التلفزة الوطنيةتعليقا على نقدي بشكل مكثف برنامجا تقدمه التلفزة الوطنية كتب الصديق الصحفي حليم الجريري قائلا:
«أخطأت الزميلة فاطمة البارحة فوبّختَها بطريقتِك وأخطأتْ اليوم فزدتَها توبيخا. هذه السيدة من محترمات التلفزة الوطنية ومن أكثرهن أخلاقا وخُلُقا وحتى مهنيّةً وحيادًا. والذي لا يَعمَل لا يُخطئ، وقد أخطأَتْ مرّتين، ولو عرفت المرأة من قريب لراسلتَها على الخاص لتلومها بَدَلا عن التعبير عن رأيك فيها على رأس الأشهاد، ممّن يتصيّدون الفُرَصَ لثلب كل صحافي من المرفق العُمومي سعيا لتتفيه التلفزة الوطنية والنّيل منها»

ينطبق على هذا التعليق وصف أستاذنا الكبير المنجي الشملي لبعض النقد إذ يسميه «عتاب المودة» لكنه يوحي بأن المسألة شخصية، وأنا لن أنفي ذلك بل سأؤكده. نعم إن المسألة شخصية بالدرجة الأولى! فهذا النقد يتأسس على شعور تلقائي بالغيرة على التلفزة الوطنية، المؤسسة التي تعلمنا فيها أبجديات العمل التلفزيوني وتربينا فيها على قيم الالتزام والمسؤولية. ومن المؤسف حقا أن يبلغ الجيل الحالي من مقدمي البرامج والمسؤولين درجة محيرة من التهاون والتقصير والاستخفاف بمعايير المهنة وانتظارات الجمهور.

إننا نكتب عن التلفزة لأننا نؤمن بأهمية المرفق العمومي وهو الوحيد الذي يستحق أن نكتب عنه، أما تلفزيونات القطاع الخاص فيمكن أن نتعامل معها بمنطق عبد العزيز العروي (بيناتنا فلسة)، ولنلاحظ هنا أن المرفق العمومي هو الذي يتعامل معنا بمنطق (كول والا طيّر قرنك)، فالمشكل ليس في الخطأ بل في الإصرار عليه، إضافة إلى تفشي ثقافة (تضربولي ع الطيارة)  لدى سلالة من المنشطين والمسؤولين يعتقدون أن على رؤوسهم ريشا، وعندما يقع خطأ لا يمكن للسلطة تجاهله ستهرع حتما إلى المدير لإقالته ويظل هؤلاء ثابتين في مواقعهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وهكذا بدل أن يكون المرفق العمومي الذي ندافع عنه جميعا موقعا مميزا للمتميزين، ها نحن أمام تلفزيون اعتقله موظفوه وكبلوا يديه بأغلال التواكل والتهاون وعقلية (مسمار في حيط) التي كرسها الترسيم الإداري الوظيفي في خطط إبداعية كالتقديم التلفزيوني. لا أحد إذن يتصيد الأخطاء لأنها واضحة للعيان ولا أحد يتفه المرفق العمومي إلا أبناؤه! تلك هي المفارقة. ولربما كان النقد المتواصل دعوة لتحرير هذا الموفق العمومي وإعادته إلى ما ينبغي أن يكون عليه وضعه الطبيعي!

المسألة شخصية نعم، فالتلفزة التي أعرفها لا تشبه في شيء التلفزة التي نشاهدها اليوم. لقد تربينا في أروقتها على التنافس والجدية واحترام النقد، ولا علاقة للمسألة بالأخلاق بل بالمهنية واحترام التفاصيل، ولا علاقة للنقد بحياة الإنسان الخاصة وأخلاقه، فالنقد دعامة أساسية للتطور، وأنا أنتمي إلى جيل كان يتلهف على قراءة ما يكتبه علي بالحاج في البيان وما يكتبه عبد القادر المقري في الأخبار وما يكتبه صالح الحاجة في الصريح ونجيب الخويلدي في أخبار الجمهورية، ومحسن بن أحمد في الصباح وشكري الباصومي في الشروق وغير هؤلاء من النقاد الذين صنعوا مجد الصحافة الثقافية والفنية في بلادنا في التسعينات، وهو مجد يعود إلى ثلاثينات القرن الماضي، ولم يفلت من النقد لا حمادي الجزيري ولا صالح جغام ولا نجيب الخطاب ولا رؤوف كوكة، وكل من يظهر على الشاشة عليه أن يتقبل النقد وألاّ يعتبره مسألة خاصة، لأن نقد التلفزيون ليس مضايقة في الشارع تعرضت لها الصحفية وهي عائدة إلى بيتها، إنه شأن عام. والامتعاض من النقد أو تجاهله فيه تنكر واضح لقواعد اللعبة وقوانينها، ومحاولة مكشوفة لتكريس ثقافة اللامحاسبة، وهي ثقافة يتمعّش منها الصحفي الموظف بينما لا يهاب النقد كل صحفي مبدع وموهوب.

إن استقلالية قطاع الإنتاج عن الإدارة في المؤسسات الإعلامية العمومية حق أريد به باطل، فلئن كان تدخل الإدارة في مرحلة ما قبل العرض يعتبر رقابة، فلا شيء يمنع من وجود آلية لتقييم الإنتاج بعد عرضه بغاية توفير الحد الأدنى من الجودة، والتلفزة تفتقر إلى هيكل كهذا، ولذلك تتكرر فيها الأخطاء بشكل غريب ومستفز! والنقد هنا يتضمن دعوة ملحة إلى فعل أي شيء جدي من أجل إنقاذ المركب قبل أن يغرق لأن الذين ينتظرون غرقه كثيرون والذين سيقفزون من على ظهره ساعة غرقه أكثر.