مناورة سياسيّة تستفزّ حميّة العامّة وتوهم بأنّ الخطر التكفيري قادم من الخارج وصادر عن مؤسسة دينية رسمية لها مكانتها الاعتبارية في الذهنية الإسلامية بينما المحرّك الحقيقي للزوبعة داخلي معروف، ولا شكّ أن قلة من التونسيين ما تزال تتذكّر لهجة الاعتداد التي تحدث بها قياديّ نهضوي نافذ إبّان حكم الرئيس محمد مرسي أمام قواعد الحركة عن المظلّة المصرية التي لن تترك أحدا يناوئ حكم الإسلاميين في تونس.
هي زوبعة في كأس إذن، لكن ثمة من يترشف بهدوء هذه الزوابع ويقتات منها.
السينما وأحلام الشعوب
في غرفة انتظار بإحدى العيادات، يلتقي الشاب الكندي “جاي باهادور” صدفة الصحفيَّ الكبير “سيمون تولدن” وقد كان مثلَه الأعلى في عالم الصّحافة، فيخبره أنه يعتزم الانتساب إلى جامعة هارفارد لمواصلة دراسته العليا، لكن سيمون يصرخ قائلا: تبّا هارفارد! إذا كنت تريد أن تكون صحفيا فاذهب إلى أرض مشتعلة، وستفرض نفسك على الجميع.
هكذا بدأت قصة “باهادور” التي حكاها في كتابه (المياه القاتلة، داخل عالم قراصنة الصومال السرّي) الصادر سنة 2011 والذي تصدّر حال ظهوره قائمة أعلى المبيعات في الولايات المتحدة الأمريكية قبل أن يتمّ استغلاله سينمائيا. هذه القصّة هي في الآن نفسه قصّة مشوّقة عن عالم القراصنة الغامض الذي لم يهتد الغربيون إلى فهمه بوضوح، وهي قصّة “باهادور” الذي ذهب إلى الصومال وهو في الرابعة والعشرين من العمر ليحقق حلم حياته، أن يكون صحفيا كبيرا، وما كان له أن يحقق هذا الحلم لولا نصيحة عرّابه “سيمون” الذي سنراه في نهاية الشريط يصرخ مرة أخرى مع المحتفلين بنجاح مغامرة “باهادور”: “تبّا هارفارد!”.
لكن من المهمّ جدا أن نحافظ على عبارة “تبّا هارفارد” داخل سياقها الدرامي أوّلا وداخل سياقها الأمريكي ثانيا، وألاّ نعتدّ بها وحدها للاستدلال على أن التّجربة العصامية أفضل في صنع النجاح من التكوين الجامعي مطلقا، فقد يكون ذلك فهما مختصرا ومضلّلا. إنّ الفكرة التي نستخلصها من سيرة باهادور الذاتية تتلخّص في معنى “إرادة الحياة”، وهو كما هو معلوم مفهوم كوني شامل ارتبط بالإنسان في كل زمان ومكان، وإرادة “باهادور” هي التي جعلته يرقى إلى مستوى البطل الحقيقي في تجربة هدفها تعريف العالم بالصومال على حقيقته، فالرسالة التي أراد الصوماليون إيصالها إلى الغرب عن طريق صديقهم “باهادور” تتمثّل في أنّ المدارس التي هدمتها الحرب لم تُبن من جديد! وهي رسالة تكشف عمق التباين بين نظرة صنّاع السياسات في العالم المتقدّم وتطلّعات الناس على أرض الحقيقة والواقع.
وما كان لإرادة باهادور أن تكون لولا إيمانه الشديد بحلمه. هل هذا يكفي؟ لا، فدور الصحفي “سيمون تولدن” مركزي في القصّة حيث جسّد التّرابط الوثيق بين جيلين من أجيال الصّحافة وصوّر بذكاء شديد كيف انتقل المشعل من هذا إلى ذاك، أما الرسائل النصية القصيرة التي وجدها باهادور على شاشة هاتفه النقّال عندما وصل إلى كندا عائدا من الصومال والتي قرأ فيها عروضا تهاطلت عليه من مختلف المؤسسات الصحفية ودور النشر فهي تصور إيمان المجتمع كلّه بالموهبة والإرادة ومن غير ذلك لا تكتمل دائرة النجاح.
