وغابت عنك أشياءوصلت إلى محطة المنصف باي بالعاصمة، ذات عشية رمضانية صُفّدت شياطينها، وكنت قاصدا المطار، فوضعت حقيبتي على الأرض وجلت ببصري في الأنحاء باحثا عن سيارة تاكسي. وما هي إلا طرفة عين حتى انبثق أمامي رجل في العقد السادس من العمر، بلحية خفيفة بيضاء وجبهة عريضة تحليها زبيبة الصلاة. قال: أتبحث عن تاكسي؟ وقبل أن أجيبه ألقى بالحقيبة في جوف السيارة وقال بلهجة حازمة: اركب!
تحركت بنا السيارة تشقّ زحام المساء، وهمّ السائق بالعداد ليشغله، قبل أن يسألني: إلى أين أنت ذاهب؟ قلت إلى المطار، فضحك (وقد تفطن فيما يبدو لسذاجتي) قائلا: أعرف، أعرف، لكن قصدت إلى أين ستسافر؟ وقبل أن أجيبه، قال: آه، ستسافر إلى الخليج بلا شك. قلت: نعم، فمدّ يده ليوقف العداد وقال في لهجة المتسائل: لنجعلها (فورفيه)؟ وكان يقصد أن أجرته ستكون مبلغا جزافيا، قلت: كم؟ ضحك وقال: عشرون دينارا كالمعتاد!
لم تكن يفصلني عن موعد ركوب الطائرة الاّ ساعة واحدة، ولذلك امتنعت عن الخوض في جدال بلا طائل، ورضيت بدفع مبلغ يضاهي ثلاثة أضعاف قيمة العداد. وتعبيرا منه عن الامتنان لي بقبول الصفقة دون جدل وبلا أخذ وردّ خصوصا ونحن في شهر الصيام الذي يصعب فيه الكلام، أكد لي أن الأرزاق بيد الله عز وجلّ، وأن الأقدار هي التي قادتني إليه هذا المساء، وروى لي كيف تخاصم منذ قليل مع سائق آخر اختطف منه بعض الركاب (يؤكد أنه شرطي يشتغل في أوقات الفراغ سائق تاكسي). فأوكل أمره إلى السماء، وها هي تستجيب له بسرعة وتمنحه التعويض المناسب من جيبي أنا!
ليس هذا فقط، فقد اتصل به ابنه ليعلمه بأن الخبز مفقود في مخبزة الحيّ، فنهره قائلا:(مش لازم الخبز!!) لكن بعد دقائق قليلة، وصلت إلى المحطة سيارة أجرة قادمة من القيروان أهداه سائقها خمس خبزات من الحجم الكبير (يرفع السائق هنا يديه عن المقود والسيارة تجري في طريق المطار ليرسم بهما حجم الخبز القيرواني الذي كافأه به الله لقاء صبره وقلة لهفته) بما يؤكد أن باب العرش مفتوح طيلة ذلك اليوم لتلبية طلباته هو دون سائر الخلق..
ولم تكن قصة الخبز المفقود والشرطي الذي يعمل سائق تاكسي إلا مقدمتين ناعمتين للخوض في بحر السياسة، فقد تنحنح محدثي ودون سبب منطقي قال: كل شيء بسبب التطبيع! قلت كيف؟، قال: قيس سعيد لن يطول بقاؤه، (اللي حطوه، يبحثوا الآن على بديل لكن ما لقاوش) قلت من هم؟ قال: ألا تعرف؟ إنها الدول الكبرى، فرنسا وأمريكا وانقلترا وألمانيا و…الخ ثم أردف قائلا: الباجي قايد السبسي جاووه وفي جلسة نقاش مغلقة (لا أدري كيف ألم هو بتفاصيلها) قالوا له: نحن ندفع ميزانية تونس لسنتين متتاليتين المهم أن تنفذ هذا الطلب ، لكنه رفض، ويؤكد محدثي هنا أن هذه التصرف يعتبر من الحسنات القليلة التي وضعت في ميزان الرئيس السابق، قلت: رفض ماذا؟ التطبيع؟ قال: لا، طلبوا منه محاربة الإسلام وإرجاع قادة النهضة إلى السجون، لكنه رفض..
أومأت برأسي موافقا، فقال: طبعا بقية القصة معروفة: لقد قتلوه… هو بنفسه قال لابنه: وضعوا قنبلة في بطني.. والله أعلم من نفذ عملية القتل زوجته أم ابنه.. وبصوت يشبه الهمس أوضح لي أن حافظ قايد السبسي يتعاطى المخدرات، وأنه لا شك قد فعل فعلته تحت تأثير جرعة زائدة…!
ثم ضحك محدثي طويلا وقال: أصدقت أنهم أطردوا راشد الغنوشي من جامع بن عروس؟، أنا أصيل تلك المنطقة وأصلي التراويح في ذلك المسجد وكنت حاضرا يومها.. جاء الشيخ راشد وصلى معنا، لكن أثناء الصلاة تفطن له جماعة (زهير المغزاوي) فجلبوا خمسة أو ستة أطفال لا يتجاوز عمرهم الخامسة عشرة ليصرخوا أمام المسجد (ديقاج)، ويقول محدثي أن الغنوشي صلى في جامع رواد وسط خمسمائة من أتباع النهضة فلماذا لم يطرده أحد من هناك؟!
في تلك الأثناء وصلنا إلى المطار، نقدت السائق أجرته المستحقة، فدسها في جيب سترته وقال لي: احذر من أولئك الحمالة الذين يتصيدون المسافرين أمام أبواب المطار، إنهم محتالون. شكرته على نصيحته الثمينة وقلت له جهرا لا تقلق سأحمل الحقيبة بنفسي، وأضفت سرا: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. فتمنى لي سفرة طيبة، وانطلق مسرعا، وغاب عن الأنظار. أما أنا فقد قاومت طويلا رغبة ملحة انتابتني للكتابة عنه بوصفه نموذجا مثاليا للشعب الصالح لأنه من الصعب إقناع القراء بأن هذه الأحداث حقيقية ولا صلة لها بالسرد والخيال…