بينما تغزو صور الذكاء الصناعي مواقع التواصل الاجتماعي استطاعت صورة طبيعية واحدة التقطت بهاتف جوال أن تتفوّق على كل الصور وتدخل التاريخ من أوسع أبوابه، إنها صورة أحمد نجيب الشابي في كامل أبهته، يحمل ضحكته وحقيبته وسنوات عمره الثمانين التي قضى معظمها في النضال السياسي وفي مقارعة السلطات ومناهضة الاستبداد، يتأهب للذهاب إلى السجن. صورة واقعية مرشحة للخلود.
ستخلد هذه الصورة بلا شك، فلم يبق لنا غير الصور. بالصور يتبادل الكثيرون إنجازات وهمية يحلمون بأن تتحقق في تونس، ويصل بهم الأمر حدّ النقاش حول جدواها وتكلفتها وآجال دخولها الخدمة! وهي محض أوهام ما كانت لتكون لولا هذه الطفرة التي تشهدها تطبيقات الذكاء الصناعي والبارانويا الجماعية التي يتخبط فيها شعب كامل ودرجة الإحباط غير المسبوق في التاريخ: محطة فاخرة للقطارات في العاصمة، ميترو يربط ولايات الساحل، شوارع نظيفة خالية من القمامة، طرقات سيارة، مستشفيات فخمة، مطارات جديدة…
إننا نحلم، لأن الحلم هو الشيء الوحيد المتبقي بعد انهيار كل الأشياء الجميلة من حولنا، وكل صورة من هذه الصور التي يبتكرها الخيال الالكتروني تفضح حالة العجز وقلة الحيلة والتخبط وضبابية الرؤية لدى صناع القرار، ليس هذا فقط، بل جنون العظمة أيضا وتوهم القدرة على تغيير مسار التاريخ وإصلاح شأن الإنسانية، كالديك الذي يؤذن وساقاه عالقتان في الخراء…
مشاهدة الصور وممارسة الانتظار، كل ما يقوى عليه شعب تطبخ له السلطة الحصى كي ينسى جوعه وينام، فيما تظل هي صاحية آناء الليل وأطراف النهار تحرس «الأنين المتصاعد من أحلام النيام». كل صورة يتخيلها التونسيون عما كان يمكن أن يكون عليه حالهم عضة ندم وتنهيدة حسرة ودمعة حزن، فنحن لا نستحق هذا، لكن ذهبنا إليه بأنفسنا ولم يقتدنا إليه أحد، نتحمل جميعا مسؤولية أخطائنا، لكن ليس إلى الحد الذي نذبح فيه كالخراف الوديعة الصاغرة قربانا لنصف إله جديد. (أكمل القراءة…)
هو منين فينا الجبان؟ والا مين فينا اللي خان؟
إعلاميّون في زمن الاستبداد: نصّ هادئ حول زمن عاصف
إعلاميّون في زمن الاستبداد: نصّ هادئ حول زمن عاصف، (مصطفى القلعي): السياسة أدبًا.. الإعلام سياسةً.. السياسة إعلامًا.. الإعلام أدبًا.. الأدب إعلامًا.. السياسة إعلامًا وأدبًا.. الإعلام سياسة وأدبًا.. الأدب سياسةً وإعلامًا.. كلّ هذه مداخل مناسبة جدّا لتناول هذا الكتاب(1) بالقراءة والنقد. وهي ملائمة لتكون عنوانا لمقال حوله. وقد اخترت “أدب الشاهد” عنوانا جامعا له، وسيظهر سبب هذا الاختيار أثناء المقال.
“الشهادة” (Témoignage) مصطلح راج في الإعلام العربي ومعناه أن تدعى شخصيّة مّا،سياسيّة في الغالب، لتقديم شهادتها حول ما عاصرته ورأته ونفّذته أو ساهمت فيه وكانت شاهدة عليه وعلى عصرها بشكل من الأشكال. وكلّنا يعرف البرنامج التوثيقي الشهير الذي يعرض منذ سنوات على قناة الجزيرة القطريّة تحت عنوان “شاهد على العصر” والذي استضاف عشرات الشخصيّات السياسيّة والإعلاميّة المؤثّرة في عصرها، العربيّة منها مغربا ومشرقا وغير العربيّة، لتوثيق شهاداتها حول ما عاشته وشاهدته ولكشف الحقائق الخفيّة أو تصحيح المعطيات المغلوطة وإنصاف من ظلمهم التاريخ. والغاية هي كشف الحقيقة وتوثيق التاريخ القريب وحفظ الذاكرة من التلف وتوفير رصيد للباحثين والمؤرّخين صالح لكتابة التاريخ أو إعادة كتابته.