قصة جاي باهادور في فيلم قراصنة الصومال قصة نجاح أمريكية كلاسيكية تتكرر باستمرار في صيغ درامية مختلفة، فمثلها قصة رجل الأعمال “كريستوفر غاردنر” التي قدّمت سينمائيا في الفيلم الشهير “السعي للسعادة”، وعبر سلسلة طويلة من النماذج تعمل السّينما الأمريكية على بناء منظومة قيمية محورها الإرادة وحب التفوق والسعي إلى فرض الذات. وهي مسألة مثيرة للانتباه في ظل تصورات أخرى مغلوطة لدى بعض الشعوب الأخرى تقصر دور الفن في نقل الواقع وأردأ ما فيه، السينما التي نعاينها ها هنا تحتفل بأفضل ما في الواقع إذ لا شكّ أن “بيل جايتس” و”بول آلان” عندما باعا برنامجهما الأول لشركة ميتس وهما بعد طالبان، قد صاحا بصوت واحد مثلما فعل باهادور بعدهما: “تبّا هارفارد!”.
حذارِ! فتحت الرّماد اللّهيب..
يستقبل التونسيون كل عام شهر جانفي بكثير من الخوف والترقّب والحذر، فهو شهر الاحتجاجات الاجتماعية العاصفة منذ أحداث الخميس الأسود في 1978، عندما حدثت المواجهةُ الدّامية بين اتّحاد الشغل وحكومة الهادي نويرة التي وضعت تونس على سكّة اقتصاد السوق. كما ارتبط شهر جانفي بانتفاضة الخبز في 1984 تلك التي اضطرّ فيها بورقيبة إلى التراجع في قرار رفع الدعم عن السلع الغذائية الأساسية لانتزاع فتيل الأزمة وامتصاص الغضب الشعبي بعد سقوط عدد كبير من الضحايا سرعان ما ابتلعهم النسيان، أما الحدث التاريخي الأكثر أهمية فهو سقوط نظام بن علي عشية الرابع عشر من جانفي2011 تتويجا لانتفاضة شاملة انطلقت من سيدي بوزيد يوم 17 ديسمبر 2010. وباستثناء هذا الحدث الذي لم يرتبط بشكل مباشر بقانون المالية العمومية فإن وقوع أغلب الاحتجاجات الشعبية في شهر جانفي مرتبط بتنفيذ قانون جديد للميزانية يحمل معه عادة أعباء مالية تثقل كاهل المواطنين وتهدّد مقدرتهم الشرائية، وهي الحالة النموذجية لأحداث جانفي 2018 التي تأتي في سياق مختلف تماما عن الأحداث السابقة.
بعد دخول قانون المالية الجديد حيّز التنفيذ وانتقال الزيادات في الضرائب فعليا من مداولات النواب في البرلمان ومنابر الجدل السياسي الإعلامية إلى الأسواق اكتشف التونسيون أنّ الإجراءات الضريبية المعلن عنها كانت لها انعكاسات مجحفة على القدرة الشرائية وخصوصا لدى الفئات محدودة الدخل من موظفي القطاعين العام والخاص، لكن حكومة يوسف الشاهد تمسّكت في الردّ على منتقدي سياستها الضريبية وحلولها المقترحة للخروج من الأزمة الاقتصادية بموقف موحّد عبّر عنه كلّ الوزراء المتحدثين باسمها على اختلاف انتماءاتهم السياسية، فهم يشكلون ائتلافا حكوميا بمقتضى وثيقة قرطاج التي أنهى بها الرئيس الباجي قايد السبسي حكومة الحبيب الصيد الحكومة الأولى بعد انتخابات 2014، ويعتبر موقف الحكومة أن التشكّي من غلاء الأسعار ينطوي على مبالغة وتحريض وأن الصورة التي تروجها وسائل التواصل الاجتماعي تختلف عن حقيقة الواقع، والذريعة في هذا أن المواد الأساسية المدعومة لم تشملها الزيادة، بل ويذهب أحد أعضاء الحكومة إلى القول بأن الزيادات تستهدف الأغنياء متسائلا عن الأسباب التي تدفع الفقراء إلى الاحتجاج عليها! ويشدّد هؤلاء جميعا على أن المواطن التونسي مدعوّ إلى التضحية، وأن مؤشرات عدة تدلّ على انفراج اقتصادي قريب في الأفق، ثم لا يتردّدون في اتّهام الجبهة الشعبية، ائتلاف الأحزاب اليسارية والقومية التي تشكل المعارضة، بالوقوف وراء أحداث الشارع رغم أن الجبهة أعلنت بشكل واضح ورسمي مساندتها لهذه التّحركات، لكنّ اتّهام الحكومة يقوم على خلط واضح ومتعمّد بين الاحتجاج السلمي وأعمال التخريب المصاحبة لتوريط المعارضة في العنف غير المشروع وكسب ورقة سياسية لدى الرأي العام.
