الدكتور محمد الفهري شلبي

الدكتور محمد الفهري شلبي

في صائفة سنة 2005، انطلقت في المركز الافريقي لتدريب الصحفيـين والاتصاليـين حلقات تكوين علمي ضمن برنامج الاتحاد الأوروبي لتطوير وسائل الإعلام في عدد من بلدان الجنوب وفي مقدمتها تونس، ولم تكن الجهة المانحة لتعترف بالكسل الصيفي المعتاد لدى التونسيين ولا بالعطلة المدرسية المقدسة لدى بعضهم، وقد كان واضحا أن الدكتور رضا النجار مدير المركز آنذاك قد خطط مع شركائه لصائفة استثنائية مصمّما على تنفيذ مخططه ذاك ببراعة فائقة.

كانت العاصمة تذوب شيئا فشيئا منذ ساعات الصباح الأولى في حرارة خانقة مثلما تذوب قطعة الصابون، وكانت قاعة المركز محتشدا حقيقيا طيلة أسبوعين، محترفون ومدرسون يشتغلون لأكثر من خمس ساعات متواصلة بلا هوادة في مسائل بيداغوجية تتصل بتكوين المكونين وتُــعلم المُعلمين كيف يأخذون بأيدي الكِبار من المُـتعلمين، كانت الأصوات تعلو وتنخفض كسفينة تَـشقُّ طريقها رغم كل شيء، وكان علينا جميعا من خلال الحوار الصّعب الشاق المضني أن نُسلّط الكشافات على المرآة فنرى أنفسنا في ضوئها ونكتشفها ثم نعيد اكتشاف كل ما يقع حولنا كما يكتشف الطفل الشغوف أسرار لعبته المُرْبكة. وفي تلك المرآة، عرفتُ رجالا ونساء كثيرين وشدّني أكثر الدكتور محمد الفهري شلبي لتنطلق مذّاك أواصرُ مودّة لم يعترها الصدأ، رغم أن لقاءاتنا بعدها كانت طفيفة وصِلَـتَـنا لم تتجاوز الأطُـرَ المهنيةَ كثيرا.

يفاجئك الدكتور محمد الفهري شلبي بِحسِّه الانساني الرفيع وهدوئه الرائع الجميل، ولا تملك إلا أن تغبطه على محبة المحيطين به وإجماعهم حول شخصه في ذلك المرجل الذي غرقنا فيه طيلة فترة التكوين، فلم يكن من اليسير جمع ذلك العدد الغفير من المكونين الجامعيين والمحترفين دون الاصطدام بعوائق بسيكولوجية جمة كان يدركُها كل واحد من الحاضرين، ولكن المُدرّب الفرنسي المكلف بإدارة الحوار وتنشيطه لم يكن بقادر على تخيل حجم الصراع النفسي الذي فرض على النقاش التوتر والحدة والعصبية في أحيان كثيرة وجعله يقول في الاختتام عبارة لخّص بها تقريبا أزمة الإعلام التونسي ببلاغة يتمنى المرء لو يتقنها: “إن أهم شرط للتكوين الصحيح عدم إلغاء الآخر وقبول الاختلاف وفي تونس ينتظركم عمل كبير لتحقيق هذا الشرط”.

خلال أيام التكوين كنا جميعا عراةً في مرآة أنفسنا، ومرضى على طاولة الفحص النفسي، ولم يكن ثمة جدال يذكر في أن “سي شلبي” كان الأصحّ من بين الجميع، فقد كان يطلّ علينا من نافذة صمته فيبدو لمن لا يعرفه كثيرا كأنه ما يزال منشغلا عـنّا في الطريق إلى العاصمة من مدينته التي يحب: دار شعبان الفهري، ولكنه إذا ما تكلّم أفاد ودقّـق وكان  أكثر الحاضرين حضورًا، لم تكن ساعات الدرس الصيفية الخانقة لتسمح بأكثر من هذا أما دقائق القهوة في حديقة المركز وفسحته الأمامية فقد كان بمقدورك خلالها أن تقترب من عالم الدكتور محمد شلبي وتحبه أكثـر، ففي التفاصيل الصغيرة التي كنا ونحن واقفين نتسلل بواسطتها من عالم الدرس إلى عالم الحياة محمولين على دخان السجائر التونسية الرديئة وعطر القهوة المصنوعة على عجل وضحكات المحيطين بنا الغارقة في المجاملات الباهتة كانت صورة الدكتور العاطفيةُ  ترتسم بالألوان الطبيعية وبوثوق كبير على حيطان قلبي وذاكرتي، ولا أتذكر أن سي شلبي كان يشاركنا الغداء في فندق البلفيدير حيث كانت تتواصل النقاشات عادة فقد كان يحبذ دائما العودة إلى مدينته وعائلته وإلى عالمه الصغير لا يلوي على شيء بينما كانت العاصمة في سويعات القيلولة تلك تزداد اشتعالا تحت شواظ شمس جويلية الصاخبة.