كما أنّ الشهادات على التاريخ ضُمّنت أيضا في كتب منشورة كتبها أصحاب التجارب أو من عاصرهم وعاش معهم أو من كلّفوا بذلك. كذا فعل الرئيس التونسي الراحل الباجي قايد السبسي (1926- 2019) والوزير الأوّل التونسي الراحل محمد مزالي (1925- 2010) ووزير الداخليّة التونسي الأسبق الطاهر بلخوجة (1931- …). وقد صارت الشهادة آليّة من آليّات العدالة الانتقاليّة والمصالحة اعتمدتها هيئة الحقيقة والكرامة في تونس بعد الثورة من خلال تنظيم جلسات استماع لضحايا الاستبداد، أو لأفراد مِن عائلات مَن توفّوا منهم، ممّن تعرّضوا لانتهاكات أضرّت بأجسادهم أو بحقوقهم المواطنيّةبسبب مواقفهم وآرائهم ومبادئهم المعارضة لنظام بن علي (1936- 2019) الذي كان قائما في تونس.
كتب المذكّرات الشاهدة على العصر فيها معطيات ومعلومات ووثائق وأخبار والقليل من الأدب. طبعا هي صادرة عن رؤية صاحبها تعبّر عن وجهة نظره يعني أنّها لا تخلو من الذاتيّة وربّما من التوجيه وصادرة عن رغبة واعية أو لاواعية في تلميع الذات وتبرئتها بالنسبة لمن كانوا في ركاب النظام. والقليل منها يحمل اعترافات بأخطاء أو بسوء تصرّف أو حتى سوء تقدير. بينما شهادات المعارضين للنظام من سياسيّين وإعلاميّين وحقوقيّين ومثقّفين وفنّانين ونقابيّين وطلاّب جامعات، سواء أكانت كتبا أم شهادات مصوّرة للتلفزيون، فكانت الغاية منها كشف حقيقة الاستبداد وترسيخ النضالات من أجل الحريّة والديمقراطيّة في الذاكرة. أمّا الشهادات المقدّمة بغاية المصالحة وكشف الحقيقة فهي صادرة عن ضحايا لا عن مسؤولين وشخصيّات وازنة قديمة. وبعضها صدر عن حقيقيّين أو إعلاميّين عاينوا الانتهاكات وقدّموا شهاداتهم حولها. ويغلب على شهادات الضحايا أو عائلات من رحل منهم الطابع التراجيدي المأسوي نظرا إلى طبيعة ما تعرّضوا له فهم ضحايا تسلّطت عليهم آلة الاستبداد واعتدت على حرماتهم الجسديّة وصادرت حقوقهم المدنيّة. (أكمل القراءة…)
الطاهر بوسمة قرأ لكم كتاب : إعلاميون في زمن الاستبداد
الطاهر بوسمة قرأ لكم كتاب : إعلاميون في زمن الاستبداد (الصريح أونلاين 4 جوان 2019)
شدّني ذلك الكتاب الذي كتبه السيد عامر بوعزة بواسطة سوتيمديا للنشر والتوزيع في مارس 2019 في 155صفحة من الحجم المتوسط، بتصدير اختار له مقطعا للتعريف بالثقافة لتوفيق بكار، ومقدمة منه معبرة، حدد فيها الكاتب الاطار الزمني والأسباب التي دفعته لكشف العديد من الأسرار التي عاشها في زمن حكم الاستبداد وما بقي في خاطره منها وبعد قيام الثورة وانفلات المعلومة والفوضى التي بات عليها.
قراته في جلستين، بتركيز وإمعان، وكنت في اليومين الأخيرين من شهر رمضان الذي مدده لنا المفتي بيوم إضافي!
وجدت الكتاب مسليا ومفيدا، متين البنيان، وكان صاحبه في تقديري صادقا امينا وموضوعيا بقدر المستطاع، قد تعتمد شهادته تلك اعتبارا للصدفة التي وضعته في ذلك المسار الذي كان حكرا على المتخرجين من معهد الصحافة وعلوم الأخبار!