أحداث جانفي 2018 يمكن النظر إليها بطريقتين مختلفتين، فإمّا أن نعتبرها محض صراع انتخابي بين أحزاب الحكم اليمينية والمعارضة، أو النظر إليها باعتبارها مؤشرا حقيقيا على انسداد الأفق الاقتصادي وفشل التمشي الذي تعتمده الدولة، فلا معنى للتنمية في غياب السّلم الاجتماعي، ومن الواضح أن حكومة يوسف الشاهد لا تريد أن تنظر بالعين الثانية وتمعن في الهروب إلى الأمام بالاقتصار في مقاربة الوضع على نظرة سياسوية ضيقة تتجاهل عبء الخيارات الاقتصادية الثقيل على الواجهة الاجتماعية. وتتسلّح هذه النظرة بحملة إعلامية تبدو مدروسة لشيطنة الحراك الاجتماعي واختصاره في أحداث شغب تستهدف مكتسبات المجموعة الوطنية حتى يصبح المواطن ذاته الذي يعاني غلاء الأسعار وشدّة وطأتها على قدرته الشّرائية مدافعا شرسا على خيارات الحكومة مستنكرا ما تقوم به المعارضة لعرقلة العمل بقانون المالية وإكراهاته المجحفة، وهذا ما يمثل منتهى السريالية في مشهد سياسي ديمقراطي طريّ!
تمعن الحكومة في تجاهل جملة من الحقائق لا سبيل إلى إنكارها، فعدم الزيادة في أسعار الموادّ الأساسية لا يعني أن مقدرة المواطن الشرائية في مأمن، كما أنّ التذرّع بما تمثّله في الإحصاءات نسبةُ الزيادة الضئيلةُ في الأداء على القيمة المضافة (1%) لا ينفي التجاوزات التي يمارسها قطاع التجارة بالتفصيل في مختلف المواد تحت طائلة الحرية الاقتصادية وغياب الرقابة وامتناع الدولة عن التسعير، لا تستطيع الحكومة أن تجابه بمثل هذه الجمل المستهلكة ما يصطدم به المواطنون في الشارع من ارتفاع ولو بدرجات متفاوتة في أسعار جميع المواد بدءا من أسعار الشاي والقهوة وصولا إلى أسعار مواد البناء والمحروقات والأدوية ومعاليم التداوي في القطاع الاستشفائي الخاص، ولا شكّ أن حديث أحد وزراء الحكومة عن زيادات موجهة للأغنياء أثارت حفيظة الفقراء يعتبر من النكت السياسية التي تبعث على الاستغراب وتكشف قصور عدد كبير من المنتسبين إلى طبقة الحكم في السنوات الأخيرة عن فهم متغيّرات الواقع لا سيما أولئك الوافدين من صفّ المعارضة. كما يتجاهل يوسف الشاهد أن الدعوة إلى التضحية لن تكون مقنعة الاّ في إطار قانون تقشّف استثنائي يشمل الجميع ويستهدف ولو بصفة ظرفية المصاريف الفلكية في بعض القطاعات والامتيازات العريضة لبعض موظفي الدولة حتى لا تكون التضحية حكرا على محدودي الدخل ولا ينتفع بها الا سواهم.
أحداث جانفي 2018 في تونس قد تكون عابرة سرعان ما تنتهي ويطويها النسيان دون أن تحدث تغييرا حقيقيا أو دراماتيكيا كما يحلم بعض الراديكاليين لكنها مؤشّر قويّ على ضرورة القيام بثورة اقتصادية تجعل من الحكومة سندا حقيقيا للفئات الاجتماعية الضعيفة بدل أن تكون كل خياراتها الاقتصادية على حساب هذه الفئات في غياب أي بارقة أمل على صعيد التنمية. إن الثّقة المفرطة في المنوال الاقتصادي الراهن والاقتصار على توجيه دفّة الأحداث نحو الاستقطاب السياسيّ الثنائي بين أحزاب اليمين وأحزاب اليسار ليس الاّ ارجاء لانفجار قادم حتما وليس من الضروري أن يكون ذلك في جانفي، فالثورة لا تستشير أحدا يوم تحين ساعتها، وقد قال الشابي منذ أمد بعيد حذار فتحت الرماد اللهيب.