والحق أن هذا المعسكر الصيفي الجميل رغم قساوته كان يضمّ فسيفساء عجيبة من الصحفيين التونسيين الذين يعملون في الخط الأمامي: ففيهم رئيسُ التحرير والكاتبُ الصحفي والمذيعُ والإداريُّ، وكنا جميعا نتدرب على كيفية نقل أصول علم الصحافة وقِـيَمِها إلى المُـتدرّبين في الجامعة وفي المحيط المهني إيمانا بأن الصحافة لا تُـتَعلَّم في سنوات معدودات إنما طيلة العمر، وأن العلم أبدا جزيرةٌ نائيةٌ بعيدةُ المنال، وكان واضحا أن المُدرسين الجامعيين وسْط هذا الخضم كانوا الأقلَّ تـلوُّثًا من الجميع فهم في الغالب الأعمّ لم يكونوا مُضطرين إلى حالة السكيزوفرينيا التي كُـنّا نعاني منها جميعا ونحن نتخطى المسافة الفاصلة بين المعرفة النظرية والواقع العملي، بين ما نفعل وما نقول، وهي حالة من الرخاء الذهني تمنحها صفة المدرس لكل من اختار أن يشق طريقه الأكاديمي من غير عصا يتوكّـأُ عليها وقاوم بضراوة مُغرِيات الوظيفة وامتيازات الإدارة، وكان عَلى “سي محمد” أن يتهيأ منذ ذلك الحين لخوض معركته الخاسرة وأن يخلعَ نَعلَـي المدرّس في شارع “هوكر دوليتل” على أعتاب المركز الافريقي لتدريب الصحفيين قبل أن تحمله الأقدار إلى  قلعة التلفزيون الحصينة حيث يرتع عدد كبير من اللصوص.

قضى الدكتور رضا النجار في مركز تدريب الصحفيين والاتصاليين أكثر من عشرين عاما فجعل من هذه المؤسسة نقطةَ جذب علمي على النطاق الافريقي الواسع, وارتبط بها ارتباط محبّة لا ارتباط وظيفة، وهو ما لا تعترف به قوانينُ الإدارةِ فغادرها عند بلوغه سن التقاعد الإداري بعد أن لم  يكن ممكنا تخيلها بغيره، وأستطيع الجزم بوثوق أن مرارة فراقه يوم حان الرحيل لم تنتصر عليها إلا فرحةُ الجميع بتعيـين الدكتور محمد الفهري شلبي خلفا له، ولكنْ لست أشكّ في أن شعورا عارما آخر بالمرارة قد عاودنا واعتمل في أعماقنا جميعًا يوم كَلّفت السلطةُ صديقـنا ذلك الطفل الكبير بالإشراف على حظوظ التلفزة التونسية وهي في أسوإ حالاتها نهبًا لمن حوّلوا فيوض خيرات هذا الوطن الجميل إلى حدائق بيوتهم واسطبلات مزارعهم ومسابح قصورهم الفارهة، كان واضحا أن التلفزة التي يدفع لها التونسيون من عرق جبينهم أموالا كان أولى بهم أن يعيلوا بها أطفالهم أصبحت بفضل سنوات طويلة من الفساد ملكا خاصا لبعض الأثرياء من الذين لا معنى لتونس لديهم إلا بما تعنيه من فرص للكسب والنهب والثراء، وكان واضحا أن الدكتور محمد الفهري شلبي قد دخل جهنم يمشي على قدميه دون أن يقول: “لا”، ولم يكن أحدٌ في ذلك الحين يقوى على أن يقولها، كان واضحا كذلك أن طريق الرجل قد أصبحت منذ ذلك الوقت محفوفة بالمخاطر وأنه أصبح يمشي حافيا على صفيح ساخن، إذ كان نظام بن علي كلما اشتدّ توقُ الناس إلى بضاعة تلفزية سياسية تحترم عقول  المشاهدين يعمدُ إلى تغيير كبار المسؤولين في التلفزة ذرًّا للرماد وتحويلا لوجهة الأنظار عن الحقيقة الساطعة المبهرة واستمتاعا ساديا بحالة المخاض الوهمي العقيم التي تعقب كل تغيير إداري، فقد كنا نأمل في معجزة ربانية تؤجج إحساسنا بالحياة بعد أن صرنا جميعا نياما في غرفة التخدير، وموتى  يتحركون على قماش أبيض في فيلم هيتشكوكي مرعب.