إنه المتخرج من كلية الآداب بالجامعة التونسية المفترض ان يمتهن التدريس في المعاهد الثانوية في ذلك الاختصاص الذي بات بارعا فيه،
وبالفعل بدأ عمله استاذا في ذلك بالمنستير التي افتتحت فيها وقتها اذاعة جهوية، كمتعاون حر مثل غيره من الكفاءات ذات الاختصاصات الثقافية الأخرى، تستعين بهم تلك الاذاعة الفتية لتؤثث برامجها من حين الى حين، وبدون ارتباط دائم يحول دون قيامهم بوظائفهم الدائمة ولا تتعارض مع الشان الأصلي.
لقد عشت بقراءتي للكتاب الذي اشتمل على مقدمة و17 فصلا وتعريفا مختصرا بكاتبة في آخر صفحة منه.
أعادتني قراءته لماض عشته من الجهة الاخرى أعادتني لتلك الفترة الرهيبة التي نساها البعض منا وبات ياخذه الحنين اليه.
جال بِنَا مؤلفه في اروقة الاذاعة الجهوية بالمنستير المستحدثة في نهاية سبعينات القرن الماضي بأمر من الرئيس بورقيبة المحب للمنستير، مسقط راسه ومدفنه فيها أخيرا، وبحماس المدير العام للإذاعة الوطنية صلاح الدين بن حميدة اصيل تلك المدينة الذي وفر لها اول التجهيزات من هنا ومناك ووجد في الجهة دعما ماديا وأدبياً حقق الحلم الذي راودني ذات يوم بالقيروان لما كنت وال عليها في أواسط السبعينات من القرن الماضي ولم استطع ان انجزه فيها، وتذكرت ما كنت اقدمت عليه لما استعرت تلك التجهيزات المتروكة لدي الاذاعة الوطنية من مدبرها العام صلاح الدين بن حميدة لمدة أسبوع لتستعمل بالقيروان بمناسبة زيارة الرئيس بورقيبة سنة 1975 بمناسبة احتفالات المولد الشري، وليقوم بتدشين دار الثقافة ابن رشيق التي كانت تعتبر وقتها من اكبر الدور التي تم إنجازها اخيرا.
كنت أمن بدور الاعلام والثقافة وبالفن والتمثيل، اذ عشت قبلها في بداية ستينات القرن الماضي لما كنت وقتها معتمدا بولاية صفاقس ورأيت الدفع الذي أحدثته اول إذاعة جوية بعثت بصفاقس. (أكمل القراءة…)
البحث عن الأفق الضائع: قراءة في كتاب «تعال أيها السأم!»
البحث عن الأفق الضائع: قراءة في كتاب «تعال أيها السأم!»: وضع «وليد أحمد الفرشيشي» مجموعة من «العتبات»، بالمعنى الاصطلاحي لدى «جيرار جينات» لتكون للقارئ معالم على الطريق إلى العالم الذي يفتح عليه كتابه «تعال أيها السّأم!»، منها العنوان الجامع الذي لم يؤخذ من عناوين النصوص الداخلية على عادة الكتاب في المجاميع القصصية ومنها اختيار عبارة «كتاب قصصي» لوصف العمل وتصنيفه، ومنها اقتباس الكاتب عبارة له في التصدير يقول فيها «السّأم هو كل ما أعطي لي لمواجهة هذا العالم» ويمكن اعتبارها بمثابة العنوان الفرعي وأحد مفاتيح النص الأساسية.
«كل ما يجعل من النص كتابا» -على حد عبارة جينيت- له أهمية مخصوصة في كيفية إنشاء علاقتنا الخاصة بهذا النص، سننتبه إلى هذا بعد الفراغ من القراءة الأولى، والعودة ثانية لتأمل كل مكونات الكتاب على حدة، فالكاتب لا يقدم لنا «مجموعة قصصية» بالمعنى التقليدي المتعارف عليه إنما نعاين هنا انزياحا استراتيجيا في مستوى التوصيف الأجناسي أساسه ما تتّسم به النصوص من انفتاح وقابلية للحوار. فكل نصّ يمثل على حدة وحدة قصصية مكتفية بذاتها، لكن الحوار الداخلي بين هذه النصوص يجعلها تؤلف مجتمعة «الكتاب» كما تؤلف الآلات الموسيقية المختلفة سمفونية واحدة.