كشف المستور
عندما سئل نور الدين البحيري في وسائل الإعلام عن كتاب الصحفي الشاب أحمد نظيف “المجموعة الأمنية وانقلاب 1987″ لم يتردّد في إبداء استخفافه الشديد بهذا المؤلَّف مبرّرا موقفه بأنّ الكاتب لم يكن يتجاوز السّنتين من العمر عندما وقعت الأحداث التي يتناولها الكتاب! وبذلك يكون البحيري الذي يعتبر من القيادات الإسلامية المثيرة للجدل قد وضع الكتاب بموقفه هذا في اللّحظة الرّاهنة، مؤكدا أنه ليس كتابا يؤرخ لحدث مضى، بل هو كتاب عن “الآن وهنا” في تونس التي يمثل فيها الإسلاميون رقما صعبا، إذ ما تزال النهضة ممزّقة بين إنكار جهازها الخاص الذي عمل على قلب نظام الحكم سنة 1987 والاعتراف به بوصفه جزءا من تاريخها السرّي.
لم يكن الكتاب معنيا كثيرا بمسألة إثبات وجود الجهاز الأمني من عدمها، فذلك أمر هيّن لا يحتاج كتابا كاملا، إذ الأدلّة والشّهادات على سعي حركة الاتّجاه الإسلامي إلى إسقاط نظام بورقيبة في 87 أكثر من أن تحصى ولا تقبل الدّحض، ويكفي أن نقرأ البرقيّة التي توجّه بها أعضاء المجموعة الأمنية إلى رئيس الحكومة النهضوي في 2013 طالبين تمكينهم من شهادة العفو العام حتى نقف على جملة من المعطيات التّاريخية حول الجهاز والمنتسبين إليه موثوق في صحتها لأنها تأتي من داخل الحركة، لكنّ البرقية تكشف أيضا عن توتّر واضح بين أعضاء المجموعة وقيادة الحركة وهي في الحكم يصل حدّ التّهديد، بما يجعلها وثيقة نادرة تكشف الوجه الآخر لحركة النهضة التي تبدو حركة سياسية متماسكة وقوية ويصعب الوقوف على تناقضاتها الداخلية، لولا سعيها وهي في السلطة إلى التّنصل من بعض تاريخها وإنكاره، وإذا كان ذلك شأنها مع المناضلين الذين تحمّلوا فيها أخطر الوظائف الأمنية، فكيف به مع الآخرين ولا غرابة حينئذ أن تجابه كتاب أحمد نظيف باللاّمبالاة والسّخرية المفتعلة.
يعود إنكار النهضة أن يكون جهازها الخاص قد أعدّ خطة للإطاحة ببورقيبة وحدد موعد تنفيذها يوم 8 نوفمبر 1987 إلى جملة من العوامل منها رغبتها الدائمة في التّنصّل من كلّ شبهات استخدام العنف حتى إن اقتضى الأمر الإبقاء على جزء من تاريخها قيد الكتمان وفي أفضل الأحوال تعويمه في نظرية “المبادرة الحرّة” حيث ينكر شق من قيادتها دائما علمهم بوجود أي مخطّط يستهدف الدولة المدنية ومؤسساتها ويعرض حياة الأفراد فيها إلى الخطر وينسبون ذلك إلى تجاوزات فردية لا تلزمهم، وهي عملية إعادة توزيع للأدوار والمواقف لم تعد تخفى.