لا أحد كان يستطيع انتشال صديقنا من الورطة الكبيرة التي وقع فيها، تأكدت من ذلك في لقاء يتيم جمعني به في مكتبه بمقر التلفزة الجديد وكان ثالثــنا مستشاره في شؤون السياسة و”التعاطي تلفزيا مع الخصوم وضمان الاختلاف تحت سقف الرئيس !”، فاشتدّ يقيني أن الرجل كان في غير محلّه من الإعراب، وأن همسه هذه المرة وتباطؤه في نطق الجمل والكلمات ليس ذلك الهدوءَ الحكيم الذي كان يُـطفئ به الحرائق في قاعة مركز التدريب وإنما هو همس غريب أقرب إلى الحشرجة، همس لم يتخلص منه حتى بعد أن صرنا اثنين في المكتب وغادرنا ثالثنا ، كان سي محمد يتحدث بطريقة غريبة غير مألوفة لديَّ، بحذرِ من يحتاط ممن يتنصَّـتُون عليه أو كأن ثالثَـنا ذاك يمتلك آذانا طويلة تستطيع التقاط الحديث من الممرَّات المُـلتوية والحيطان البيضاء والردهات الطويلة.

وأنا أتقبل بفزع كبير ما لم يكن مُتوقَّعا في قضية فساد التلفزة: حبسَ الدكتور محمد الفهري شلبي وبقاءَ الآخرين في حالة سراح حتى هذه اللحظة، تذكرت للتـوّ صرخة أحمد زكي في نهاية شريط “ضدّ الحكومة”: “كُـلُّنا فاسدون فلتحاسبونا جميعا”، ووقفت أمامها طويلا أتأمّلها وأفكر في استعارتها، لقد كان الفسادُ السياسيُّ والثـقافيُّ والأخلاقـيُّ أكبر سحابة أمطرت على الشعب التونسي من ألفه إلى يائه فتقبلها في صمت، ولذا لا يمكن استعارة عبارة المحامي الفاسد الذي استيقظ ضميره وهو يرى ابنه الوحيد مطحونا في ماكنة السلطة فوقف أمام كاميرا عاطف الطيب يعلن مواجهة الحكومة ومواجهة الذات، ولا يمكن تخيـُّرُ ذاتِ العبارة للتنفيس عن حالة حزن عميق فرضتها نواميس العدالة وأدوات القضاء المستقلّ: أن يُـقـتاد إلى السّجن رجل نحبّ، رجل عِلْـمٍ اختارته السلطة السياسية في الربع ساعة الأخير لتستر به عورتها وتكسب بعض الوقت ولم يكن بقادر على التفصّي والممانعة ربما تحت تأثير وهج لا يُدرَكُ كنهُه ومغنطيس خفي يقع تحت الكرسي، فصار عليه أن يدفع ثمن ذلك من حريته بعدما أطلقت الثورة سراح جميع السجناء.

إنّ المسافة بين الشريط السينمائي والواقع هي نفس المسافة بين الحلم والحقيقة، بين ما نحبّ وما ينبغي، بين الممكن والمستحيل، ولا معنى للقول إذن بأننا كلنا فاســدون أو متواطئون أو عاجزون أو مُظلِّـلُون بل المعنى، كلُّ المعنى في قولنا: كـلّنا محمد الفهري شلْبـي، كلنا ذاك الرجل، فقد كنا جميعا نتحدث همسا عن الفساد الذي كان يبسط هيلمانه على كلّ شيء، وكأنه يقع خارج دائرة بيوتنا في الهونولولو مثلا أو في جزر الباهاماس، كنا ندرك بوضوح شديد أن النظام فاسد من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه، ولكن بن علي لم يكن عندما يخرج إلى الناس في الشارع يستورد شـعبا من المـريخ أو المشتري أو زحل، ولم يكن يصنع مريديه في مخابز السلطة أو مكاتب مستشاريه، لم يكن رئيس الدولة في حلّه وترحاله إلا محفوفا بالمهرولين فلم تشعر السلطةُ في لحظة أنّ امتعاضا ما يترعرع في الصّمت وأن البوعزيزي الذي سيقدّم جسده النحيل قربانا سيفقأ تلك الفقاعة الكبيرة التي كنا نعيش داخلها مطمئنين إلى بهاء المعجزة التونسية وانبهار الدنيا بها، ولم يكن بن علي ليفكّر لحظة من فرط التصفيق الشعبي الذي يحفُّ به أينما خرج أنّ عرشه محمول على أعمدة من دخان وأن هؤلاء الذين يتغنون بأمجاده ثوار متنكرون في زيّ مواطنين وضحايا يقبعون في أزياء جلادين.

عامر بوعزة