إني أرى نورا يخرج من فمه…
ينفتح الكتاب على مشهد صلب الحلاج وينغلق على مشهد صلب المسيح، وكل ما فيه من حكايات وصور ورموز ومعان يقع بين هذين المشهدين، حيث الموت طريق للانعتاق، وحيث التضحية أساس المواجهة مع العالم، وحيث «الرؤيا» لدى الكاتب أساس الفردانية وسبيل الخلاص. وهي ليست فردانية زعيم سياسي يتقدم فرقة يزعم أنها الناجية، بل فردانية متصوف أدرك العالم بإشراق روحي، «صرختي بلاد ليست ككل بلاد الله، بلادي مُربّع من نور يدور حوله الخلق منشدين: إننا نرى النور..» هذه الصرخة هي ذاتها التي استقبلتنا في عتبة ممدوح عدوان ضمن الاقتباسات «الحياة مزدحمة والهاوية قريبة ولابد أن أكمل صرختي».
المنطق الداخلي الذي ينظم حوار النصوص هذا يقوم على المفارقة، فالموت مقترن بالانعتاق والخلاص، بينما الولادة مشوهة وقبيحة وتفتح على «ديستوبيا» مرعبة. هذه الولادة يجسدها في نص «لا تترك ضفدعا يقفز إلى بطن زوجتك الحامل!» «جرثومة» الذي ولد في يوم «انكشف فيه فرج السماء وبالت على الناس ضفادع»، ولعل هذا القبح الذي يغمر كل شيء في العالم هو الذي يجعل من لحظة الموت لحظة نورانية تتكشف فيها الحقيقة: «المجد للإنسان وحده، لأنه النهر الصافي الخارج من ماء الحياة لامعا كالبلّور»، وهكذا يستدعي الموت ولادة جديدة، كما تستدعي الولادة بالضرورة موتا محتوما، ومن هذا التعاقب الأبدي بين الموت والولادة تستمر رحلة الإنسان في البحث داخل ذاته عن الحقيقة، فمواجهة العالم لا تكون إلا بالاهتداء إلى الحقيقة الكامنة في الذات، بالكشف الصوفي، من أجل المجد «المجد للإنسان وحده يا سمعان، ففي وسط قلبه لا يكون ليل…». (أكمل القراءة…)
رحيل فتحي الهداوي يوقظ أجمل ما فينا
هكذا فسر التونسيون حزنهم على فتحي الهداوي، وكأن الحزن في حاجة إلى تفسير وتبرير!، بينما يكفي أن تمرّ أمامك أحيانا في الشارع جنازةُ شخص لا تعرفه حتى تقف إجلالا لحدث الموت، فيتجمد الدم في عروقك، وتعتري فرائصك رعدة، وتتحسس أنفاسك، ثم تهدأ شيئا فشيئا، وتستأنف حياتك المعتادة بعد مرور الموكب إلى غايته. يحدث ذلك لأن الجميع سواسية أمام الموت، وهو يذكرهم بحقيقتهم تلك ولو لبضع لحظات. لكن تفسير التونسيين حزنهم من الأهمية بمكان لأنه يعيد إلى الأذهان حقيقة نتناساها دائما وهي أننا (عائلة واحدة)!
رضا عزيز: على مقهى في شارع الأبدية
هكذا يذهب المسافرون إلى الأبدية، لا أحد يعرف ترتيبه في القائمة، ولا موعد السفر. والكل ينتظرون دورهم، هذا الوصف إذن محاولة للالتفاف على الرماد الذي يتكثف حولنا من يوم لآخر، ومراوغة هذا الإحساس الرهيب بنهاية المعنى: كيف تصبح الحياة كلها بألوانها وموسيقاها، بأحلامها ومتاهاتها بكل بهجتها ونزقها، بجمالها وفوضاها ورقة صفراء تقع من شجرة جرداء على رصيف مكتظ بالعابرين غير الآبهين، كيف تصبح مجرد ذكرى..
مُرّ الكلام
عرفت محمد بوغلاب في مكتب الصديقة عواطف حميدة مديرة إذاعة الشباب منتصف تسعينات القرن الماضي، ولم يتغير كثيرا على امتداد ثلاثين عاما، بل ظل محتفظا بثوابت عديدة لا شك أنه ورث بعضها عن عواطف التي يحبها كثيرا وكان رحيلها المبكر عن حياتنا من الأحداث التي وطدت علاقتنا، فضلا عن كوننا ننحدر من قرى الساحل، ومن يعرف جيدا تلك القرى يعرف ذلك الحبل السري الذي يربط أبناءها بعضهم ببعض أينما وجدوا على هذه الأرض.