العامل الثاني وراء تمسّك النهضة بإنكار رواية القيادي المنصف بن سالم حول المجموعة الأمنية هو قيام مشروع الانقلاب على فكرة اختراق مؤسّسات الدّولة والتّغلغل في دواليبها، وهذا الأسلوب لا يمكن أن يكون تخطيطا ظرفيا لمواجهة نظام سياسي كانت كل الظروف مهيأة لإسقاطه، إنما هو أسلوبها الأصيل، لأنها تاريخيا حركة سرية ممنوعة قبل أن تصبح حزبا سياسيا معترفا به، ومن شبّ على شيء لا بدّ أن يشيب عليه، أما العامل الثالث الذي يفسّر إنكار قيادات النّهضة الدّائم رواية الخطة الانقلابية وحوادث العنف والتفجير المنسوبة إلى الحركة رغم مضي أكثر من ثلاثين عاما هو الذّعر الشديد من توظيف هذا الماضي في إعادة توزيع أوراق الحاضر وقراءتها بما يدفعها إلى التعويل على قصر الذاكرة والتمعّش من حالة التصحر الثقافي السّائدة وانقراض فضاءات الجدل السياسي، فالحركة خصوصا بعد انتخابات 2014 وفي ضوء المتغيرات الجذرية التي عصفت بالإخوان المسلمين لا سيما في مصر أخذت تتنصل من كل ما يمكن أن يربطها بهذا التنظيم حتى لو كان ذلك ماضيها الشخصي.
كتاب أحمد نظيف كشف المستور حول المجموعة الأمنية ووضع حركة النهضة أمام تحدّ كبير لطالما خشيته: مواجهة تاريخها بلا مساحيق أو رتوش والاعتراف به كاملا غير منقوص، والكاتب لم يـأت بشيء من عنده بل قام بتجميع وثائق وأدلة من مصادر لا يرقى إليها الشك وليس ثمة بين رواياتها اختلاف كبير، وهي تؤكد أن الاتّجاه الإسلامي كان يخطّط للإطاحة ببورقيبة في نوفمبر 1987، وأن بن علي لم يفعل سوى استباق الجهاز الخاص للحركة، وهكذا التقى الطرفان لاحقا في هدنة استمرت سنتين كاملتين قبل أن تجرى انتخابات 1989 ويعود شبح العنف من جديد إلى الشوارع في سيناريو لا يختلف كثيرا عن سيناريو صائفة 1987، لكن ساكن قصر قرطاج هذه المرّة لم يكن شيخا هرما يطالب بإعدام المعارضين على طريقة الأباطرة كما فعل بورقيبة، بل حسم أمره في ما اعتقد أنه استئصال للحركة بينما هو قد أرجأ وصولها إلى السلطة ثلاثة وعشرين عاما.
الإعلام وتدمير المجتمع
قدّمت مؤخرا قناة فرنسا 24 الناطقة بالفرنسية تقريرا عن امرأة تونسية تدعى سارة التومي، تنشط ضمن جمعية بيئية هدفها مقاومة التصحّر وإعادة الاخضرار إلى تونس، يبدأ التقرير من حفل في الأردن حيث تدعى سارّة بوصفها ابنة تونس الخضراء لتسلمّ جائزة دولية، ومن ثمة ترافقها الكاميرا إلى قرية “بئر صالح” حيث نشأت وعاشت طفولتها لتُصوّر مختلف الأنشطة التي تقوم بها مع النساء هناك لنشر الوعي بأهمية التشجير. ومن هناك إلى مدينة العلوم بالعاصمة لتصويرها أثناء المشاركة في فعالية بيئية محلية، فيشير نص التقرير إلى أن الوزيرين اللّذين دُعِيَا إلى هذه التظاهرة لم يحضرا، وينتهي التقرير بصورة خارجية تظهر فيها سارة وهي تزرع شجرة على أنغام أغنية يعرفها كلّ التونسيين منذ أكثر من ثلاثين عاما، أغنية صلاح مصباح عن تونس الخضراء التي لم تعد كذلك.
ومنذ فترة قصيرة كانت قناة الجزيرة الناطقة بالإنجليزية قد قدّمت تقريرا مماثلا عن محسن ليهيذب، الرجل العصامي الذي ارتبط اسمه في الجنوب التونسي بالبحر وبالدفاع عن البيئة البحرية، وصوّرت متحفه الصغير الذي جمع فيه أصنافا مختلفة من ملفوظات البحر، فالرجل يخرج كل صباح مع طلوع الشمس ليجمع ما يجد على الشاطئ من بقايا، والتقرير يبدأ بتصويره داخل غرفة صغيرة يحرّك الأحذية المعلّقة فيها والتي تحكي قصة مهاجرين حلموا بالجنة وانتهوا في قاع البحر مُخلّفين أحذيتهم لتستقرّ في متحف صغير لرجل مهووس بالبحر، ثم يرافقه اليوم كله ليقدّم بلغة تلفزيونية راقية قصّة إنسانية في منتهى الصّدق والعفويّة والجمال.
