الصحافة في تونس

الصحافة في تونس

يبدو الفصلُ بين الإعلامي والسّـياسي إسقاطا أكاديميا على واقع مختلف، فمن البديهي أن الإعلام هو الذي صنع منظومة الاستبداد السياسي وأرسى دعائمها وقوّى بنيانها بأن كيّف الرأي العام بصورة غير متناسبة مع الواقع وحجب عن مواطنيه منابع الحقيقة الصحفية أو شكّك ما استطاع في صدقها وإخلاص مقاصدها، ولا مفرّ من الإقرار بأن الإعلام في المجمل كان رهينة بين أيدي السّـاسة وصناع القرار في الظلّ والعـلن، ومن ثمة فنحن ملزمون بأن نتحدّث عن توظيف وسائل الإعلام سياسيا وهو توظيف اتّخذ صيغا وأشكالا شتى لم يكن من الممكن التفصّي منها في ظلّ منظومة الحكم التي تفتقر إلى أبسط مظاهر الديمقراطية: استقلالية السلط وعلوية القانون، كما لم يكن من اليسير مناهضة هذا الأسلوب وهو يتخفّى وراء المصلحة الوطنية والحكم الرشيد.

إن أبرز مظهر من مظاهر التحكم في الإعلام وخصوصا العمومي منه خلال العشر سنوات الأخيرة من حكم بن علي كان يتجسّد في فرض المضامين وربطها بقرارات رئاسية، فقد كان ضبط المحتوى الإعلامي على مدى سنة كاملة ممكنا انطلاقا من قراءة الخطاب السياسي والقرارات المعلن عنها في المناسبات الوطنية الرسمية، وكانت هذه البرامج الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية تفضح صلتها النفعية المباشرة بالنظام القائم بدرجات متفاوتة، فتـثمين المجلة الانتخابية المنقحة والتغني بمفاتنها الديمقراطية نفي ضمني لشبهة أن تكون غاية التنقيح استبعاد خصم سياسي يتحرك خارج دائرة الموالاة، وتنظيم حملة إعلامية مكثفة حول مخاطر السرطان وضرورة تقصيه مبكرا تُـستـشف منه رائحة مشروع استشفائي خاصّ، والاستغراق في عرض نشاطات السيدة الأولى كان يعني لدى الناس انطلاق السباق في معركة الخلافة، أما مائويات الشعراء والكتاب والمسرحيـين فلم يكن أحد ليتبين من ورائها منفعة مباشرة غير التلهية وتعبئة الفراغ وإسالة اللعاب بما كان يرصد لهذه المواعيد والأعراس من مبالغ مالية طائلة يغني التفكير فيها ضعاف النفوس عن الاهتمام بالديمقراطية والحرية والكرامة الوطنية.

وهكذا يتطلب النظر إلى النصف الملآن من الكأس الإقرار بأن المضامين كانت تـتقدم بوصفها خيارات تنموية ومشاريع تهدف إلى تحسين إطار العيش وتمتيع الفئات الضعيفة من مستوى اجتماعي أفضل، وكان ينبغي غضُّ النظر عن النصف الفارغ أين يكمن استغلال النفوذ وتجاوز السلطة والإثراء غير المشروع وتحويل وجهة المال العامّ وتكثيف حدّة القهر الاجتماعي، وظلّت كل الكتابات المهرّبة من الخارج حول هذه المواضيع محدودة التأثير والفعالية لاقتصارها على مواقع الكترونية محجوبة ولِمَا كانت تبذله السلطةًُ في سبيل الحطّ من شأن قائليها وتشويههم.

إن الإعلامي والسياسي كانا في النصف الثاني من عهد بن علي متداخلين ولا فكاك، حيث صار الإيهام بأن الاختلاف ممكن تحت سقف الرئيس أمرا مضحكا لأنّ السيد الرئيس يتدخل بشكل مباشر في الحياة العامة، فكل المشاريع ترتدي ملابس بنفسجية وتُـقدَّمُ للناس على أنها عطية رئاسية في نطاق العناية الموصولة والرؤية الثاقبة والاستراتيجية التنموية الخلابة، وهو ما كان يخدم صورة الرئيس ذي “الصلاحيات الإلهية الواسعة ” والشعب الطيب المُـمتنِّ على الدوام والمعترف بالجميل إلى آخر رمق من حياته من غير أن يخطر بِـبَاله أنه كالزوج المخدوع: آخر مـنْ يـعلم.

عامر بوعزة