محمد بوغلاب
أطمئنكم جميعا أن محمد بوغلاب لم يدع يوما أنه من الثوار والمناضلين، وأبصم لكم بأصابعي العشرة أنه لن يفعل. كل ما في الأمر أنه عندما يذهب إلى عمله صباحا يذهب بروح المقاتل الذي يتجه إلى الجبهة ليقاتل، وأؤكد لكم أنه سجين الكلمة الحرة والصدق والالتزام، فمن ثوابت نظرته للحياة أننا نشترك جميعا في إدارة هذا الوطن، وأن الإعلام مسؤولية والصحافة مهنة مقدسة أساسها الصدق مع الذات والإخلاص للآخرين، فكان مندفعا في المنحدر العنيف الذي يأخذنا جميعا إلى هاوية واحدة، بينما يتقن الكثيرون بانتهازية فائقة استخدام فراملهم التي لا تصدأ أبدا.
لم يتخل محمد بوغلاب يوما عن الشأن العام. لم يتخل عنا، رغم كل المحن التي مر بها، لقد كان منذ أكثر من اثني عشر عاما في مرمى سهام الجميع، لكنه لم يتخل عن كلمته، ولم يرفع يوما شعار (عندي عائلة)، بل على العكس لم تكن العائلة عنده تعلة للخنوع والاستسلام والذل، بل كان يستمد منها الصلابة في مواجهة الظلم والصمود في الحق والصبر على الأذى.
محمد بوغلاب (ما يفلت شيء) لأنه لا يتعالى عن الواقع ولا يدعي الحياد، ولأنه يمزج دائما بين الذاتي والعام ويصنع من التفاصيل الصغيرة كلمات وجملا ونصوصا ومواقف، إنه يشبه ذاته في كل ما يفعل، ولذلك يصرخ أمام الميكروفون بحنق ويتشنج، فيجرح أحاسيس المستمعين الذين يشربون قهوتهم في الصباح على صوت فيروز وموسيقى بيتهوفن، ويفضلون الاستماع إلى (حظك اليوم) على متابعة النقاش السياسي.
رغم أن الوقائع كلها تؤكد تعرض محمد بوغلاب لمظلمة غير مسبوقة في تاريخ الصحافة، فإننا نتحاشى تقديمه في صورة الضحية، إنه سجين الكلمة، ولذا يحق لعائلته أن تفاخر به وأن تتباهى. ولا شك عندي أنه شامخ رغم قساوة السجن، وأن الرثاء كل الرثاء ينبغي أن يكون للسجان الذي يتخبط في زنزانة أفكاره، تخيفه الكلمة الحرة ويرعبه الرأي الطليق، وترتعد فرائصه من جملة شردت عن المديح، السجان الذي يسأل نفسه في المرآة كل صباح: من هو أجمل شخص في الكون؟ وهو مستعد لكسر المرآة إذا لم يسمع الجواب الذي يدور في رأسه…
الحيرة الانتخابية
في السياسة كما في كثير من شؤون الحياة الأخرى، لا تخضع خياراتنا بالضرورة إلى ثنائية (صواب خطأ)، فالاجتهاد البشري مجال نسبي، ولذلك فإن لكل رأي من الآراء المتعلقة بالانتخابات الرئاسية وجاهتَه بالنظر إلى الأسس التي ينبني عليها. تحت هذه المظلة يمكن مقاربة الموقفين المتناقضين من الانتخابات الرئاسية في تونس: المشاركة والمقاطعة.
مقاطعة الانتخابات موقف سياسي وردة فعل مباشرة إزاء عملية الإقصاء التي استهدفت قيادات سياسية من الحجم الثقيل. ونتيجة منطقية لمناخ عام يسوده التشرذم، فجلّ العائلات السياسية منقسمة ومتذبذبة إزاء ظاهرة قيس سعيّد. والالتقاء عند المقاطعة أيسر بكثير من إبرام تحالفات ولو مؤقتة!