ولا شكّ أن قنوات أخرى اسبانية وألمانية ويابانية ومكسيكية سوف تجيء إلى تونس لتحاور كتابا وفنانين ونشطاء يجاهدون بمفردهم في صمت لإيقاد الشموع بدل الاكتفاء بلعن الظلام، فقصصهم تضفي على المبادرة الخاصّة وجاهة تستحقّها وتعطي دروسا نموذجية في العطاء، لكن هذه القصص لا تلتقطها القنوات التلفزيونية المحلية، وحتى إذا فعلت فإن تقديمها يخلو في كثير من الأحيان من الجمالية والرؤية المتفردة إذ تعرض غالبا في قالب إخباري لا يهتدي إلى جوهرها الانساني فلا تستقرّ في الذاكرة طويلا. في مقابل ذلك تبدو قصص المجتمع التي تعرض تحت مظلة تلفزيون الواقع الموضوع الأكثر إغراء لدى قنوات القطاع الخاص التي تستحوذ على النصيب الأوفر من نسب الاستماع والمشاهدة، وبدل نقل قصص النجاح والإبداع يسهر التونسيون طيلة أيام الأسبوع مع حكايات المخدرات والهجرة السرية والعنف والجريمة وتنتقل هذه المضامين بسهولة بذريعة “تصوير الواقع” السخيفة من برامج الاعترافات إلى أغاني الراب وفيديوهاتها المصورة والمسلسلات الرمضانية لتشكل مجتمعة عقدا اجتماعيا جديدا يقوم على مفهوم القوة من خلال رسائل مباشرة وغير مشفّرة تخاطب الغرائز قبل العقول وتستحوذ على قلوب اليافعين والمراهقين وتصنع نماذجهم العليا.
قد يقتضي التفاؤل اعتبار هذا الانفلات القيمي التلفزيوني أمرا طبيعيا بعد ثورة أتاحت للإعلام حرية غير مسبوقة، لكن ذلك لا يبرّر الاستسلام لهذا الهبوط كأنه حتمية تاريخية، فعواقبه وخيمة على الاستقرار الاجتماعي، لا سيما ومظاهر العنف والجريمة في تصاعد مطّرد، ثم إن الأمر يبدو خاصا بالتجربة التونسية دون سواها إذ تتوفّر في دول عربية أخرى توازنات مشهدية يقف فيها الجيد إلى جانب الرديء في عملية تعديل ذاتي شبه تلقائية.
وهكذا تحت شعار الحرية المطلقة التي جاءت بها الثورة وفي غياب قوة تعديل فعالة يفترض أن يمثلها الإعلام العمومي، يشهد التونسيون اليوم بكل بساطة عملية تدمير ممنهجة لقيم المجتمع الوسطي المحافظ تقودها وسائل الإعلام الخاصة بما يسرّع ظهور كلّ أشكال التطرّف، سواء أكان السلفي الممعن في الانغلاق أم الليبرالي الممعن في التحرّر، وهو ما يدفع إلى التساؤل حول المسؤولية الاجتماعية وما إذا كان على السلطة التشريعية أن تصوغ قوانين لإلزام القطاع الخاص بها.
حرب الداندورمة
على بعد أمتار قليلة من تمثال الزعيم التاريخي الحبيب بورقيبة، يقف في مدينة سوسة بائعُ الدندرمة التّركي بملابسه الفولكلورية المميّزة وعربته الأنيقة الحمراء، ها هنا في الشارع الرئيس لواحدة من أجمل المدن السياحية في تونس يشاهد المارّة أمرا جديدا مختلفا ويقبلون على اقتناء بضاعة لم يألفوها من قبل وسط دهشةٍ وإعجابٍ لا يخفيان.