كما تندرج المقاطعة أيضا في خط المعارضة المبدئية لمشروع الرئيس، في إطار (ما بني على باطل فهو باطل)، تكملة لمقاطعة الاستفتاء والانتخابات التشريعية السابقة لأوانها وكل ما أنتجه مسار 25 جويلية السياسي انطلاقا من كونه (انقلابا) افتك السلطة التشريعية من أصحابها الذين أتت بهم صناديق انتخابات 2019. يضاف إلى كل هذه الدوافع موقف مبدئي مما تعتبره النخب خروقات خطيرة طالت العملية الانتخابية ومست نزاهتها بدءا من عدم تنفيذ أحكام المحكمة الإدارية وصولا إلى تغيير القانون الانتخابي. (أكمل القراءة…)
محمد عبو: لو خرجت من جلدك ما عرفتك!
معرفتي بالطاهر هميلة (رحمه الله) كانت من الأحداث الجميلة القليلة التي عشتها بعد (الثورة) في تونس. فقد كشف لي منذ لقائي الأول معه روح الشاعر التي كان يخفيها وراء قناع المناضل السياسي. وقد كنت مستمتعا بصحبته في أحد مقاهي سوسة، صباح يوم مشمس من أيام جانفي 2012 حين أخبرته برغبتي في مقابلة محمد عبّو، فاتصل به على الفور وأعلمه بذلك، ثم قال لي وهو يعيد الهاتف إلى جيب سترته بعناية: قال لك سي محمد، تستطيع مقابلتي في أي وقت تشاء، بلا موعد.
وعزّز لقائي بمحمد عبو وزيرا في مقرّ الحكومة بالقصبة احترامي له إنسانا وسياسيا وكاتبا، فثمة عوامل موضوعية (لا ينكرها إلا جاحد) تفرض علينا دائما احترام هؤلاء الذين عارضوا بن علي وهو في أوج قوته وعنفوان سلطته، مطالبين بالديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان، نحترمهم رغم الاختلاف لأنهم دافعوا من مواقع مختلفة عن الحرية والكرامة نيابة عنا جميعا عندما كان ثمن النضال باهظا جدا..
وخلافا للكثيرين الذين لا يفوتون اليوم أي فرصة للتنمّر على محمد عبو والسخرية من كل ما يفعله حتى وإن كان لصالحهم، فإنني أعتبر عودته إلى المشهد السياسي مساندا لزهير المغزاوي (ضربة معلم) من الطراز الذي لا يمكن فهمه إلا بعد التخلص من بعض العقد النفسية والسياسية التي تكبل المرء وتجعله لا يرى الأشياء كما ينبغي أن تُرى…
في تجربة محمد عبو السياسية نقاط مضيئة جدا ينكرها البعض على وضوحها. فقد استقال من حكومة الترويكا، ولم يتشبث برئاسة الحزب الذي أسسه كما يفعل الآباء المؤسسون عادة، ثم غادر الحياة السياسية كلها عندما فشلت تجربته الثانية في الحكم، الأمر الذي لم يفعله غيره ممن تجاوزت تجربتهم نصف قرن أو يزيد! كما إنه قام بعملية نقد ذاتي شاملة في كتاب كشف فيه حقائق عديدة في وقت يتحاشى فيه أغلب السّاسة القيام بمراجعات نقدية ويتحاشى فيه الجمهور القراءة! (أكمل القراءة…)
البريكي الذي أضاع خطوته
من حق البريكي أن يصطفّ وراء الرئيس أو أيّ مترشّح آخر في هذه الانتخابات الرئاسية، هذا أمر لا يناقش، لكن من المؤسف أن يكون وهو يدافع عن خياراته وخيارات حزبه أضعف من أصغر مفسر في (مشروع) الرئيس، ولو أعاد الاستماع إلى نفسه في الإذاعة وقارن مواقفه وأسلوبه بمواقف المعلقين والمفسرين المعروفين وصحابة الرئيس لأدرك أنه يسبح في مياه ضحلة، وهو أمر مؤسف بالنظر إلى تاريخه النضالي الطويل في صفوف الاتحاد العام التونسي للشغل وفي صفوف اليسار منذ أيام الجامعة (الأمر الذي لا ينفك يذكر به في كل مناسبة) إنه لأمر مؤسف أن يبدو سياسي محنك مثله يتقن السفسطة جيدا تلميذا بالفصل الأول في مدرسة الشعبوية، وقديما قال أجدادنا عن مثله (جاء يتبع في خطوة الحمام ضيع خطوته)