يلفت بائع الدندرمة الانتباه إليه بطريقة عرضه الشهيرة المميّزة، فأسلوب بيع المثلّجات التركية يكاد يكون واحدا في كل مكان، وفي السنوات الأخيرة بدأ هؤلاء الباعة يجرّون عربات الدندرمة خارج تركيا، يتجوّلون بها في بلدان عربية شتّى سبقتهم إليها المسلسلات التركية المدبلجة بقصصها المشوّقة وحسناواتها المثيرات. لكن على مواقع التّواصل الاجتماعي ينتشر الذّعر من بائع الدندرمة هذا بوصفه رمزا لعودة الاحتلال العثماني البغيض، ويمثّل الفزع من “الغول” التركي أحد امتدادات الصراع السياسي والإيديولوجي القائم بين العلمانيين والإسلاميين، فتركيا التي يناهض الكثيرون في تونس تغوّلها الاقتصادي والثقافي هي تركيا التي يقودها حزب إسلامي، أما تركيا العلمانية التي خلّصها كمال أتاتورك من قفطان الخلافة الثقيل فقد كان الحبيب بورقيبة يعتبرها نموذجا أعلى. لقد عاشت تونس قبل الاستقلال قرونا تحت راية الخلافة العثمانية وارتبطت صورة البايات وكبار موظفي الإيالة في ذهن العامّة بالجباية وما يعتريها من مظالم، فاقترنت صورة الأتراك بالشّرور والمصائب لا سيّما بعيدا عن المركز الحضري، حيث كانت تقيم قبائل وعشائر لا تتمي إلى الدولة بقدر انتمائها إلى مذهب صوفي يمثله وليّ صالح، كانت التجمعات السكنية في الأرياف والقرى تتحلّق حول الزوايا ولا يربطها بالدولة الاّ المجْبى، لذلك تحتفظ الذّاكرة الشعبية بعبارة “التّتريك” لوصف الشيء الذي لحقه الخراب، ومن ثمة يقال مجازا عند حدوث المصيبة: “لقد تترّكنا”. وفي سياق التذمّر الحالي من حضور البضائع التركية في الأسواق التونسية يردّد البعضُ هذه العبارة لا على سبيل الاستئناس ببلاغتها فحسب بل اختزالا للرأي القائل بأن لتركيا الأردوغانية مطامعَ توسّعيةً إحياء لمجد الإمبراطورية العثمانية التّليد، والتوسّع في ظلّ النّظام العالمي الجديد لا يعني الاحتلال العسكري بل فرض النموذج الثقافي بالمعنى الشامل للكلمة.
لقائل أن يقول: إنّ خوف شقّ من التونسيين من التّـتريك والأفغنة وخوف شقّ آخر من الأمركة والفرنسة لهو دليل إيجابي على اعتزاز الشعب بهويته الوطنية وقدرته على مقاومة النماذج الوافدة، هذا صحيح نظريا لكنّ الواقع يشير إلى أنّ هذه الفوبيا لا تعدو أن تكون أداة لتكريس الانهزامية والشعور المرضي بالاضطهاد الثقافي، لا سيّما في صفوف مستعملي وسائل التّواصل الاجتماعي حيث يهيمن بشكل قوي خطاب جلد الذات وتدميرها، فتزداد الهوّة بين الصورة الافتراضية ونظيرتها الواقعية عمقا واتّساعًا كما يتواصل تسطيح الفهم العامي للواقع والتحديات المفروضة عليه، فالكل يشتكي ولا أحد يبادر بالتغيير الإيجابي.
هناك في مدينة سوسة التي يُسمّيها التّونسيون جوهرة السّاحل، غير بعيد عن بائع الدندرمة التركي، قد تفاجئك في موسم الصّيف أوساخ متراكمة لم تأت شاحنات البلدية لرفعها، في ذات الشّارع سيؤلمك حتْما مشهدُ فنادق مهجورة وأخرى متداعية للسّقوط تطلّ على شاطئ بوجعفر الذي كان فيما مضى لا يقلّ جمالا وروعة عن شواطئ الإسكندرية وبيروت وسائر المدن المتوسطية. وأنت تتجول وسط كثير من الفوضى المرورية قد يبدو لك بائع الدندرمة النقطة المضيئة الوحيدة التي تسرُّ النفس وتبهجها. في تركيا سواء أكنت في إسطنبول أم في واحدة من المدن السياحية الشهيرة، ستعجب أولا بنظافة المكان وشغف الأتراك بمدنهم وأعمالهم واعتزازهم بالوطن الذي ينتمون إليه. لكننا نخاف من التّتريك وعندما يشير أحدهم بإصبعه إلى القمر يتوقف نظرنا دائما عند حدود الإصبع ولا يتعدّاها.
تحت سماء مرصعة بالكاميرات